رزحت أمتنا العربية تحت الاحتلال قرابة مائتي عام، سواء أكان هذا الاحتلال مباشرا أو غير مباشر ( أي من خلال حكام موالين له ) وكانت تلك الفترة كفيلة بتدمير مقدراتنا الاقتصادية والعلمية والفكرية والعقدية والاجتماعية والخلقية ، حتى صارت جل بلادنا العربية تعاني نقصا حادا في موارد الغذاء بعد أن كانت تنتج أضعاف ما تحتاجه شعوبها ، وتقلصت مساحتها الزراعية بطريقة لم يعرف لها التاريخ مثيلا ، اللهم في أيام الكوارث الطبيعية ، وهُجّرت المصانع ، وتلاشت الورشات الحرفية ، وتقلص إنتاجنا الصناعي ، واضمحلت فنوننا الصناعية والحرفية التي عرفناها عبر التاريخ ، واختلت أسواقنا الجامعة التي كان يتم فيها تبادل منتجاتنا دون حاجة لجلبها من عند غيرنا .. وتراجع المجال العلمي عندنا ، وصرنا نعتمد على الجامعات الغربية والشرقية حتى في مجال العلوم الإسلامية ، وما زلنا ننظر نظرة إعجاب لمن يحصل على درجة الدكتوراه في علوم التفسير أو الحديث الشريف أو اللغة العربية على أيدي غير العرب وغير المسلمين !!.. وتراجع مع تراجع المجال العلمي الجانب الفكري ، فلم نعد نرى في أمتنا أمثال الغزالي ولا ابن خلدون ولا ابن تيمية ولا بن سينا ولا الفرابي ولا الخوارزمي ولا ابن الهيثم ولا ابن حزم ولا السرخسي وغيرهم .. وبتراجع المجال العلمي والفكري تراجع كنتيجة طبيعية لذلك الجانب العقدي والجانب الخلقي ، فغزت أمتنا كثير من المذاهب الضالة مع سيل من الأخلاق المنحرفة التي لم تعرف بها مجتمعاتنا من قبل لا في جاهلية ولا إسلام.. وقد حرص الاحتلال ومواليه على وأد كل حركة إصلاح تعرقل إفساده في بلادنا ، وكان سبيل مواليه الأوحد هو التنكيل بكل من يحاول أن يوقف سيل تدميرهم وتخريبهم ، وصار لسان حال الملتفين حول كل مصلح يردد مقولة أتباع موسى عليه السلام " أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا " وهو لا يملك غير أن يقول لهم :" عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " [الأعراف/129].. وفي أحايين كثيرة كانت تلك العبارة الموحاة من الله عز وجل تعجز عن إزالة اليأس من قلوبنا ، وخاصة في العقود الأخيرة التي خلّف فيها الاحتلال أعوانه من بني جلدتنا علينا ، وسهّل لهم كل أساليب القهر والبطش بكل من يفكر في الخروج على طاعتهم ، وذلك بكتائب مدججة بأعتى أنواع الأسلحة التي خصصت لتخويف الناس وترويعهم ، مع وسائل تعذيب شيطانية ابتكرها شرذمة من الآلهة المزورة ( ضباط أمن الدولة الذين كانوا يدعون زورا وبهتانا أن الله عز وجل في السماء وهم في الأرض ، أي لهم مثل ما له من السلطان ) وزاد من الأمر طول عمر الحكام الأشقياء الذين استعملوهم ، فمنهم من عمّر في ملكه أكثر من 40 سنة ، ومنهم من عمّر أكثر من 30 سنة ، وكانوا يطمعون في المزيد والمزيد ... ولكن هيهات فإن لله عز وجل سننا يدبر بها الكون غير الأسباب التي نتعامل بها في الدنيا ، ومن تلك السنن الأخذ الأليم لكل من يتجاوز حدوده في البغي والعدوان " وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ " [هود/102] .. ومنها أيضا المنة ( الإعطاء دون مقدمات أو أسباب ) على المستضعفين على أيدي هؤلاء الجبابرة ، كما قال عز وجل :" وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ " [القصص/5].. نعم مَنّ الله عز وجل علينا وخلص أمتنا العربية في شهور معدودة من شر ثلاثة من العتاة قساة القلب ، هم حاكم تونس وحاكم مصر وحاكم ليبيا ، بعد أن ظن كل منا ألا أمل في الخلاص منهم ، وظنوا هم أنهم مانعتهم جيوشهم وزبانيتهم وعتادهم وحصونهم وأموالهم ومن يقف وراءهم من كفرة ومردة الأرض كلها ، فأتاهم الله عز وجل من حيث لم يحتسبوا بأن سلط عليهم الشباب الذين حسبوا أنهم أسكروهم وخنّعوهم ومسخوهم من خلال وسائل إعلامهم المضلة .. شباب صنعهم الله على عينه لتكون نهايتهم على أيديهم ، كما كانت نهاية فرعون وقومه على يد موسى عليه السلام بعد أن حالوا بينهم وبين المصلحين ، حيث أُغلقت أمامهم كل منافذ التربية والإصلاح ، ففتح الله سبحانه وتعالى لهم باب السماء ، وأنار أبصارهم للحق ، وأنزل عليهم السكينة ، وأيدهم بجند من عنده ، وقذف في قلوب أعدائهم الرعب وضرب على سمعهم وأبصارهم فلم يجدوا لنجاتهم سبيلا .. والبقية في الطريق ولن تمر إن شاء الله إلا أشهر أو سنوات معدودة حتى ننعم بتحرر باقي البلاد العربية والإسلامية من العتاة الجبابرة ومخلفات الاحتلال الذي جثم على أنفاسنا قرابة مائتي سنة كما ذكرت من قبل.. ولكن أين نحن غدا ؟ وماذا نحن فاعلون بعد تلك المنة العظيمة من الله عز وجل ؟!! وكيف سنستفيد من تلك النعمة التي أنعم وسينعم بها علينا ؟!!.. وقبل أن ينشغل ذهنك أيها القارئ الكريم والقارئة بالإجابة على هذا التساؤل أذكركما بأن التاريخ يسرد علينا حادثين مشابهين لتلك التجربة التي نمر بها الآن ، تجربة سقوط الطغاة العتاة البغاة أمام المستضعفين .. أما الحادثة الأولى فهي حادثة سقوط فرعون وملأه أمام موسى عليه السلام ومن آمن معه بسنن إلهية خارقة لا يمكن لقوة البشر أن تضارعها ، حيث استدركه المولى عز وجل حتى خرج بكل حاشيته وجنوده من شتى أرجاء مصر ، تاركين أموالهم وأولادهم ونساءهم يتمتع بها عبيدهم ، ليغرقهم جميعا في اليم وهم في حالة من الغرور والكبرياء جعلتهم لا يلقون بالا بقدرة الله عز وجل التي شقّت البحر ورفعت مياهه وأمواجه كالجبال وأبقتها شاهقة لا تسيل منها قطرة واحدة كأنها بنيان محكم سميك ، وقد صور الله عز وجل ذلك في كثير من مقاطع القرآن الكريم ، منها قوله تعالى : " فأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ" [الشعراء/57، 58] وقوله تعالى : " وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ "[يونس/90-92] وقوله تعالى : " فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ" [الأعراف/136، 137]... وأما الحادث الثانية فهي فتح مكة التي كانت مركزا لعتاة المشركين العرب وعلى رأسهم زعماء قريش الذين وقفوا لدعوة الإسلام بالمرصاد ، وأذاقوا المستضعفين من المؤمنين سوء العذاب ، وألهبوا ظهورهم بالسياط والنيران والرمال والصخور الحارقة ؛ حتى اضطروا جميع المسلمين وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم للخروج من مكة ، تاركين أموالهم وديارهم، ، ولكن لم تمض على هؤلاء العتاة عشر سنوات حتى انهارت قوتهم ، ودخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون فاتحين ، فصار كل جبار عنيد منهم ذليلا لا يجد في الأرض كلها ما يحتمي به إلا من كُتبت له الهداية منهم، وصار صاحب الجاه والسلطان لا يجرؤ على أن يخرج من مزرعته التي اختفى فيها عند دخول الجيش الغازي ليعود إلى داره إلا برفقة واحد من أولئك المسلمين الذين كانوا مستضعفين من قبل !!.. وإذا كان موقف الفرقتين ( المؤمنون مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبنو إسرائيل مع موسى عليه السلام ) متشابها من حيث وقوع الاضطهاد عليهما من القوى الباغية ، ومن حيث تدخل العناية الإلهية لنصرتهما ، فإن موقفهما اختلف تماما تجاه تلك العناية الإلهية التي تدخلت لنصرتهما ، ومستقبل كل منهما ، فبينما لم يمر على الطائفة الثانية ( بني إسرائيل ) ساعات أو أيام حتى انقلبوا على موسى عليه السلام وأشركوا بربهم الذي أنجاهم من بطش فرعون ، كما قال المولى عز وجل :" وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ " [الأعراف/138] ثم رفضوا أن يدخلوا بيت المقدس ليؤدوا رسالتهم فيه ويعبدوا الله وهم آمنون حين أمرهم موسى عليه السلام قائلا : " يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ" [المائدة/22].. فكانت النتيجة الطبيعية لذلك أنهم لم يستفيدوا شيئا من زوال طغيان فرعون وملأه ، فلا هم بقوا في مصر يأكلون من خيراتها بعد زوال المستعبدين لهم ، ولا هم دخلوا بيت المقدس فتكون لهم به السيادة والمجد ، وإنما ضرب الله عليهم التيه في الصحراء 40 سنة ؛ جزاء عصيانهم وفسقهم ، كما قال الله عز وجل :" قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ "[المائدة/26] .. أما المؤمنون مع النبي محمد صلى الله عليهم وسلم فقد ازدادوا إيمانا على إيمانهم لما رءوا موعود الله سبحانه لهم ، فأتم الله عليهم فتح ما وراء مكة حتى دانت لهم الجزيرة العربية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لتمتد مساحة دولتهم خلال قرن واحد إلى أعماق بلاد الروم والفرس والترك والصين والهند .. وهنا أعيد سؤالي الذي طرحته من قبل : ماذا نحن فاعلون وبعد أن رأينا التجربتين التاريخيتين المتشابهتين في المقدمات مع نعمة النصر والتمكين التي بدأت روائحها تهل علينا ؟!! هل سنختار التجربة الأولى ( تجربة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام ) فتفشل ثوراتنا نتيجة اختلافنا على أنفسنا ودخولنا في صراعات جوفاء وجدال عقيم وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فننتقل لحالة قد لا تقل سوءا عن الحالة التي كنا عليها زمن الطغيان ؟ !! أم سنختار التجربة الثانية ( تجربة المسلمين مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ) فنتعاون على البر والتقوى ، ونجعل مصلحة البلاد والعباد فوق مصالحنا الشخصية ، ونتفانى من أجل النهوض بأمتنا وتعمير بلادنا والرقي بها ؛ حتى يعمها الرخاء ورغد العيش والعدل والمساوة والألفة والحب مهما اختلفت انتماءاتنا. والسؤال مطروح للجميع !! *مدير موقع التاريخ الالكتروني