الإنسان – في مصر على وجه الخصوص- في حاجة إلى الترويح عن النفس بين وقت وآخر، يتغافل فيه عن المشكلات التي تملأ رأسه ولا تفارق تفكيره. وقد وجدت في طبعة جديدة لكتاب "كليلة ودمنة" خير متنفس وخير متاع للعقل. ومن منا لا يعرف أن في هذا السفر الحكمة والموعظة الحسنة التي أجريت على لسان الطير والحيوان الذين يبرآن مما يقترفه الإنسان في حق نفسه وفي حق الآخرين. قرأت فيه قصة أعجبتني سأوردها بشئ من التصرف. في مكان ما يعيش ابن آوى متعففا متنسكا وذاع صيته في الورع والزهد وعرف بأمره ملك السباع، فأرسل إليه ودعاه إلى صحبته لأنه بحاجة إلى مستشار مخلص نزيه، ووعده بأنه سيكون لديه آمن مكين. قال ابن آوى للملك... من حق الملوك اختيار أعوانهم، ولكن من غير أن يكرهوا أحدا على ذلك، وأنا كاره، وأنت لديك ما هم أفضل مني. ولكن الملك أصر، فقال ابن آوى... إن من يستطيع صحبة الملك رجلان لست أنا بواحد منهم، إما فاجر متزلف، وإما مهين مغفل. أما من أراد صحبة الملك بالصدق والنصيحة فقلما تستقيم له الصحبة لأنه سيجمع عليه عدو الملك وصديقه بالحسد والعداوة. قال الأسد... لا عليك، إنى كافيك. وبعد حوار طويل ممتع قبل ابن آوى واشترط ألا يعجل الملك عليه إذ اغتابه أحد قبل أن يتثبت، فوافق الملك، وأصبح ابن آوى مستشار الملك ومعاونه، فثقل ذلك على الحساد، وأتمروا ليحملوا الملك عليه ويهلكوه. قام المؤتمرون بسرقة وجبة لحم- طعام الملك- وخبئوها في بيت ابن آوى. طلب الملك طعامه فلم يجده، وكان ابن آوى غائبا، أما المؤتمرون الماكرون فحاضرون، وتطوع أحدهم ليخبر الملك بأن ابن آوى ذهب باللحم إلى منزله، وأفاضوا في المكر حتى وقع ما قالوه في نفسه وأوغروا صدره. أرسل الملك من يفتش منزل ابن آوى، ووجد اللحم عنده. هنا قال المؤتمرون لا مناص من معاقبة ابن آوى وإلا لا جدوى من اطلاع الملك على خيانة خائن، فقرر الأسد قتل ابن آوى. علمت أم الملك بالأمر فسألت ابنها عن الذنب الذي من أجله سيقتل ابن آوى، فأخبرها به. قالت الأم لابنها... لماذا تتعجل، وليس أحوج إلى التؤدة والتأني من صاحب السلطة وإلا فالخطر جسيم. واستطردت الأم... اعلم يا بني إن الملوك إذا استمعوا إلى غيرهم عما يجب مباشرته بنفوسهم دعوا الفساد إلى نفوسهم، وابن آوى كما عرفته يؤثر منفعتك على هواه. بعد التحري والفحص اقتنع الملك ببراءة ابن آوى. هنا قالت الأم... أما وقد تبينت براءة مستشارك وعرفت جرأة أصحابك عليه فلا ترضين بذلك منهم، ولا تغترن بسلطانك عليهم، فيدعوك ذلك إلى التهاون بأمرهم، وعليك أن تعد لابن آوى منزلته. دعا الملك ابن آوى واعتذر له قائلا... إن الذي كان زاد فيما كان من ثقتي بك. رد ابن آوى قائلا... إنك لم تتفضل على بالثقة، وإن ما كان قد أفقدني الثقة بك بسبب ما ظهر منك من سرعة استجابتك لأهل الكذب والنميمة، وما كان لك-أيها الملك- أن تثق بهذه الأصناف، فهؤلاء أعداؤك وأعدائي وقد مهدت لهم السبيل إلى والاستخفاف بي والجرأة علىّ، وقد سبق أن نبهتك إلى هذا. قال الملك... ما أغلظ كلامك، فرد ابن آوى... إني قلت ما قلت لأن في القصاص تسلية وتطهير للنفس من الحقد، فأنا أريد أن أخرج ما في نفسي ليسلم لك صدري؛ ثم قد يقال لك أيها الملك إن ابن آوى سيحمل ضغينة تجاهك بسبب اتهامك له، وهنا يجد أهل المكر والنميمة موضعا آخر يجدون به مدخلا فيما بيني وبينك. قال الملك... أنت لست من يصدق عليه القبيح بعد اليوم، وأنا منزلك عندي منزلة الكرام، والكريم تنسيه الخلة الواحدة من الأحسان ألف خلة من الأساءة. * * * * هكذا كما نرى... أهل السوء على كثرتهم ووفرتهم يؤذيهم أن يحسن الناس ولا يطيقون بينهم واحدا من أهل الخير، فهو كالنور الفاضح الذي يعمي أبصارهم ولابد من إخماده ليرتعوا في الظلام وهم يعرفون سبلهم فيه. ما أحوج كل من بيده سلطة إلى أن يقرأ هذه المواعظ ويعيها لعله ينتصح بها لتستقيم لديه الأمور.