فوجئ فقهاء المسلمين – على اختلاف مذاهبهم الفقهية – بالثورة الإعلامية التي أحدثتها شبكة الإنترنت والفضائيات التليفزيونية، ووجدوا أن هذه المتغيرات الضخمة التي تؤثر في هوية الأمة لا يمكن التغافل عنها أو الغياب عن ساحتها. أخذ الفقهاء يبحثون من جديد في بعض الإشكالات الفقهية الملحة كحكم التصوير وظهور المرأة ومشاركتها الإعلامية والموسيقى والمؤثرات الصوتية وحكم التمثيل والأعمال الدرامية وحكم من ينطق بكلام الكفر تمثيلا وحدود الإبداع الفني وحكم تشخيص الصحابة وآل البيت وغيرها من المسائل التي لا تحتمل تأجيلا. إن الصدمة التي أحدثتها الثورة الإعلامية الحديثة كانت ضرورية للدفع باتجاه صناعة إعلام إسلامي، لكن هذه الصدمة جاءت متأخرة خمسين سنة على أقل تقدير هي عمر الغياب الكامل للإعلام الإسلامي عن منابر التوجيه في المجتمعات العربية كلها بلا استثناء. لقد نشأنا في أجواء تتبوأ فيها الثقافة الغربية وحملات التغريب الممنهجة كل وسائل الإعلام من إذاعة وتليفزيون وصحافة. كانت هناك فقرات دينية – من باب ذر الرماد في العيون – يبدأ ويختتم بها البث الإذاعي والتليفزيوني في نصف ساعة ، ثم على امتداد عشرين ساعة تقريبا يتم بث مواد تناقض تعاليم الإسلام وأخلاقه وهديه، بل وفي بعض الأحيان تسخر من قيمه وأصوله. كانت الأفلام والمسلسلات الأجنبية المترجمة والمدبلجة وأحاديث رواد "التنوير" تمثل غزوا ثقافيا، ثم جاءت من بعدها القنوات المتخصصة في الأغاني والفيديو كليب والأفلام والمنوعات لتغير على أخلاق الأمة وشبابها من الجنسين، من خلال هجمة إباحية مسعورة تدغدغ الغرائز وتشيع الفاحشة بلا حدود. مثل الانفجار الفضائي بمئات القنوات التليفزيونية تهديدا مباشرا لهوية الأمة وقيمها وأخلاقها، وصار الإعلام ملوثا بفيروسات تفتك بجسد الأمة وتنهك استعدادها لأي نهضة حضارية. ولقد شعر كثيرون من الوطنيين في مصر وتونس بعد الثورة بخطورة الوضع الإعلامي الراهن، فقد وجدوا الإعلام الحكومي كسيحا ضعيفا ومُخترقا، بينما الإعلام الخاص تمتلكه حفنة من رجال الأعمال لم تعرف عن "صناعة" الإعلام إلا أنه يقدم "سلعة" هدفها جني المال أو تحقيق الوجاهة السياسية بامتلاك منابر التأثير في الرأي العام، فأصبح الجشع بلا حدود وتنصل ملاك الإعلام الخاص من كل مسئولية اجتماعية وتترسوا بمقولة "الجمهور عاوز كده" ليبرروا خيانتهم للمجتمع إلا من رحم الله منهم. لقد نشأ الإعلام الإسلامي في السنوات الأخيرة في ظل ظروف صعبة، وتعلم – في معظمه – بالتجربة والخطأ وغابت عنه الرؤية والمنهج ولكنه في مجمله آخذ في التحسن، وظهرت مبشرات في بعض إنتاجه، منها برنامج الوسطية الجماهيري وبرنامج "علمتني الحياة" كلاهما للإعلامي المجتهد طارق سويدان، والبرامج الحوارية والتعليمية بقناة المجد وبرنامج "خواطر" في قناة الرسالة بحرفيته العالية وإعداده الجيد، والمسابقات القرآنية واللغوية بقناة الفجر، وبرنامج "البساط أحمدي" للراحل د. يحيى الأحمدي بقناة الناس، وغيرها من النماذج التي تبشر بتوفر الإمكانيات البشرية والفكرية لتقديم بديل إعلامي ملتزم وجذاب. إن أول إشكالية يواجهها الإعلام الإسلامي هي تحديد المؤدي والمحتوى لهذا الإعلام، بمعنى: هل يجب أن يكون مقدم أو مؤدي المادة الإعلامية "شيخا"، ثم هل من الضروري أن يكون محتوى المادة الإعلامية مستقى من الشريعة أم يُكتفى بأن يكون متوافقا معها أو على أقل تقدير غير متعارض مع مقاصد الشريعة ؟. تأتي بعد ذلك الإشكاليات الساخنة، مثل دور المرأة الإعلامي وحكم الدراما التمثيلية والفرق بين معازف الموسيقى والمؤثرات الصوتية وحكم المجسمات في أفلام الأبعاد الثلاثية (3D). سنحاول الإبحار برفق وحذر في هذه الإشكاليات آملين في فتح حوار فقهي وإعلامي يثري دور الإعلام الإسلامي ويجعله أكثر فاعلية. ولعل نظرة سريعة إلى الوراء تكشف لنا كيفية تعاملنا في الماضي مع بعض هذه الإشكاليات وكيف نشأ لون من النضج الفكري والفقهي حولها. كانت مجلة المنار لصاحبها الشيخ محمد رشيد رضا أكبر محاولة جادة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لتقديم صحافة إسلامية تتميز بقوة العرض وثراء المحتوى وامتلاك الأدوات الإعلامية المعروفة آنذاك، وأصبحت بسرعة صنوا لصحافة تغريبية قوية تمثلت في الأهرام والمقطم وغيرها، وكانت أول صحافة مصرية يتخطى تأثيرها النطاق المحلي إلى التأثير الإقليمي بل والدولي. وقد عاب تلك التجربة الرائدة اعتمادها على فرد واحد هو مؤسسها ومالكها، وعدم انتقالها إلى كيان مؤسسي يضمن استمرارها، ولذلك تعثرت بعد وفاة الشيخ رشيد رضا ولم تفلح جهود الشيخ حسن البنا بعد ذلك في الإبقاء عليها، وكان الدرس الغالي الذي تعلمناه أن يكون الإعلام مؤسسيا، وألا يخضع لهوى ومزاج ملاكه، بحيث يتحول لدكاكين إعلامية تختفي بعد حين. ومع ظهور التليفزيون منذ أكثر من خمسين عاما، ظهرت إشكالية فقهية شهيرة قضت على أي محاولات مبكرة لإيجاد دور إسلامي في هذه الوسيلة الإعلامية البالغة التأثير. تلك الإشكالية كانت حول حكم التصوير وهل يجوز ظهور العلماء والدعاة أمام كاميرات التليفزيون. كانت النصوص الفقهية الصارمة التي تحرم تصوير كل ذي روح، آدميا كان أو غيره، وهتك الستور التي فيها الصور، والأمر بطمس الصور ولعن المصورين، وبيان أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، كانت هذه النصوص مانعة لكثير من الإسلاميين من المشاركة في هذه الوسيلة الحديثة الوافدة. من ذلك جملة من الأحاديث الصحيحة الصريحة كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله تعالى قال "ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة". وقوله عليه الصلاة والسلام "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون"، وقوله "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم"، وقوله " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة "، وقوله أيضا "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ"، وأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور". وقف أكثر الفقهاء أمام هذه النصوص فأفتوا بالمنع والتحريم لظهور الإسلاميين في التليفزيون، واذكر أن الشيخ يوسف القرضاوي كان يقف وحيدا تقريبا منذ أكثر من أربعين سنة في الفتوى بإباحة التصوير الفوتوغرافي والتليفزيوني، ثم مال إلى رأيه العلماء تباعا تحت ضغط الواقع حينا أو لعموم البلوى أيانا أخرى، ولكن كثيرا من الفقهاء أخذوا يراجعون الموقف الفقهي نفسه. لقد ظهر لكثيرين منهم فيما بعد أن مناط التحريم في هذه النصوص الصارمة، هو العلاقة المباشرة بين الشرك وعبادة التماثيل، التي هي شكل من أشكال التصوير، وأن سد الذرائع أمام الأصنام والوثنية الشركية كان السبب في تحريم التصوير. أعاد الفقهاء النظر في حكم التصوير، فقصروا تحريم التصوير، على المجسّم منه فقط، مثل النحت وصناعة التماثيل. كان هذا الاجتهاد الفقهي، فاتحة لإعادة النظر في إشكاليات أخرى بدت وكأنها عائق أمام نهضة إعلامية إسلامية. د. محمد هشام راغب http://www.facebook.com/Dr.M.Hesham.Ragheb