استشف من إصرار الإخوان والمتعاطفين معهم على مواصلة طريقهم، ومن لغتهم، ونمط تفكيرهم أن هذا الخصم الذي يتواجه مع السيسي ونظامه ليس هينا. ومهما كانت عوامل القوة التي في أيدي السيسي، ومهما كان تراجع الخصم والضربات التي تُوجه له إلا أنه ليس ضعيفا إلى حد الزوال والموات، لا يجب التهوين من شأنه، ولا التقليل من حجمه، وتمسكه بمطالبه حتى لو كان بعضها تجاوزه الواقع ، وكذلك حديثه الذي ينحو نحو التشدد خصوصا ما يتعلق بقضية الدم، وتجد في تركيبته كل الأعمار، ومختلف الفئات، وألاحظ تصاعد مستوى العنف اللفظي في التعبير عن الرأي، وهذا يكون نتيجة طبيعية لمناخ الإقصاء والكراهية والشعور بالظلم أحيانا في أي مجتمع، أو هو صورة من صور التطرف وعدم الاعتدال . الإسلاميون وفي القلب منهم الإخوان ليسوا طرفا سهلا يمكن التهامه، وهم منذ 3 يوليو وحتى اليوم مازالوا موجودين، ولهم تأثير حتى لو كان سلبيا، فالأنشطة الاقتصادية والاستثمارية والسياحية ليست بالمستوى المأمول والأوضاع الداخلية مرتبكة، والعالم الخارجي ورغم انفتاحه على السلطة الجديدة إلا أنه مازال حذرا ولا يريد احتضانها بالشكل الكافي. لم ينتهي الإخوان والمتحالفين معهم في غضون أيام أو أسابيع بل دخلنا العام الثاني والدولة بمختلف قواها الخشنة والناعمة تواجههم، ومع ذلك لم يتم القضاء عليهم، الأفكار والأيدلوجيات تظل باقية ولا تزول ، وعندما نتحدث عن تراجع التظاهر في الأيام العادية وأيام الجمع فذلك لأننا نتحدث عن مظاهرات ممتدة منذ 15 شهرا، ولو كان المتظاهرون من الجبال لشعروا بالتعب، علاوة على القبضة الأمنية والانتشار الأمني الكثيف في القاهرة والمحافظات ليس بهدف استعادة الأمن فقط إنما لعدم إعطاء أي فرصة لأي تجمع احتجاجي ولو محدود العدد، والسلطة كما لا ترحم الإخوان فإنها لا ترحم حلفائها من الشباب الذين أرادوا اختبار مدى جديتها معهم بعد تمرير قانون التظاهر، وكانت النتيجة دخولهم السجن. معارضة السيسي لا تقتصر على تحالف الإخوان وهو الأقوى، لكن هناك معارضات أخرى من كيانات شبابية مسيسة بسبب التضييق عليهم، وكيانات أخرى غير منظمة ولا مسيسة وأصيبت بالاحباط من عدم حدوث التغيير الذي كانت تحلم به ، ومعارضة من فئات شعبية بسبب الغلاء وصعوبة العيش، لكنها مكتومة. ورث السيسي التركة برضاه لكن الأداء العام في عهديه الأول حينما كان وزيرا للدفاع وكلمته مسموعة ثم بعد أن صار رئيسا رسميا يأتي عكس ما كان مأمولا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، والقبضة الأمنية تلحق به أضرارا كثيرة لن تنتهي إلا إذا خفف من ثقلها بنفسه وكمية الدماء التي سالت لا يجب التهوين منها أو تجاهلها أبدا حتى لو كانت من ألد أعدائه لأنها دماء لمواطنين مصريين ولا يمكن للسيسي أن يظل يحكم متناسيا ذلك الدم طويلا وهو عندما ينصف الدماء فإنه ينصف نفسه أولا ويحررها أخلاقيا وسياسيا على الأقل من ذلك العبء، لا أحد يختلف على ضرورة مواجهة من يحمل السلاح، لكن ماذا عمن لم يحمل السلاح ووجدته أسرته صريعا، لا أحد يتجاهل دماء الشرطة والجيش فهي دماء مصرية عزيزة لها عصمتها وحصانتها بحكم طبيعة عملها، لكن عصمة الدم هي للمواطن العادي أيضا، وهناك قانون يحاسب وهناك عدالة واتمنى أن تعيد سلطة العدالة تقييم الأوضاع الماضية بشكل عام حفاظا عليها وعلى نزاهتها وسمعتها دوليا بأن تؤكد وبشكل قاطع استقلاليتها وأنها بعيدة عن التأثر أو التوجيه السياسي فهذا مفيد لها وللنظام ولمصر. ليس بعيدا عن ذلك افتتاحية "نيويورك تايمز" الأخيرة التي جاءت عاصفة ضد السيسي، ولا يجب أيضا التهوين منها لأن الصحف الأمريكية الكبيرة تعكس توجهات مراكز صناعة القرار هناك، وتلك المراكز تخطط وتسعى للحفاظ على المصالح الأمريكية بأي ثمن، ومثل هذا النقد الحاد ربما يشير إلى شيء ما في عقلية الإدارة الأمريكية. ما قالته "نيويورك تايمز" عن الحريات والديكتاتورية وأن عصر مبارك كان أفضل يُقال قبل أن تكتبه تلك الجريدة ولا أدري كيف يفكر المحيطون بالسيسي، وماذا يقولون له وهو نفسه رجل المخابرات المهتم بالمعلومات وتحليلها بأمانة ودقة، هل لديه رؤية دقيقة للوضع العام غير المريح في مصر، وهل يكفي أن قطاعات شعبية مازالت تدعمه وتثق فيه، وكيف يضمن استمرار هذا الدعم ومستويات حياتها لا تتحسن حتى الآن، وماذا عن القطاعات الأخرى الصامتة والغاضبة والمحتجة؟. قرار السيسي في مواجهة تلك الملفات الصعبة يتطلب منه شجاعة التحرك والتحرر من أي قيود تكبله ودون إبطاء بإنصاف كل الدماء وتخفيف القبضة الأمنية وتفعيل دولة القانون قولا وفعلا، وإيقاف انتهاكات حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير وصيانة الحريات الفردية والعامة وتصفيه السجون وتوجيه رسالة قاطعة حاسمة بأن السلطة بعيدة عن القضاء ولا تريد منه شيئا، وسد ماسورة الإعلام التي تدفع بكل ماهو آسن وعطن لتعميق الاستقطاب والانقسام وجعل الشعب شعبين يتقاتلان ، والشروع في تمهيد الأرض مع الخصم الإخواني لوضعه أمام خيارين : التحاور للتصالح، أو رفض التصالح لإقامة الحجة عليه، وأقول تصالح مشرف وليس استسلاما ولا إذعانا. ومن ارتكب جريمة مكانه العدالة. الوضع ليس سهلا، فالبلد كبيرة ومتخمة بالأزمات الكبرى، ولن تُحل في مناخ الكبت ، بل في مناخ الحرية المنضبطة، وبتكاتف وطني واجتماعي وفي هدوء، وفي ظل عدم إقصاء أو نبذ . لا يتصور السيسي أن المجتمع في مصر مثل المجتمعات في دول الخليج، فهناك شيء يرضي الناس فيها، وهو مستوى العيش المعقول، أما هنا فلا يوجد هذا المستوى من العيش علاوة على أن فضاء الحرية والسياسة صار يضيق. تجاهل أن هناك خصم عنيد، وتجاهل أن هناك أوضاعا اجتماعية واقتصادية صعبة وأن هناك انغلاقا سياسيا ليس في مصلحة النظام. عليه أن يبادر بحل تلك العقد واحدة بعد الأخرى حتى يستطيع الجلوس على كرسيه مطمئنا وتستطيع عجلة العمل أن تدور وينفتح العالم عليه أكثر.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.