أولاً: التهنئة للنائب السابق محمد العمدة على خروجه من السجن، ونتمنّى أن يخرج جميع الأبرياء إلى الحريّة. ثانيًا: من قاسى ويلات السجن والبقاء خلف القضبان وسلب الحرية لا يجب أن يطعن أحد في شخصه ولا في نوازعه ومنطلقاته وعزيمته وصلابته ووطنيته خصوصًا من أولئك الذين آثروا الفرار ويُمارسون النضال من الفنادق ويعيشون حياة مرفهة مع تفهمي في نفس الوقت أن بعضهم لم يكن يريد ذلك وأنه في حكم المُضطر. ثالثًا: أنا من فريق مهتم بقضية المصالحة الوطنيّة ليس منذ اليوم ولكن منذ شهور طويلة وكتبت مرارًا في هذا الاتجاه وأحدث مقال منشور لي يوم الأحد الماضي بعنوان: "ماذا بعد انسحاب الوسط؟" وأكدت فيه موقفي بضرورة تفاوض تحالف الشرعيّة - أو الإخوان باعتبارهم أساس هذا التحالف - مع السلطة ولو عبر وسطاء أولاً للوصول إلى تقارب وتفاهم للعودة للساحة ليكونوا جزءًا من العملية السياسية وبناء الوطن لكن بضمانات عدم النكوص وإثبات جديتهم وإدانتهم تمامًا للعنف أو التحريض عليه والعمل السياسي وفق آليّات وقواعد السياسة وعدم خلط الدين بشكل فجّ بالسياسة، أما محاسبة من تورط فعلاً في العنف والدم أو التحريض عليه فأمره متروك للقضاء المستقل العادل النزيه. عمومًا هذا كلام سابق لأوانه فالمهم أن تكون هناك رغبة جادّة من التحالف ومن السلطة ومن يصطفّ مع كل طرف من أحزاب وقوى ونخب وجمهور في التلاقي كخُطوة للتصالح، وهذا سيُساهم في التخفيف من التوتر والاحتقان والانقسام في المجتمع، فجمهور كل طرف عندما يرى قادته والفاعلين فيه يرغبون بطيّ صفحات مؤلمة سيكون ذلك حافزًا له للهدوء والترحيب بالمصالحة. ومن هنا فإن مبادرة النائب السابق محمد العمدة هي خطوة طيّبة ومقدرة ومشروعة باعتباره يسعى لمحاولة حل أزمة عنيفة ومعقدة تُعطل الوطن بالفعل وتجعله قلقًا باستمرار وتجعل عودة الهدوء والاستقرار الحقيقي بعيد المنال، فلا السلطة الجديدة ستستطيع إنجاز برامجها ومشاريعها كما تريد في هذه الأجواء مهما كانت مدعومة من فئات شعبية ومن عواصم إقليميّة، ولا التحالف ومن معه سيقدرون على إسقاط تلك السلطة وتغيير الوضع على الأرض. لكن للأسف استقبل قادة في التحالف مبادرة العمدة بالنقد والرفض وكالعادة صدر بعضهم اللاءات المشهورة ورفع الشعارات المعروفة بأنه لا اعتراف ب 3 يوليو وكل ما جرى بعده، وأنه لا بدّ من العودة إلى ما قبل هذا التاريخ، وهذا مطلب ليس صعبًا فقط بل يكاد يكون مستحيلاً، فالقطار فعلاً لن يعود للوراء إلى محطته الأولى، وهذه خلاصة 14 شهرًا لم تُفضِ لشيء إلا لمزيد من القبضة الأمنيّة والتعطيل العام للبلد. إذا كانت هناك نواقص في مبادرة العمدة فيمكن استكمالها بدلاً من رفضها والسخريّة منها والطعن في نوايا وتوجهات صاحبها والتشكيك فيه، وعلى الجانب الآخر من فريق الساسة والنخب الذي يتزلف ويتقرّب للسلطة فهناك من خرج رافضًا المبادرة وتهكم عليها وشكك أيضًا في صاحبها، والأجدى لهؤلاء ولمصلحة الوطن التجاوب مع المبادرة والترويج لها لدى جمهوره إذا كان له جمهور، وليس أن يصبّ مزيدًا من الزيت على النار لتبقى مشتعلة مدفوعًا بكراهيته للإسلاميين أو رغبة منه في أن تخلو الساحة له ليلعب فيها كما يشاء بعد إقصاء خصم سياسي مؤثر بينما هو بلا وجود ولا تأثير. لا يعنيني ما دبجه العمدة في التصدير لمبادرته، بل توقفت أمام بندين فيها الأول هو: اعتبار فترة رئاسة السيسي مرحلة انتقاليّة، وخلال هذه المرحلة يتم التفاهم بين الجيش وجماعة الإخوان بحيث يصبح الاثنان في حالة من التعاون لصالح مصر وليس في حالة منافسة كتلك التي أسقطت الشرعية. هنا أقوم بتوسيع البند بأن يتم التفاهم بين الإخوان وكل القوى السياسية إسلامية ومدنية مع المؤسسة العسكرية لأن تلك المؤسسة لن تخرج من المشهد السياسي بل ستبقى فاعلة فيه وخصوصًا في تلك الفترة الخطيرة داخليًا وإقليميًا، سيظلّ الجيش لاعبًا أساسيًا ومهمًا في السلطة والحكم ومن يفكر عكس ذلك أو يحاول إبعاده فهو واهم، وعمليًا أثبتت القوى السياسية كلها إسلامية ومدنية وشبابية بعد ثورة 25 يناير أنها لم تكن مستعدّة أو على مستوى تحديات إدارة رشيدة للفترة الانتقاليّة لبناء دولة مدنية حقيقية حيث دخلوا جميعًا في صراع طفولي من أجل السلطة وإقصاء كل طرف للآخر، لم يُبرهنوا على مسؤولية حقيقية ولم ينجحوا في بناء توافق وطني كما فعل التوانسة الذين تخطوا صعابًا وعقدًا لتصل مركبهم إلى شواطئها بأمان. ليبقى الجيش حارسًا وضامنًا للديمقراطية، هذه هي الواقعيّة، وغير ذلك فلا محل له من الإعراب. البند الثاني الذي توقفت أمامه في المبادرة هو: "القصاص لجميع الشهداء الذين استشهدوا منذ 25 يناير وحتى الآن"، وأن يتم ذلك "من خلال تشكيل لجنة تقصي حقائق مُحايدة، يرتضي بها ذووهم والأحزاب التي ينتمون إليها لتحدد المسؤولين عن إراقة الدماء وتقديمهم للمحاكمة". وأنا لا أملّ من ضرورة إنصاف الدماء فلن يهدأ قطاع من المجتمع ويتسامح إلا بترضية أولياء الدم من جميع المصريين، مواطنين وشرطة وجيشًا، وقد طرحت يوم 18 أغسطس الماضي تجربة مملكة البحرين في هذا الإطار حيث شكلت لجنة تحقيق مستقلة ترأسها قاضٍ مصري دولي عتيد وكبير هو محمود شريف بسيوني وأنتجت تقريرًا مستقلاً نزيهًا محايدًا بشأن العنف والدم الذي سال خلال حراك المعارضة في 2011، وقد رضيت السلطة بالتوصيات كما هدأت المعارضة لأنها وجدت إنصافًا للدماء. وقد طالبت بتكرار التجربة في مصر ولو من خلال نفس القاضي الجليل لتكون لجنة مُحايدة فعلاً لا شبهة علاقة لها بالسلطة كاللجنة الحاليّة وليكون عملها حسب مبادرة العمدة منذ 25 يناير وحتى اليوم. اللهم احفظ مصر، واحقن دماء المصريين، ووفق أصحاب النوايا الحسنة لما فيه مصلحة الوطن وتحية للعمدة على مبادرته سواء نجحت ام لا. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.