أخيرا امتلك الشاب البسيط مبلغا محترما ، استطاع أن يوفر من كد يديه وعرق جبينه خمسمائة جنيه ، رغم أنه عامل كادح إلا أنه نزيه يحب أن يكون مظهره حسنا نظيفا ، كان يفعل ذلك في حدود إمكانياته ، يعني قميص وبنطلون من الوكاله وحذاء نصف عمر ، لكنه رزق عملا جيدا في الأسكندريه وأكرمه الله بهذا المبلغ الذي تبقي معه بعد مصروفاته الخاصة والمبلغ الشهري الذي يرسله لوالدته ، أثناء تجوله في شوارع الأسكندريه الجميله لفت نظره ذلك المول التجاري الضخم بأنواره المتلألئة وفخامته المبهره ، وبسرعة اتخذ قراره الجرئ سوف يدخل المول ويشتري لنفسه زيا فاخرا مثل أولاد الناس ،لابد أن يكون لديه ولو طقما واحدا نظيفا يرتديه في المناسبات ،وخاصة تلك المناسبة التي يتمناها منذ زمن عندما يتقدم لطلب يد فتاته ،تلك الفتاة الطيبة الحنون البسيطة مثله ،لابد أن يشرفها وينتزع إعجاب أهلها و أقاربها ، دارت رأسه داخل المول وهو يتأمل الناس أكثر مما يتأمل المعروضات ،من أين أتوا ؟ وما كل هذا الترف والسرف الذي يرفلون فيه ، طعام وشراب وموبايلات وملابس فاخرة ونعمة تطفر بها وجوههم المتوردة ، وبطر ينز من عيونهم الملول اللامباليه ، من أين جاءت ثقتهم بأنفسهم كأنهم حازوا الدنيا وما عليها ؟ هل يتعبون ويكدحون مثله ؟ لا أيديهم ناعمة ونظراتهم متغطرسة لا تعرف الانكسار ، سبحان مقسم الأرزاق والحمد لله علي كل حال ، المهم الستر ، تناهي إلي سمعه نغمات موسيقيه غربيه ذكرته بأغنية شعبية قفزت لذاكرته و أخذ يرددها بصوت خافت ويحاول ان يجعلها تتماشي مع الموسيقي ، ما تستعجبش ماتستغربش فيه ناس بتتعب ولا تكسبش وناس بتكسب ولا تتعبش ، توقف أخيرا أمام محل ملابس يعرض بنطلون يراه مناسبا له تماما رغم سعره المرتفع ،خمسة وتسعين جنيه نظر له البائع متشككا وأكد له السعر ،ثمنه تسعمائة وخمسون جنيها ، ألقي الفتي البنطلون بفزع وخرج وهو يردد شكرا شكرا ، وودعه البائع بابتسامة مشفقة مع السلامة . لايكاد الفتي يصدق أذنيه باكو البنطلون ثمنه باكو لا داعي له ، أؤجله لحين عودتي واشتريه من المحل المجاور لبيتنا ، المهم القميص والحذاء الرياضي ، القميص سعره ستمائة جنيه لماذا مصنوع من خيوط الذهب ؟ تصبب العرق البارد علي جبين الفتي وتسارعت ضربات قلبه ، حاول تهدئة نفسه المهم الحذاء فقط ، قالوا له في محل الأحذية الحد الأدني لدينا خمسمائة وستون جنيها وأجابوا علي دهشته بنظرة استعلاء هذا توكيل . خرج يجر قدميه كل شقاؤه وتعبه لايساوي حذاء؟ ماذا يمكنه أن يشتري بثروته التي كان سعيدا بها ؟ لاشئ ،هو نفسه لاشئ تسارعت أنفاسه وغامت الرؤية أمام عينيه وترنح وسقط . ونشرت جريدة الأهرام في يوم الجمعة الماضي خبرا صغيرا في ذيل صفحتها الأخيرة يقول فوجئ رواد أحد المراكز التجارية بمنطقة الرمل بالإسكندرية بأحد الزبائن يتمايل وسط أقسام المركز التجارى ويشكو من ضيق فى التنفس فى أثناء شرائه بعض السلع وعلمه بارتفاع أسعارها تم استدعاء سيارة الإسعاف وتبين أنه عامل ولم يسبق له دخول المولات اللتجارية وفوجئ بفارق الأسعار وارتفاعها ففارق الحياة. [email protected]