يزور زين حارتنا كل خميس, ويمضي مساء الجمعة. يرتدي بنطلونا.. وقميصا من الجينز وحذاء كوتشي. يستمع إلي الوكمان الذي يضع سماعته بأذنه, والمحمول معلق بحزامه. يرتدي نظارة سوداء. زين لم يكن بتلك الأبهة.. كان يرتدي جلبابا, وإذا تحسن حاله يضع كوفية حول عنقه, وأما إذا عظم حاله يرتدي بنطلونا وقميصا عاديين وأثار مداواة الفتق عند الإبط وجانبي الفخذ بائنة. يقول زين إن الفترة التي يغيب فيها عن الحارة يعمل بشركة استثمارية. كبيرة جدا في مدينة العاشر من رمضان. أمثال زين في حارتنا من النقاشين والميكانيكيين والسباكين وطلبة الجامعة كثيرون.. لكن زين أفقر أبناء الحارة. توفي والداه وهو صبي فتولاه عمه. كان يشعر بأنه عبء كبير عليه.. مع أنه أقل أفراد الأسرة طلبا, بل إنه لا يطلب منه شيئا مهما تفتق حذاؤه أو نحلت ملابسه.. إلا إذا توسط أحد من أبناء عمه لدي والدهم ليشتري له بنطلونا أو حذاء مستعملا من سوق الخميس بالمطرية. أو يرأف عمه هو من تلقاء نفسه بحالة زين عندما تزداد شدة بؤسه فيتنبه إلي وصية أخيه برعاية إبنه قبل أن يتوفي. حتي عند توزيع الطعام يظل جالسا القرفصاء قابعا في مكانه حتي يتم التوزيع علي أولاد عمه ثم يتقدم هو لأخذ ما بقي. ألحقه عمه بعدة أعمال.. محل سباكة دربه الأسطي عليوه علي أعمالها.. بعدها جربه في تغيير ماسورة صرف فظل الرشح ساريا منها بعدها. أرسله لإتمام مهمات أبسط. تكرر التنقيط من حنفيات قام بإصلاحها, وتعاود المياه تسربها من صندوق السيفون بعد تغيير محتوياته الداخلية. أرسله عمه إلي ورشة عصام الميكانيكي.. تكررت شكاواه من ضعف مهارته وغبائه, وتكرر الاعتداء عليه بالسب والضرب فترك الورشة. أخيرا فتح الله عليه وعمل بالشركة الاستثمارية بالعاشر من رمضان.. وظهرت عليه مظاهر الأبهة. عندما عاد زين إلي بيت عمه وخلع مباذله.. كانت الحقيقة أن الوكمان الذي يضع سماعته بأذنه لا يصدر صوتا أو غروشة.. وأن جراب المحمول خال بلا جهاز داخله. يقول راوي المستشفي أن زين لم يكن في مثل تلك الوجاهة عند دخوله المستشفي وأن سعيه لاستكمالها بدأ عندما وقف أمام الطبيب ضاما ساعديه وذراعيه حول صدره مداريا أزرار قميصه المفتوحة وساقاه ترتجفان من شدة البرودة داخل السروال المتفتق من جانبيه الخارجي عند الفخذ ومن الخلف عند اتصال جزءيه. ولد يا زين أثقل من ملابسك. ليس عندي يا سعادة البيه غيرها. في اليوم التالي أحضر له بنطلونا من الجيتر جديدا مهدي له لم يرتده لضيقه عليه. وبلوفر متسعا متهدلا من كثرة استعماله. سعد زين بمنحة طبيبه.. إنه أول شعور بالفرح ينتابه علي مدي إقامته بالمستشفي منذ ظهور أعراض تليف الكبد عليه.. بل منذ سنوات بعيدة. في الصباح عندما ارتدي البنطلون والبلوفر, ومشط شعره وحلق ذقنه.. ظهر كأنه إنسان جديد. اختصت نجاة ممرضة القسم البنطلون بالمدح: ما هذا البنطلون الشيك يا زين. كذلك حكيمة القسم, وحكيمة الدور.. حتي المرضي الذين يرتدون الجلابيب ولا يفهمون في الوجاهة أثنوا علي البنطلون فقط. كلما استقل حافلة, أو سار علي رصيف محطة, أو مضي في شارع تابع كل من يرتدي بنطلونا من الجينز. رأي أن أليق مظهر هو من يرتدي فوقه قميصا من الجينز. كيف يأتي به وهو لا يملك ثمن زر واحد منه؟!. لم يجد أقرب من نجاة ممرضة القسم التي اعتاد الحديث معها, وتعرف تفاصيل حياته التي يخجل من حكيها مع غيرها ليسر لها برغبته في اقتناء القميص الجينز. صاحت فيه وهي تضرب كفا بكف: يبدو أن البنطلون لحس مخك يا ولد يازين. بالذمة ألا يستأهل؟ أأنا لدي قميص الجينز لكي أعطيه لك؟. الذي عند زوجك. ضربت علي صدرها: زوجي يا منيل.. أقول له أعطيني قميصك من أجل زين.. أنت تريد أن تخرب بيتي.؟ أروح لمين إذن؟ ألبس أي قيمص عادي. قال زين وهو يهز رأسه رافضا: لكنه ليس في شياكة القميص الجينز. وهي تضرب جبهتها بكفها: ألم أقل لك البنطلون لحس عقلك. تعشم في الطبيب خيرا.. بالتأكيد يستطيع منحه القميص كمنحة البنطلون. اقترب منه, وبدأ يهمس في أذنه مضطربا. دفعه الطبيب: ابعد.. قل ما تريده وأنت بعيد. صمت زين.. فصاح فيه الطبيب: قل ما تريد قال مترددا: أنه أمر خاص. قال ساخرا: أأنت لديك أمر خاص؟. قال مبتسما: يعني.. حاجة علي القد. أشار الطبيب للمرضي الواقفين من حوله أن ينصرفوا. قال متلعثما: حضرتك تأخذ البلوفر الذي أحضرته لي. أكفهر وجه الطبيب: ما الذي تقوله.. أعطيك شيئا لترده لي؟! قال زين مسرعا القول يريد تصحيح موقفه: ما... أنا عاوز قميص مكانه. فصاح فيه الطبيب: ما الذي تقوله.. أنت مغفل أم تستعبط.. أأنا أعطيتك لكي تطمع.. أنا أعطيتك عندما وجدتك مثل العريان فأردت أن أقيك من البرد.. سيادتك تريد التبديل فيما أعطيك من أجل أن تتعايق.. حيوان وغبي. تعالي ضجيج الطبيب فالتف المرضي والممرضات حولهما محاولين فض الاشتباك بينهما.. يستسمحونه ليهدأ. جذبت الحكيمة نوال زين بعيدا. أجلسته أمامها, وحدثته بصوت خفيض: ما لك يا ولد يا زين عامل دوشة.. كل هذا من أجل القميص الجينز. نفسي البس لبسا نظيفا له قيمة.. حرام يعني؟ منحة البنطلون لك جابت الهم.. أنت كنت مرتاحا من غيره. أنت مثل الذي يريد أن يبني قصرا لمجرد أنه وجدقطعة حجر. صاح غاضبا: أنت أيضا ستشاركين الآخرين في السخرية مني. زجرته ونبرة تعاطف تلم بصوتها: أكتم صوتك.. أنا سوف أتصرف. في صباح اليوم التالي بمجرد دخول نوال حجرتها فوجئت بزين جالسا أمام المكتب. أنت قاعد تنتظرني يا زين؟ منذ البارحة. ضربت كفها علي صدرها: منذ الليل وأنت قاعد هنا! نعم. في الظلام.. الحجرة ليس بها مصباح! نعم وضعت كفي علي المكتب ونمت الليلة بأكملها وكيف استطعت فتح الحجرة؟ قلت للممرضة السهرانة أعطني مفتاح الحجرة لأحضر مقياس الحرارة منها لأنني أشعر بأن حرارتي مرتفعة. لا.. تعرف كيف تخطط يا منيل.. خذ. القت اليه الحقيبة: من عند ابني مازال جديدا لم يشتره إلا منذ شهرين لماذا يا ست الحكيمة تزعلي ابنك. يبدو أنك ستكون مثل ابني. فتح الحقيبة في لهفة, وأخرج قميصا جينز أزرق خلع الجلباب, ولبس القميص من فوق البنطلون الجينز الذي كان يرتديه من تحته ضمت إصبعي السبابة والإبهام حول مقدمة الذقن, وصاحت فيه: يخرب عقلك انت جاهز للبس ايضا. تركها, وأخذ يمضي في طرقة العنبر, وداخل الحجرات كالديك المسرع الذي يفرد جناحيه, ويتباهي بمنظره, ويصيح في تباه مثله. لم تكن حركته كالديوك المسرعة عابرة بنت لحظة فرحته باكتمال وجاهته بارتداء القميص الجينز فوق مثيله البنطلون.. بل أصبحت سنة ملازمة له كلما مضي في طرقات المستشفي كان ضجيج سيره بالشبشب البلاستيك صاخبا كاحتكاك دوران عجلات القطار علي القضبان. عقب النداء عليه.. مضي كالمعتاد فاردا ذراعيه.. مدببا قدميه بالأرض حتي توقف فجأة أمامها قامت نجاة: حاسب.. ستخبطني.. وأنت عامل مثل الترام. بذمتك أنا أجنن؟ تجنن لماذا يا سيدي.. أنت لابس شبشب بلاستيك لا يساوي ثلاث تعريفات. بس كلي علي بعض آخر شياكة. لا أخر ولا أول.. عمرك شفت واحدا محترما يلبس شبشب بلاستيك ومن فوقه قميص وبنطلون. ماذا يلبس إذن؟ الشباب الذين في مثل سنك يلبسون كوتشي. قال وقد تحشرج صوته: أنني أحس ان هناك شيئا ناقصا في مظهري.. لكن تجنبت التفكير فيه... لا أريد أو اواجه نفسي بعقبة جديدة تعجز عن حلها. ضم الديك جناحيه, وأنهي صياحه, وكبح ساقيه عن السير المتسارع.. قضي اكثرية وقته بالفراش. حرام عليك.. كسرت نفس الولد. ألم تريه يا ست الحكيمة كيف هو مضطرب كالذي يمسك بفرد سلك كهربائي عار.. هذا غير الإزعاج الذي يسببه في العنبر. يعني أنت مرتاحة الآن وهو مرمي في السرير كالمريض المبنج.. لا يرد ولا يصد إلا بالكاد. إن كنت متضايقة من أجله آته الكوتشي الذي يعوزه. تغيرت ملامح الوجه غضبا: تجرحي نفسية الولد أنت والطبيب.. وعلي أنا في كل مرة أداوي و أصلح!. خلع زين قميصه وبنطلونه الجينز ووضعهما تحت مرتبته وعاد إلي ارتداء مباذله القديمة كل من يقابله يفاجأ بعودته إلي ما كان عليه. قالت له نجاة ممرضة القسم بصوت خفيض بعد أن بدأت نغزات الضمير تنتابها: ما لك يا ولد كلامي أثر فيك لهذه الدرجة. أنت قلت الشيء المضبوط الذي كان يجب أن أنتبه اليه بنفسي. قالت له نوال الحكيمة: لو أقدر أجيب لك الكوتشي كما جبت لك القميص الجينز كنت جبته لك يا زين. قال له عامل الدور وهو يدور بمكنسته: بالذمة أنا وأنت لنا في لبس القميص والبنطلون.. والجلباب هو الذي يليق بنا. قال له معاون المستشفي ساخرا: أنت غضبان.. ده أحسن حاجة أنت عملتها إنك خلعت اللباس الجينز لأن شكلك به كالدهول.. هو اللباس الأمريكاني سيلم كل من دب وهب. لكن زميله المجاور له في العنبر قال له ليلا بعد أن نام كل من حولهما, وفارقه الشامتون: ولا يهمك من كلامهم.. فكر في حل للكوتشي ولا تستسلم يا زين لا تستسلم يا زين ردد علي نفسه مقولة زميله بعد أن غط في النوم, وبقي هو جالسا في فراشة ناظرا نحو سواد الليل من النافذة الزجاجية المجاورة لسريره لكن كيف يا زين؟ بالطبع لن تطلب من الطبيب إلا إذا كنت حيوانا غبيا كما اتهمك استلف يا زين.. ستعود إلي نفس القصة يا زين من سيسلفك لماذا يا زين تلجأ إلي الأفراد؟.. لماذا لا تلجأ إلي الحكومة الشئون الاجتماعية هي الحل لماذا لا تطلب إعانة كما يفعل بقية زملائك المرضي. توجه إلي الاخصائية الاجتماعية بالمستشفي وسار في إجراءات إتمامها بدءا من تقرير طبي يحدد حالته فيه طبيب القسم إلي توقيع المدير إلي ختم المستشفي إلي الجمعية النسائية الخيرية بمصر الجديدة التي تصرف الإعانة للمرضي المزمنين. حصل علي تسعين جنيها توجه إلي شارع طلعت حرب مر علي واجهات محلات الأحذية باحثا عن الكوتشي الذي ثمنه بالضبط تسعون جنيها لا يزيد علي ذلك ولا ينقص.. حتي وجده, دخل المحل وأثناء قياسه الحذاء وجد امامه شخصا آخر يقيس يعلق محمولا بحزامه برقت في ذهنه فكرة أن يشتري كوتشي بخمسين, ويدخر الباقي للمحمول. طلب من البائع استبدال الكوتشي بآخر يوافق القيمة الجديدة. مر علي المحلات التي تبيع الهواتف بالفلكي متوهما أن يجد ما يوافق المبلغ المتبقي من ثروته بعد تكرار المرور والسؤال اشتري في النهاية جراب محمول فقط علقه بعروة البنطلون الجينز. وبعد كل هذا الشراء تبقي مبلغ لديه. لم يرض أن يفرط به في شيء غير مظهره.. لكن الثلاثين جنيها لا تصلح لشراء شيء جديد فتوجه إلي سوق الخميس. أخذ يبحث عما يكمل به مظهره ويجمله.. فاشتري نظارة سوداء موديل قديم ذراعها ملحوم عند اتصالها بالعدسة بخمسة عشر جنيها دون فصال. مر علي الجالسين علي أرضية السوق يبحث عما يشتريه بالمبلغ المتبقي المساوي لثمن النظارة حتي وجد وكمان. جربه. وجد الشريط يدور دون أن يخرج صوت. أقنعه البائع أن العيب في الهيد بسيط يمكن إصلاحه بخمسة جنيهات فقط. لم يكن زين مهتما بعمله لكن بسعره الذي حدده البائع بثلاثين جنيها. أظهر له زين الخمسة عشر جنيها التي معه, وأخرج له بطانتي جيبي البنطلون الخاويتين. التقط البائع منه المبلغ وهو يظهر تضرره: عالم فقر. علق الوكمان داخل جيب قميصه العلوي ووضع سماعتيه بأذنيه, واتجه نحو حارته كالفارس الهمام بعد أن أكتمل مظهره بل وزاد فيه عن الحد المطلوب بالنظارة وجراب المحمول. يسير بخطوات عسكرية منضبطة وواثقة, وهو يهز رأسه ليطرد من ذهنه ما قاله له الطبيب صباح اليوم بأن تحليل وظائف الكبد ازداد سوءا عن سابقه.. مع العلم أن سابقه أسوأ من الذي يسبقه. ذلك حتي لا تتكدر نفسه تحت مسامع الطبيب التي تتردد داخله فينحني عوده وتضعف خطاه, وتضيع منه الخيلاء. * هشام قاسم: له مجموعات قصصية منها من يضحك كثيرا والنغم والزمن والمشكلة أنها بريئة ورواية حدث في مثل هذا اليوم