تحرير سيناء انطلاقة للتنمية بعد سلام الانتصار، احتفالية بإعلام الخارجة    الزراعة: البن المصري حلم يتحقق بعد عقود من التجارب وندرس الجدوى الاقتصادية    قرار عاجل من تعليم القاهرة بشأن تطبيق التوقيت الصيفي ومواعيد الامتحانات    عزة مصطفى تكشف موعد نهاية تخفيف أحمال الكهرباء (فيديو)    إسرائيل تعلق على استئناف ألمانيا تمويل "الأونروا"    صندوق النقد الدولي يدشن مكتبه الإقليمي في السعودية    إعلام عبري: مجلس الأمن الإسرائيلي بحث سرا سيناريوهات اعتقال نتنياهو وجالانت وهاليفي    الرئيس السيسي يشهد انطلاق البطولة العربية العسكرية للفروسية    رياضة دمياط تستقبل بطولة قطاع الدلتا المفتوحة للكيك بوكسينج برأس البر    اعتادت إثارة الجدل، التحقيقات تكشف تفاصيل اتهام البلوجر نادين طارق بنشر فيديوهات خادشة للحياء    الذكاء الاصطناعي وإحياء الموتى بشكل افتراضي!    رانيا يوسف لمنتقدي ملابسها: لن أغير ذوقي من أجل أحد    منح دولية وعروض جوائز إضافية بمهرجان بؤرة المسرحي في جامعة دمنهور    غدًا، قافلة طبية مجانية بقرى الفرافرة ضمن مبادرة "حياة كريمة" بالوادي الجديد    "مواجهته كابوس".. علي فرج يعلق على هزيمته لمحمد الشوربجي ببطولة الجونة الدولية للاسكواش (فيديو)    "تدعو لتدمير إسرائيل".. نتنياهو يهاجم المظاهرات الداعمة لفلسطين بالجامعات الأمريكية    موعد إجازة شم النسيم 2024 في مصر.. وتواريخ الإجازات الرسمية 2024    وزير الاتصالات يؤكد أهمية توافر الكفاءات الرقمية لجذب الاستثمارات فى مجال الذكاء الاصطناعى    بدءا من الجمعة، مواعيد تشغيل جديدة للخط الثالث للمترو تعرف عليها    سبورت: برشلونة أغلق الباب أمام سان جيرمان بشأن لامين جمال    تردد قناة الجزيرة 2024 الجديد.. تابع كل الأحداث العربية والعالمية    بروتوكول تعاون بين «هيئة الدواء» وكلية الصيدلة جامعة القاهرة    صراع ماركيز ومحفوظ في الفضاء الأزرق    مدير «مكافحة الإدمان»: 500% زيادة في عدد الاتصالات لطلب العلاج بعد انتهاء الموسم الرمضاني (حوار)    هل تقتحم إسرائيل رفح الفلسطينية ولماذا استقال قادة بجيش الاحتلال.. اللواء سمير فرج يوضح    السيد البدوي يدعو الوفديين لتنحية الخلافات والالتفاف خلف يمامة    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    دعاء الستر وراحة البال والفرج.. ردده يحفظك ويوسع رزقك ويبعد عنك الأذى    خالد الجندي: الاستعاذة بالله تكون من شياطين الإنس والجن (فيديو)    أمين الفتوى: التاجر الصدوق مع الشهداء.. وهذا حكم المغالاة في الأسعار    إدخال 215 شاحنة إلى قطاع غزة من معبري رفح البري وكرم أبو سالم    متحدث «الصحة» : هؤلاء ممنوعون من الخروج من المنزل أثناء الموجة الحارة (فيديو)    أزمة الضمير الرياضى    بعد إنقاذها من الغرق الكامل بقناة السويس.. ارتفاع نسب ميل سفينة البضائع "لاباتروس" في بورسعيد- صور    منى الحسيني ل البوابة نيوز : نعمة الافوكاتو وحق عرب عشرة على عشرة وسر إلهي مبالغ فيه    منتخب الناشئين يفوز على المغرب ويتصدر بطولة شمال إفريقيا الودية    تعرف على إجمالي إيرادات فيلم "شقو"    البورصة تقرر قيد «أكت فاينانشال» تمهيداً للطرح برأسمال 765 مليون جنيه    سيناء من التحرير للتعمير    فوز مصر بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    العروسة في العناية بفستان الفرح وصاحبتها ماتت.. ماذا جرى في زفة ديبي بكفر الشيخ؟    أوراسكوم للتنمية تطلق تقرير الاستدامة البيئية والمجتمعية وحوكمة الشركات    عيد الربيع .. هاني شاكر يحيى حفلا غنائيا في الأوبرا    توقعات برج الثور في الأسبوع الأخير من إبريل: «مصدر دخل جديد و ارتباط بشخص يُكمل شخصيتك»    حكم الاحتفال بشم النسيم.. الإفتاء تجيب    هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية: تلقينا بلاغ عن وقوع انفجار جنوب شرق جيبوتي    تضامن الغربية: الكشف على 146 مريضا من غير القادرين بقرية بمركز بسيون    خدماتها مجانية.. تدشين عيادات تحضيرية لزراعة الكبد ب«المستشفيات التعليمية»    مديريات تعليمية تعلن ضوابط تأمين امتحانات نهاية العام    الصين تعلن انضمام شركاء جدد لبناء وتشغيل محطة أبحاث القمر الدولية    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس لسرقته    تفاصيل مؤتمر بصيرة حول الأعراف الاجتماعية المؤثرة على التمكين الاقتصادي للمرأة (صور)    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم العراقي مهدي عباس    هل يجوز أداء صلاة الحاجة لقضاء أكثر من مصلحة؟ تعرف على الدعاء الصحيح    تقديرات إسرائيلية: واشنطن لن تفرض عقوبات على كتيبة "نيتسح يهودا"    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    ضبط 16965 مخالفة مرورية خلال 24 ساعة    «التابعي»: نسبة فوز الزمالك على دريمز 60%.. وشيكابالا وزيزو الأفضل للعب أساسيًا بغانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فرقة من الفتوات ولصوص المعسكرات الإنجليزية.. تدعم ترشيحي وتواجه فتوات المنافسين
نشر في القاهرة يوم 23 - 11 - 2010

قال عبدالرؤوف إننا تأخرنا في طبع الإعلانات ولصقها علي الحوائط.
قلت: إني سأكلف شركة من شركات الإعلانات بهذا العمل.
فقال: إن هذه صناعته ولا داعي لتكليف شركة ما وإنما يكفينا أن نطبع خمسمائة من الإعلانات الكبيرة، وأن لديه رجلا يعرف كيف يلصق الإعلان بحيث لا تمتد إليه أيدي الصبية فتمزقه أو تلطخه بالأوحال.
قلت: ولكنهم يقولون إن الإعلانات لا تلصق إلا في الأيام القريبة من يوم المعركة الفاصل؟
قال: وما رأيك يا أستاذ في المرشح فلان فإنه سبقنا إلي وضع إعلاناته وتخير أحسن المواضع في حوائط المساكن والمنازل؟
فكلفت إحدي المطابع المختصة بطبع الإعلان، وكان اسمي وكلمة «انتخبوا» مكتوبين بحروف كبيرة يراها الإنسان علي بعد أمتار كثيرة.
وأضفت إلي الاسم عبارة «مستشار العمال وعضو الحزب الوطني» وقد دعاني إلي هذه الإضافة أني كنت محاميا للكثير من النقابات العمالية وكنت مستشارا في زمن ما لاتحاد من اتحاداتهم يجمع خمسين نقابة، وكانت الغالبية الكبري لسكان الدائرة من العمال، فرأيت أن أنبه الأذهان إلي وجود رابطة وثيقة تربطني بأوساطهم وبأن الذي كان يخدمهم خارج مجلس النواب في مقدوره أن يقوم بخدمتهم في داخله، وأن الرجل الذي يعلم آمالهم وأحلامهم ومتاعبهم وآلامهم في مقدوره أن ينفعهم، وفي مكنته أن يكون لسانهم النطاق كلما عرض للبحث شأن من شئونهم.
وإلا فعلام يعتمد المرشح الذي يتقدم للنيابة إن لم يكن له من سابق أعماله ما يؤهله لأن يطالب بثقة أهل الدائرة.
ثم إني عضو في الحزب الوطني ورئيس هذا الحزب وزير في الوزارة القائمة وهو حزب محترم له مجد تليد وقدم راسخة في الوطنية وكان الزعيم الأول مصطفي كامل موقد الشعلة التي ظلت تتأجج في النفوس وتشتعل في الصدور زهاء الخمسين عاما فالانتماء إلي هذا الحزب مفخرة ولو أن الناس يميلون إلي صاحب السلطة ويتهافتون إلي الحزب الغالب الذي في يده الحل والربط، وللناس حاجات يريدون قضاءها، فهم يتبعون الحزب وأعضاء الحزب الذين يزعمون أن في إمكانهم أن يقضوا لهم لباناتهم.
زعمت فيما بيني وبين نفسي أن إضافة «مستشار العمال وعضو الحزب الوطني» نوع من الإعلان النظيف والدعاية المحترمة.
الله والملك والوطن
ثم أني أضفت عبارة أخري هي «الله، الوطن، الملك» وكأنما كنت أريد بهذه الكلمات الثلاث أن أقول لجمهرة الناخبين إني إنما أصدر في أعمالي عن خشية الله، وأن لدي وازعا من ضمير صاف وأني لا أهتدي في سبيلي إلا بكل ما يحقق نفع الوطن العزيز ويؤدي لرفعته. أليس هذا الوطن هو تلك الأرض التي تغل زرعا وضرعا ، وهذه السماء التي تمطر ماء، وهذه الشمس التي تشمل الكون بنورها الساطع وحرارتها الحيوية، وهذه المجاري المائية التي تروي الساغب اللاغب، وهذه البيئة الاجتماعية التي تشمل الابن والاب والأم والأخوة والأقارب والجيران وهذا الارتباط الاجتماعي الذي يربط بين الناس برباط الصداقة والمصلحة والانتفاع والتعاون والذي يسوده الإخاء أو الجفاء علي السواء والذي يسيطر عليه القانون ليحد من طغيان بعض النفوس الشريرة.
ثم كان يجب أن يحمل الإعلان اسم الملك فهو رئيس الدولة الأعلي الذي ندين له بالولاء والطاعة في ظل الأحكام الدستورية التي جعلته فوق مظنة الاتهام إذ هو يسود ولا يحكم ولهذا ارتفعت عنه المسئولية وكان وزراؤه هم المسئولين وحدهم عن كل ما يأتون ويدعون من الشئون العامة.
فهو لا يشترك في الحكم وإنما يؤديه بواسطة الوزراء المسئولين ولهذا كانت ذاته السامية مصونة لا تمس فارتفع بهذا السمو وبهذا الوضع الدستوري الحكيم عن مهاترات الأحزاب وعن متناول النقد.
ولهذا كانت الذات الملكية محببة إلي النفوس تهفو لها الأسماع وتضطرب لذكرها الصدور، فكان لزاما علي أن أذكر اسم الملك ضمن الإعلان.
مصر.. السودان.. الجلاء
ثم إني أضفت أيضا عبارة ثالثة وهي «مصر، السودان، الجلاء» فهي مصر أولاً التي ندين لها بالحياة، وهي مصر أولا التي يجب أن نذكرها في البكور والآصال، ثم هو السودان شقيق مصر وهو السودان جزء مصر الذي لا يتجزأ.. وإن لم نذكر السودان فقد نسينا مصر.
وكأني كنت أرمي بهذه الإضافة إلي أنني لن أغفل إذا ما فزت بكرسي النيابة عن المطالبة بحقوق مصر والسودان في الحياة الحرة المستقلة وأن تتخذ مكانها اللائق بين دول العالم الحرة المستقلة، وبأن مصر والسودان إقليم واحد لا يقبل التجزئة أو الانفصال وبأن مصر التي تتزعم الدول العربية وتتخذ لها مكان الصدارة منها والتي تطالب لشقيقاتها بحقوقها وتقف إلي جوارها تشد أزرها يجب أن تكون أكرم علي نفسها فتستكمل استقلالها.
وكان لزاما علي أن أضيف هذه الكلمة الثالثة «الجلاء».. وإلا كيف نصف بلادنا بأنها بلاد مستقلة وهذه الجيوش الأجنبية تحتل أراضيها وتسيطر علي موانيها وتستولي علي غلاتها وتستعمل جميع مرافقها الحيوية وغير الحيوية، وقد دعت هذه الكثرة الهائلة من الجنود إلي إقامة المباني والاستحكامات والمطارات التي توحي ضخامتها ومناعتها بالدوام والاستقرار.
كشف النفقات
قال الذي بيده المشورة والنصح.. هذا كشف ببيان النفقات وضمن الكشف أجرة لاصق الإعلان وثمن النشا وأجرة الصبي حامل السلم الذي يصعد عليه اللاصق.
وقد دفعت له المبلغ الذي تكبده هذا الباب من أبواب الصرف وعمد عبدالرؤوف إلي مذكرته يدون فيها المبلغ الجديد الذي استولي عليه ويعلم الله هل كان صادقا في جميع ما يسطر في هذه المذكرة أو أنه كان مبالغا إلا أني لم أكن أحمل نفسي عبء التفكير في أمانته أو خيانته وإنما كنت مطمئنا إليه واثقا به، وكنت أعتقد أن صلة القرابة التي تربطه بي ستكون أكبر وازع له يردعه عن الخيانة إذا ما طاف بذهنه طائف من الشيطان.
وقد سمعته يوما يتحدث إلي رجل من إخواننا السود وهو فتي مديد القامة يرتدي فوق جلبابه معطفا أصفر اللون ويضع علي رأسه طربوشا له حافة امتصت من عرقه العنيف الرائحة كمية وافرة هي أكداس بضع سنين.
كان هذا الشيطان الأسود من محترفي صناعة الانتخاب وقد أحضره عبدالرؤوف إلي وقدمه لي علي أنه من المساعدين الأمناء الذين يوثق بهم ويعول عليهم في المعركة الانتخابية.
قلت إني سمعت عبدالرؤوف يتحدث إلي هذا المحترف يخبره بأنه يعمل تحت لوائي وأنه لا يمكنه أن يتخلف عن مساعدتي فرد عليه الأسود يقول بأن لديه عدة مقاولات وأمامه طائفة من العروض وأن عددا كبيرا من المرشحين في مختلف دوائر الإسكندرية يخطبون وده ولم يقطع برأي بعد بالنسبة للمرشح الذي ينتظر أن يقبل العمل معه.
وقد أتاني هذا الأسود مرتين وزارني في مكتبي وعرض علي خدمته، فطلبت منه أن يكون اتصاله بعبد الرؤوف وأن يضع معه الترتيب والنظام اللذين يراهما ويظهر أن هذا القول لم يرقه ولعله كان يريد أن يتصل بي رأسا أو لعله أراد أن أمنحه مبلغا ما من تحت الحساب ليبدأ العمل.
لم أدر شيئا وإنما الذي شاهدته فيما بعد هو أن الشيطان الأسود أصبح من أنصار أحد خصومي وأصبح حربا علي وعينا علي حركاتي وتنقلاتي، وإذا رآني متجها إلي قسم البوليس وهو بعيد عنه عاد أدراجه وتتبع خطواتي ليري ماذا أفعل، وإذا لمحني أحدث أحدا من أنصاري وقف غير بعيد ليسمع حديثنا.
كانت الانتخابات بالنسبة لهؤلاء الناس صناعة أو تجارة لها موسم خاص يبدأ يوم الإعلان عن إجرائها - حينذاك يظهر هؤلاء الخفافيش يطوفون بالمرشحين ويعرضون خدماتهم ويبتزون أموالهم ويحتالون عليهم ومن يصدق منهم ويخلص في عمله يستنزف من المال أكثر ما يمكن، أما الخائن فهو الذي يستخلص المال ويولي الأدبار لأنه لا يحسن عملا ما ومن أمثاله عدد كبير.
أزمة الإعلانات
طلب مني عبدالرؤوف أن أصاحبه يوما لأري الإعلانات التي ألصقها علي حوائط المنازل فمررت ببعض شوارع الدائرة الانتخابية فوجدت أن إعلاناتي قد لصقت بحيث تكون أعلي موضعا من إعلانات باقي المرشحين.
قال عبدالرؤوف: ما رأيك يا أستاذ.
قلت: عال جدا.
قال عبدالرؤوف: ولكن هل تعلم أن فلانا المرشح قد ساءه أو قد ساء أعوانه أن تكون إعلاناتنا هي العليا وإعلاناتهم هي السفلي فرأوا رغبة في التشفي وطواعية لعاطفة الحقد الرخيصة أن يلصقوا إعلاناتهم علي إعلاناتنا.
قلت: أين حصل هذا؟
قال: علي واجهة جامع «الميري».
وانطلقنا إلي حيث يوجد جامع الميري ، ولاحظت أن إعلان المنافس لم يلصق علي إعلاني تماما فقد ظهرت بعض أطرافه وعلمت من عبدالرؤوف أن هذا الفعل قد ارتكب في عشرين موضعا .. فآلمني هذا العمل الصبياني لأنه سيكلفني مبالغ جديدة، وإذا تناول جميع الإعلانات أو أكثريتها فسأضطر إلي شراء ورق جديد وإجراء طبع جديد وأنا رجل محدود الميزانية ليس في إمكاني منافسة هذا الخصم في بذله المالي الطائش.
وقد أراح عبدالرؤوف وساوسي حينما أبلغني بعد ذلك أنه أبلغ رجال البوليس وطلب منهم التحقيق مع الأفراد الذين يباشرون لصق إعلانات منافسي وأن القسم اهتم للأمر واستوقعهم علي تعهد بعدم العودة إلي هذا التصرف الشائن.
مرشح ضعيف
وكنت فيما بيني وبين نفسي أعتقد أن تشويه إعلاناتي وتمزيقها ليس بالأمر الخطير الذي يدعوني إلي الاكتراث أو الغضب ذلك لأنني أتقدم إلي جمهور الناخبين بشخصي ليضعوني في كفة ميزان مع أي واحد من الخصوم الخمسة، وأن لهم بعد ذلك حق التفضيل والاختيار فما قيمة تمزيق إعلان واحد أو مئات من الإعلانات؟ إن الغرض من هذا الإعلان هو أن يعلم جمهور الناخبين أن هناك مرشحا هو فلان وأن هذا المرشح له مؤهلات هي كيت وكيت، فإذا ما بلغ هذا العلم إلي الناخبين فلتمزق جميع الإعلانات بعد ذلك، إلا أن عبدالرؤوف خالفني في هذا التصوير للموقف وقال بأن أهالي الحي من الأفراد العاديين الذين لم ينالوا من التعليم مثلما نلت وهم لا ينظرون إلي تمزيق الإعلانات أو تشويهها هذه النظرة بل هم يعتبرون هذا العمل اعتداء علينا وأننا عاجزون عن رد الاعتداء فما دمنا في موقف العجز فنحن ضعاف إذن.. ومرشحنا ضعيف ويجب أن نقابل التمزيق بالتمزيق والتشويه بالتشويه.
قلت: هذه أعمال صبيانية ويجب أن تسمو العملية الانتخابية عن ذلك.
قال: هم الذين بدأونا بالاعتداء، فإذا كانوا قد شوهوا عشرين إعلانا فلنشوه لهم مائة.
قلت : أنا لا أوافق علي ذلك لو عاملناهم هذه المعاملة ورغبوا هم في الانتقام بعدئذ فسنعجز عن مجاراتهم لأنهم علي سعة وبسطة من المال.
قال شاب كان يرافق عبدالرؤوف: ولكن لابد من الصرف يا أستاذ، ما دمت قد دخلت المعركة الانتخابية فيجب أن تصرف، وأنا نفسي قد رأيت أن إعلاناتك غير كافية.
قلت: لقد طبعت خمسمائة إعلان.
قال محدثي: هذا غير كاف، أنت في حاجة إلي خمسمائة أخري فإن شوارع الدائرة كثيرة وأنك إذا سرت في شوارع كيت وكيت .. وعدد لي بعضا من دروب الدائرة ، فإنك لا تجد إعلانات مطلقا، ويحسن أن تعمل إعلانات بالبوية أيضا لأنها أقل في المصاريف ولو أنها لا تكون ظاهرة تماما الظهور للأنظار كإعلانات الورق إلا أنها أثبت من الورق.
كان محدثي هذا ويدعي المعلم زكي تاجرا من تجار الأسمنت والجير والأدوات المعمارية وقد سبق له أن مارس مهنة الانتخاب وكان صديقا لعبدالرؤوف فلما أن زاد العمل علي الأخير وأثقلته المتاعب رأي أن يستعين بصديقه المعلم زكي الذي قبل أن يعمل معي تدفعه رغبة أكيدة في اسقاط منافسي العنيد الذي يشوه صبيانه إعلاناتي.
كان يقول المعلم زكي: إن هذا المنافس كان زميلا له في المدرسة وانهما كانا يلعبان معا في فرقة واحدة من فرق كرة القدم وانهما خرجا معا في وقت واحد دون أن يحصلا علي شهادة ما، وان هذا المنافس اشتغل في بعض الأعمال اثناء الحرب فكسب مالا فاشتري سيارة .. ومنذ هذا التاريخ وهو يمر بمحل المعلم «زكي» فلا يحييه.
وقد زرت المعلم «زكي» في محله يوما، لتوثيق عري الصداقة بيني وبينه، فأطلعني علي صورة فوتوغرافية لفرقة من لاعبي كرة القدم فأشار إلي فرد منهم وقال - هذا أنا - ثم أشار إلي آخر وقال : هذا هو منافسك فلان الذي أبطرته النعمة فأصبح لا يعرف إخوانه القدماء ثم حلف المعلم «زكي» بأن هذا المنافس لن ينجح ما دام موجودا علي قيد الحياة.
كانت زيارتي لمحل المعلم «زكي» - بعد أن أصبح من كبار أعواني - إذ طبعت له خمسمائة إعلان جديد وقام بلصقها علي حوائط المنازل في الجهات والشوارع التي لم تكن فيها إعلانات، كما أنه أيضا قام بطبع إعلانات من البوية علي جميع حوائط المنازل وكان يساعده في هذا العمل عدد من الصبيان.
الواد النمر
كان محل المعلم «زكي» في حاجة إلي فرقة كاملة من عمال الكنس جاءني المعلم «زكي» في يوم غاضبا وقال: إن جميع الناس أكلت وشنا.
قلت: لماذا؟ فبدت عليه الدهشة وقال: ألا تعرف السبب يا أستاذ؟ هل أعجبك ما فعله أمس أنصار المرشح فلان انهم كانوا علي وشك الاعتداء عليك بالضرب لولا وجود الواد «النمر» وفرقته «بتوع البمب» فلو لم تكن في محلهم لحصل مالا تحمد عاقبته.
قلت: الحقيقة يا معلم «زكي» أنا لو كنت أعلم أن «النمر» كان من أنصار خصمي ثم خرج عليه لما فكرت في زيارته وبخاصة أن منزل منافسي ملاصق لدكان «النمر».
قال: وإيه يعني.
قلت: لا، هذا نوع من التحدي لا أقبله أنا لست من الفتوات، أنا محام، والمعركة الانتخابية معركة نظيفة - لا شأن لها بأعمال الفتونة الذي ينتصر فيها هو الذي يمكنه اقناع الجماهير بأنه الأفضل وأن في مقدوره أن يقوم بدوره في الشئون العامة وهي شئون خطيرة وأبعد ما تكون عن هذه الوسائل الحقيرة.
قال المعلم زكي: ياأستاذ أنت بتكسر مقادفنا.
فسكت مفكراً في هذا الموقف العجيب.
هذا الولد المسمي «النمر» فتوة من فتوات الحي رأي أن يمارس هذه الهواية في صورة جديدة مثيلة لتلك الصور التي نشاهدها في دور السينما، أعني أن يكون فتوة من نوع جديد فني كأن يكون مصارعا أو ملاكما أو من حملة الاثقال فاستأجر دكانا كان يستعمل اصطبلا للخيل والبغال في دار موقوفة متهدمة، وقد شاء الإهمال أن تكون كذلك وجعل من هذا الدكان نادياً اشتهر باسم «نادي البمب» واجتمع لديه فريق من إخوانه الأشداء ومن الصبيان الذين هم في دور التلمذة بين جماعة الفتوات.
دعاني النمر لزيارة نادية ولم أكن أعلم أنه كان من أعوان منافسي وأنه لسبب ما قام الخلاف بينهما وأنه أراد أن ينتقم منه بأن يدعوني لزيارته وكان يصحبه ويؤيده في هذا الطلب كاتب من كتبة المحامين اسمه «جلال» وهو فتي أهوج مرتفع الصوت يحب اللطم في الجنازات كما يقول المثل العامي.
وكان يسعدني ويثلج صدري دعوة تصلني من أهالي الدائرة ولهذا قررت قبول الدعوة في الحال ولم أكن أعلم أن «نادي البمب» لم يكن غير اصطبل إلا أنه لم يكن يهمني كمرشح أن أدعي إلي ناد محترم أو إلي اصطبل للمواشي ما دام عضو النادي المحترم ناخبا وصاحب صوت وأن ساكن الاصطبل ناخب كذلك وصاحب صوت، وقد سوّي القانون بين الرجل المحترم وغير المحترم فزيارة كليهما تكليف وواجب.
مسعود أفندي
وسرت كعادتي في جمع من الناس يسبقنا فريق الهاتفين حتي إذا مابلغنا «نادي البمب» اعترض سبيلنا جمع كبير من أنصار منافسي ومنعونا من السير أمام منزله القريب من النادي وامسكني من يدي هذا الرجل الذي يرتدي بذلة ويسمي نفسه «مسعود أفندي».
أدهشني عمل «مسعود أفندي». ان هذا الرجل قد حضر إلي مكتبي وعرض خدماته علي وقدمه لي عبدالرؤوف علي أنه من أعيان الجهة وأسر إلي أنه من جماعة الأقوياء الذين يتاجرون في الممنوعات أعني في مسروقات السلطة العسكرية وأنه أثري من هذا العمل رغما من محاكمته عدة مرات أمام المحكمة العسكرية بل انه متهم الآن في قضية سرقة كاوتشوك من معسكر الورديان وانه استطاع أن يؤثر عليه وأن يستميله إلي جانبنا حتي نأمن شره لأنه رجل خطر، وفي الحق أن خطورة هذا الرجل وشره كانا مرتسمين علي وجهه وتركا فيه آثارا لا تمحي فإن جلد بشرة الوجه من الخد الأيمن قد أزيلت تماما والتأمت التآما مشوها وكانت أذنه اليمني مقضومة قضما كذلك كأنما تعاونت أبالسة الجحيم علي المبالغة في التشويه ورأي أحد هؤلاء الأبالسة أن يمد يده إلي العين اليمني فمزق حوافيها السفلي ولما التأم الجرح كانت حدقة العين واسعة كبيرة البياض.
كان «مسعود أفندي» مخيف المنظر تمجه العين من اللمحة الأولي ولا يزيل من النفس أثر هذا التشويه أن يلمح الإنسان الخاتم الذهبي ذا الفص الألماسي الذي يخطف البصر أو تلك السلسلة الذهبية الثقيلة التي تربط ما بين الجيب الأيمن والجيب الأيسر من الصديري.
«مسعود أفندي» هذا منعني ومنع موكبي من المرور أمام منزل منافسي وكان يعاونه أثناء ذلك عدد كبير من أنصار هذا المنافس وصاح في وجهي بأن مروري سيؤدي إلي معارك دامية وأنه يحسن بي أن أعدل عن هذا المرور فرأيت أن أجنب أنصاري وخامة العاقبة لو أصررنا علي المنع، فأشرت بالسير في زقاق جانبي إلا أن أنصاري كانوا جميعا ثائرين علي خطتي وأحسبهم رموني بالجبن فيما بينهم، ولهذا لم يستقر لهم قرار حتي أرسلوا لي في اليوم التالي المعلم «زكي» لعلمهم بصلته بي لكي يقنعني بوجوب الموافقة علي المرور عنوة أمام منزل منافسي حتي نزيل الأثر السيئ الذي تركته في نفوس الجمهور محاولة منعنا من المرور أو قل منعنا فعلا.
كان يدور تفكيري حول قبول اقتراح المعلم زكي أو رفضه وكنت أميل إلي الرفض لأن السبب الحقيقي في منعنا من المرور هو العداء الذي قام بين النمر وبين منافسي واستخدام النمر لي أداة لإثارة غضبه ولهذا كنت أميل إلي الرفض ولكن الموقف قد تحول إلي صورة أخري باقية وهي أن مرشحا منع مرشحا آخر من المرور في الدائرة الانتخابية، وأن مرشحا بدا أمام الأنظار قويا كما بدا مرشح آخر ضعيفا وأنا هذا المرشح الضعيف فيجب إزالة وصمة الضعف عني وعلي هذا قبلت الاقتراح فهز المعلم «زكي» يدي مسرورا وودعني هو ورجل من أقوياء الصعايدة يدعي «عبدالجليل» وهو عامل في شركة المكابس وكان المعلم «زكي» ينظر إلي «عبدالجليل» نظرة فهمت منها أن كن مستعدا هذا المساء.
ثلاثة من الصعايدة
اتفقنا علي أن أزور الدار الانتخابية الساعة الثامنة مساء ثم نقوم في جولة انتخابية علي مثال الجولات السابقة نطوف فيها ببعض شوارع الدائرة ثم نعرج في سيرنا علي منزل منافسي ونمر أمامه وأن نستغل القوة في هذه المرة إذا تراءي لأحد أنصار هذا المنافس أن يقف في سبيلنا.
وهناك في الدار جلست أمام المكتب المعهود امتلأت القاعة بالأنصار المأجورين وغير المأجورين وكان يضم هذا الحشد بعضا من الأقوياء.
فهذا «عبدالجليل» رجل مهيب الطلعة جليلها طويل القامة ممشوقها، وهو جاهل أجوف خال من الذكاء ولا نصيب له من العلم، وهو مغرور بطلعته يزكي هذا الغرور في نفسه شارب ضخم طويل ، وهو لا يفتل هذا الشارب وإنما ينكشه ولهذا كان لهذا الشارب طول وكان له عرض، أما الطول فلا يقل عن ثلاثين سنتيمترا لليمين نصف هذا الطول ولليسار النصف الآخر وهي قسمة طبيعية عادلة، أما العرض فإنه يتراوح بين ثمانية أو عشرة سنتيمترات وقد اصطلحت مع أخواني أن ندعوه «بابوشناب» ولكن هذه الكلمة الاصطلاحية هي فيما بيننا فقط، ولو اطلع عليها لثار وغضب لأنه لا يفهم الفكاهة إلا علي أنها تعريض وسخرية.
وهذا «عبدالأحد» رجل من عمال المكابس يرتدي قميصا من القمصان الإنجليزية المسروقة وهو يسير بهذا القميص في الطريق ويجلس به ظاهرا للعيان في المقهي الذي اعتاد الجلوس فيه غير حافل برجال البوليس لأنه رجل جريء ويعتقد أن أحدا منهم لن يقبض عليه لأنه سيطالبه في الحال بأن يكشف ملابسه الخارجية أمام الناس ليروا كيف يرتدي جوارب إنجليزية و«فانلة» إنجليزية و«جرسا» إنجليزيا وأن الأولي به أن يدع الناس في شئونهم فإن غالبية القوم أصبحوا يتداولون المسروقات تداولا علنيا حتي ظن الكثير أن هذا التداول أصبح مباحا لا جريرة فيه ولا جزاء عليه ولا عقاب، وأما هؤلاء الذين ينالهم العقاب فليسوا غير الضعفاء وهم الضعفاء دائما الذين ينالهم القانون ويقفون موقف المحاكمة وتوقع عليهم العقوبة، أما القوي فهو إما قوي بماله أو قوي بساعده وكلاهما معفي من العقاب أو في عبارة أصح يعرف كيف يفلت من سطوة القانون.
وهذا عم «عامر» رجل شيخ عليه وقار الشيوخ ولكنه مازال في قوة الشباب.
هؤلاء الثلاثة كانوا جميعا من إخواننا أبناء الصعيد وكانوا مأجورين استخدمهم «عبدالرؤوف» لحمايتنا وحماية مظاهراتنا وجولاتنا الانتخابية وقد اتفق معهم علي جعل معين هو عشرون جنيها مصريا استلموا منه في مبدأ الأمر خمسة جنيهات.
قال «عبدالجليل»: لم يكن يصح مطلقا يا أستاذ ألا تخطرنا بطوافك أمس لقد تكدرت جدا أنا و«عبدالأحد» و«عم عامر»، كيف نكون من رجالاتك وتحصل الحكاية دي أنت لازم تمر علي كيفك بل تمر علي رقابنا، إحنا فداك، يا سلام ياناس يمنعوك من المرور وأحنا موجودين وعارفين اننا رجالتك يا خبر أسود!
ثم خبط عصاه علي الأرض خبطة عنيفة كاد ينشق لها الخشب ثم مضي ينكش شاربه الضخم في غيظ مكتوم يريد أن ينفجر في ضرب بالعصا وذبح بالسكين وركل بالأرجل وجري هنا وهناك.
ورد عم «عامر»، مايمرش إزاي دا البك يمر ويمر ولما نشوف مين يتعرض له.
أما «عبدالأحد» فكان قليل الكلام بارد الطبع تدور عيناه ذات اليمين وذات الشمال كأنه ثعلب ينتظر الفرصة لاقتناص الفريسة وفي الحق أن بريق عينيه كان ينم عن أخلاق الثعالب ولكنه مع ذلك لم يظل ساكنا وإنما كان يهز رأسه دليلا علي الرضا.
ولم أجد في أقوال هؤلاء القوم مايستثير حفيظتي علي خصمي أو علي اتباعه لأني كنت أفهم أن المعركة الانتخابية ليست معركة بين الفتوات ولكنني مع ذلك كنت مضطرا للاستعانة بالفتوات في هذه المعركة.
مجرم حرب.. وثري حرب
ورحت أبحث عن «فهمي» بين الجالسين، وقد كان «فهمي» من أنصاري المخلصين، ولمحني عبدالرؤوف وأنا اتطلع بنظري هنا وهناك فاتجه إلي يسألني عمن أبحث فسألته.
- أين فهمي؟
فأجاب: آه فهمي. أنا نسيت أن أخبرك، البقية في حياتك.
قلت متعجبا: مات!
قال: نعم أول أمس فقط، مات في المستشفي ودي آخرة الشقاوة.
قلت: لماذا هل أصيب في حادث؟
قال : طبعا وهل مثل «فهمي» يموت موتة ربنا، ده لازم يموت قتيل فإنه منذ أربعة أيام قامت بينه وبين شركائه مشاجرة وأصيب في اثنائها باصابات شديدة في رأسه فاجريت له عملية تربنه وأزالو من قبوة الرأس بضعة سنتيمترات ولكنه كان قد أصيب بنزيف في المخ فمات في اليوم التالي مباشرة.
ولكني في الواقع لم أكن أقصد بكلمة مسكين أن أرثيه فإن هذا الرجل لم يكن يستحق رثاء، فقد كان من مجرمي الحرب وأغنياء الحرب معا.
أما كونه من مجرمي الحرب، فذلك لأنه كان علي رأسه عصبة من اللصوص الذين كان من دأبهم سرقة المعسكرات البريطانية ليلا ونهارا علي السواء وأهلته جرأته وجسارته لأن يصير في مركز الزعامة من العصابة، فهو رغم كونه ضئيل الجرم قصير القامة إلا أنه كان كالذئب تماما يدور حول فريسته زمنا ما ثم ينقض آخر الأمر وفي انقضاضه الأجل المحتوم.
ثم هو شرير يبلغ به الشر أن ينال من نفسه ويؤذي جسده إيذاء خطيرا، فقد ألقي القبض عليه مرة وأودع في القسم وأراد أحد الضباط الجدد أن يشدد عليه النكير فما كان منه إلا أن أنشب أظفاره في وجهه وشد عين نفسه فمزقها وسال الدم وراح يصرخ ويولول ويصيح طالبا النجدة، ونسب إلي رجل البوليس أنه هو الذي ضربه ومزق عينه، وكان الضابط الفتي ينظر إليه مشدوها ويعجب لرجل يجرح نفسه هذا الجرح الخطير!! وإذا بالضابط يقف موقف الاتهام من حيث لا يدري وإذا بالناس ينظرون إليه وكأنهم يقولون: «أيها المتهم دافع عن نفسك» وإذا به ينظر إلي الناس وكأنه يقول: «إني بريء مما يدعي هذا الشرير».
لهذا كان «فهمي» معروفا بشدة البأس في الحي وفي القسم معا وهو إلي هذا محبوب أيضا من رجال البوليس.
أعاجيب فهمي
وقد عجبت يوما حينما كلفني بالحضور للدفاع عن سائق سيارة استولي أحد الجنود البريطانيين علي رخصته الخاصة بينما كان سائرا علي ضفة ترعة المحمودية في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
سألته: كيف وقع الحادث؟
فقال السائق وكان موجودا في صحبته: كنت أقود السيارة علي ساحل الترعة بعد منتصف الليل وتعقبني رجل من البوليس الإنجليزي وهو يقود «موتوسيكل» وصاح بي أن أقف فوقفت وسألني عن رخصتي فأطلعته عليها وانتهزت فرصة اشتغاله بالقراءة وعدت أقود السيارة في سرعة فائقة وظللت أضلله وهو يتعقبني حتي أمكنني الهروب في أزقة وطرق ضيقة يجهلها.
قلت: وماذا كان يدعوك إلي الهرب؟
قال: كانت الساعة متأخرة وكنت أود العودة إلي المنزل للراحة وكان يريد الرجل قيادتي إلي القسم حينذاك وأنت تعلم إجراءات الأقسام الطويلة التي تستغرق ساعات بل أياما. والدنيا كما تري برد ومطر، فكيف أقدر علي المبيت في القسم ليلا وأنا مصاب بالروماتيزم؟
قلت: وماذا يدعوك إلي المبيت ما دمت لا تخشي شيئا فإنهم سيطلقون سراحك في الحال؟
قال: هل تظن ذلك يا أستاذ؟
قلت: هل كنت تحمل في سيارتك شيئا؟
قال: لا.
قلت: إذن لماذا هربت من الكونستابل البريطاني؟
قال: خفت منه.
قلت: هذا غير معقول!
قال فهمي: الحقيقة يا أستاذ أن الكرسي الخلفي في السيارة كان مرفوعا من مكانه لأن جلده كان ممزقا وقد أرسلناه للسروجي لإصلاحه.
قلت: وهل في هذا الأمر جريمة؟
قال فهمي: لا . وإنما يظهر أن الكونستابل شك أن في رفع الكرسي شيئا.
قلت. أي شيء؟
قال فهمي: في بعض الأحيان يرفع السائقون هذا الكرسي ليتمكنوا من استعمال السيارة لحمل البضائع.
قلت: وهل كان بالسيارة بضائع؟
قال: لا. أبدا.
فنظرت إليه نظرة استدراجية، فابتسم فهمي وعاد يؤكد - لا وحياتك يا أستاذ لو كان فيه حاجة كنت أطلعتك عليها. مش عيب؟
ولكني لم اطمئن إلي هذا التوكيد إلا أنني كنت استكثر أن يكون من حق البوليس الحربي الإنجليزي أن يستوقف مصريا في الطريق ويطلب تفتيشه أو الاطلاع علي أوراقه.
فما شأن هذا الإنجليزي يقوم بعمل من أدق الأعمال المتعلقة بالبوليس المصري، بل إن في عمله ذاك انتهاكا لحرمة السيادة المصرية الداخلية علي أقل تقدير، وطالما حكمت المحاكم العسكرية ببطلان هذه التصرفات، فحفظ بهذه الأحكام حرمة السيادة المصرية.
وتمكنت من الحصول علي رخصة السائق بعد إجراءات بسيطة وأخيرا أسر فهمي في أذني قائلا:
- تعرف يا أستاذ هذه السيارة كانت بها بضاعة تساوي ألفين من الجنيهات، ولكن ساعة ما استوقفها الكونستابل لم يكن بها شيء .
قلت: إني أري لك شأنا في قسم البوليس وكانت مشكلة استرداد الرخصة سهلة.
قال: الحقيقة نحن نخدمهم وهم يخدموننا.
قلت: أنت عنصر شر وجرثومة فساد حيثما حللت.
قال : خلينا ناكل عيش.
هذا هو «فهمي» الذي جعلته الحرب مجرما اعتاد السرقة من المعسكرات وهو بالتالي أصبح من أغنياء الحرب لأنه يتجرفي المسروقات وقد كسب من ذلك أموالا طائلة واشتري قبل وفاته منزلين، وكثيرا ما كان يعدني بمساعدة حقيقية في المعركة وكان يقول : إنه لولاه لما نجح فلان في الانتخابات السابقة، وأنه هو الذي كان ينزل إلي المقاهي ويجر الناس جرا بالقوة لاعطاء أصواتهم.
تأهب الحاضرون للسير، فخرجنا من الدار الانتخابية، ومشينا في الطريق تسبقنا فرقة الهتافة، ويسير علي رأس الموكب «عبدالجليل» و«عبدالأحد» و«عم عامر» وكاتب المحامي هذا الفتي الأهوج المدعو «جلال».
كان الشارع الذي بدأنا الطواف منه شارعا واسعا وعريضا تتوسطه قضبان الترام، وكانت الساعة التاسعة مساء حينذاك، وكان الجو باردا ونظرت إلي السماء لأتبين صفاءها فإذا بي لا ألمح نجما واحدا يسطع أو يخترق نوره السحاب مما دلني علي شدة أكفهرار السماء وتلبدها بالغيوم الثقيلة، فقد كنا في النصف الأخير من شهر ديسمبر سنة 1944 .
وكان هذا الشارع يفصل بين دائرتين انتخابيتين ولهذا فإننا ما سرنا يجمعنا بضع خطوات حتي سمعنا هتافات مدوية من موكب صاخب تكاثر جمعه وتعددت أفراده ، وكان يتوسط الجموع مرشح لدائرة أخري وقد حمله علي الأكتاف بعض أعوانه، فلما أشرفت علي هذا الموكب الكبير أزداد اتباعي حماسة وظلوا يهتفون في صوت مرتفع مدو، فرأي الآخرون أن يبذونا صياحا وضجيجا، وتقدم بعض أفراد منهم إلي جمعنا يريدون منعنا من الصياح والهتاف، وقال أحدهم موجها الخطاب إلي أحد الهتافين المأجورين من اتباعي:
- أنتظرونا حتي نمر، ولا تعطلوا علينا.
فرد تابعي: انتظروا أنتم.
قال الآخر: أنتم أقبلتم علينا.
قال التابع: بل أنتم الذين أقبلتم، نحن أولا.
وبينما هذان في نضالهما الكلامي الذي حمدت الله علي أنه لم يتحول إلي تضارب وتماسك، كان الجمعان قد مرا كلاهما في طريقه المعارض للآخر.
أما هذا المرشح المحمول فقد لمحني فتبادلنا التحية، ولو أنه كان في عجز وضيق كبير، وكان يتماسك خشية السقوط بأذرع اتباعه الممتدة إليه بينما كان حامله قد أمسك ساعداه بكل من فخذي مرشح الدائرة ، وكان كلاهما الحامل والمحمول يضطرب اضطرابا، خيفة أن ينفلت أحدهما من الآخر.
ويقال إن هذه الطريقة في حمل الاشخاص فوق الأكتاف فيها معني التكريم للمحمول والحامل معا، فالأول يري أن حمله نوع من المجاملة يدل علي حب اتباعه، فهم لا يريدون أن تمس قدماه الأرض أو يقوم بأي مجهود مضن في السير، والثاني يسعده - ولو في شيء من الجهد والنصب - أن يحمل كنزا وأن يبدو رجلا ذا قوة وصلابة تمكنه من حمل المرشح الفاضل.
وعرجنا علي شارع باب الملوك وقد بدأ الهواء يثور مؤذنا بعاصفة وكانت قطع القماش التي تحمل اسمي واسم غيري من المرشحين تلتف حول الخيوط التي تشدها إلي شرفات المنازل وهي معترضة سماء الشوارع وهذه القطع من القماش نوع ثالث من أنواع الإعلان يضاف إلي النوعين الآخرين: الإعلانات الورقية الملصقة علي الحيطان والإعلانات الزيتية المطبوعة عليها.
ومررنا في طريقنا بقهوة الحاج سرور فحيانا هو وزبائنه وقوفا، وكانوا يرددون الهتاف ثم يصفقون، وصاح صبي القهوة «صلي علي النبي» ولا أدري هل كان الإخلاص رائدهم، أم النقود التي دفعتها ليلة جلوسي في المقهي!!؟
صعدنا مع صعود الشارع وأشرفنا علي منزل المنافس، وأشتد صياح الهاتفين وردد الجميع الهتاف في قوة وضجيج صاخب وهم يلوحون بأيديهم، وسرت في مقدمة الموكب في إصرار، شامخ الرأس كأنما أقول «ها أنذا» وكان يسبقني ببضع خطوات الثالوث القوي «عبدالجليل»، «عبدالأحد»، و«عم عامر»، وشاهدت بعض الأفراد يقفون علي منزل الخصم لا يحركون ساكنا، واكتفوا بأن أوقدوا الأنوار التي تحيط بلافتة موضوعة علي شرفة المنزل حتي يري المتظاهرون اسم منافسي واضحا.
فصاح جلال الأهوج: الله ينور عليكم.
وتلبث الصائحون فترة وهم يضجون زيادة في الاعنات والكيد، وأخيرا جاوزنا المنزل بسلام، وحمدت الله علي السلامة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.