«معيط» من واشنطن: منظومة التأمين الصحي تستهدف حماية كل أفراد الأسرة المصرية    «مجموعة ال7»: نتابع بقلق بالغ العدد غير المقبول للمدنيين الذين قتلوا بغزة    رئيس بعثة الأهلي يشكر السفير ويشيد بجهود السفارة المصرية في الكونغو    الأهلي يواجه أويلرز الأوغندي في أول لقاءاته ببطولة ال«Bal»    إحباط ترويج 24 كيلو حشيش وضبط تاجر مخدرات بالإسكندرية    ضبط شخص بتهمة النصب والاحتيال على المواطنين في القليوبية    دعاء يوم الجمعة مكتوب.. «اللهمّ افتح لنا خزائن رحمتك»    توريد 799 طن قمح لصوامع وشون القليوبية وحصاد 15 ألف فدان    هل الخميس المقبل إجازة رسمية؟.. الموعد الرسمي لعطلة عيد تحرير سيناء 2024    وزير الخارجية يعقد جلسة مشاورات سياسية مع نظيرته الجنوب إفريقية    CNN: إسرائيل تحتاج لدعم كبير من الحلفاء للدخول في حرب شاملة بالشرق الأوسط    بولندا تعلن إقلاع مقاتلات لتأمين مجالها الجوى خلال هجوم روسى على أوكرانيا    بايدن يدرس إرسال أسلحة جديدة بأكثر من مليار دولار لإسرائيل    تحطم طائرة عسكرية روسية ومصرع أحد أفراد طاقمها    بدء تطبيق الأسعار الجديدة ل الخبز السياحي والفينو اعتبارا من الأحد    196 عمارة بمدينة بدر لسكن موظفى العاصمة الإدارية بنسبة تنفيذ 98.5%    نجمة يد الأهلي: هدفنا الفوز بكأس الكؤوس.. ومواجهة بريميرو صعبة    "الانتداب البريطاني انتهى".. رسائل نارية من محمود عاشور لبيريرا    اتفاقية بين تيدا وشين فنج لإنتاج ألياف البوليستر والفايبر جلاس باقتصادية قناة السويس    بمشاركة وزير الشباب.. الجامعة البريطانية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي يطلقان أكبر ماراثون رياضي    جاري ضربني بالنار.. الأمن العام يضبط المتهم بقتل شخص في أسيوط    «الأعلى للجامعات التكنولوجية»: وضع إطار عام للوائح وتعميم الساعات المعتمدة بجميع البرامج التعليمية    هل يعود الأحد يوم عمل للموظفين «أون لاين» من المنزل؟.. الحكومة تحسم الجدل    قضايا القليوبية في أسبوع| المؤبد لشقيقين قتلا مواطنًا بعد سرقته .. الأبرز    إلغاء تحليق رحلات البالون الطائر بالبر الغربى لشدة الرياح صباحا بسماء الأقصر    رحيل صلاح السعدني.. حكاية رسوبه في أول اختبار تمثيل    10 مايو.. تامر عاشور والعسيلي بحفل شم النسيم    رئيس الوزراء يستعرض خطة «الثقافة» لتفعيل مخرجات الحوار الوطني    قانون التأمين الموحد وموازنة وخطة 24/ 25 على مائدة مجلس النواب.. ووزيرا المالية والتخطيط يعرضان البيان المالى للموازنة والخطة الإثنين.. وخطة النواب: 5.2 تريليون جنيه إيرادات متوقعة بمشروع الموازنة    أعراض التهاب الجيوب الأنفية على العيون.. تعرف عليها    غداء اليوم.. طريقة تحضير كفتة الدجاج المشوية    بث مباشر.. نقل شعائر صلاة الجمعة من مركز منوف بمحافظة المنوفية    كاسيميرو: أنشيلوتي بكى بعد قرار رحيلي عن ريال مدريد    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    قافلة طبية مجانية لفحص وعلاج أهالي «سيدى شبيب» شرق مطروح.. السبت المقبل    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الجمعة في الأسواق (موقع رسمي)    ميرنا نور الدين تخطف الأنظار بفستان قصير.. والجمهور يغازلها (صورة)    "الزمالك مش أول مرة يكسب الأهلي".. إبراهيم سعيد يهاجم عمرو الجنايني    أزمة نفسية.. تفاصيل إنهاء فتاة حياتها بحبة الغلة في أوسيم    ألونسو: مواجهة ريال مدريد وبايرن ميونخ ستكون مثيرة    20 مدرسة فندقية تشارك في تشغيل 9 فنادق وكفر الشيخ وبورسعيد في المقدمة    مخرج «العتاولة» عن مصطفي أبوسريع :«كوميديان مهم والناس بتغني المال الحلال من أول رمضان»    طلب إحاطة لوزير الصحة بشأن استمرار نقص أدوية الأمراض المزمنة ولبن الأطفال    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 19 أبريل 2024.. «الدلو» يشعر بصحة جيدة وخسائر مادية تنتظر «السرطان»    وزير المالية يعرض بيان الموازنة العامة الجديدة لعام 2024 /2025 أمام «النواب» الإثنين المقبل    «التوعوية بأهمية تقنيات الذكاء الاصطناعي لذوي الهمم».. أبرز توصيات مؤتمر "تربية قناة السويس"    حرب السودان.. كلفة اقتصادية هائلة ومعاناة مستمرة    «العشرية الإصلاحية» وثوابت الدولة المصرية    أخبار الأهلي : موقف مفاجئ من كولر مع موديست قبل مباراة الأهلي ومازيمبي    مخرج «العتاولة»: الجزء الثاني من المسلسل سيكون أقوى بكتير    فاروق جويدة يحذر من «فوضى الفتاوى» وينتقد توزيع الجنة والنار: ليست اختصاص البشر    والد شاب يعاني من ضمور عضلات يناشد وزير الصحة علاج نجله (فيديو)    الجامعة العربية توصي مجلس الأمن بالاعتراف بمجلس الأمن وضمها لعضوية المنظمة الدولية    دعاء للمريض في ساعة استجابة يوم الجمعة.. من أفضل الأوقات    سكرتير المنيا يشارك في مراسم تجليس الأنبا توماس أسقفا لدير البهنسا ببني مزار    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    نبيل فهمي يكشف كيف تتعامل مصر مع دول الجوار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانتخابات في مصر معركة حربية تستخدم فيها كل الأسلحة.. وفي مقدمتها سلاح الفتوات
نشر في القاهرة يوم 30 - 11 - 2010

غرفة المحامين بمحكمة الإسكندرية الوطنية غرفة واسعة الأرجاء، بل هي غرفتان بعد أن أزيل الحاجز البنائي الذي كان يفصلهما فأصبحتا غرفة واحدة كبيرة لها أربع نوافذ، تطل إحداها علي تمثال إسماعيل العظيم الذي أقامته الجالية الإيطالية وقدمته هدية إلي مدينة الإسكندرية اعترافا منها بجميل هذه المدينة العظيمة علي الرعايا الإيطاليين.
والتمثال فخم وعظيم يمثل الخديو واقفا وواضعا يده علي سيفه وتحيط به أعمدة كثيرة توحي بأن رئيس الدولة واقف في بهو ملكي في يوم من أيام التشريفة الكبري.
وأما النوافذ الثلاث فإنها تطل جميعا علي خليج الميناء الشرقية من البحر الأبيض المتوسط وكان يلوح في رأسي الخليج ذلك الحصن الأثري الخالد المسمي ب «طابية قايتباي» هذه القلعة البحرية التي ظلت قائمة علما علي مجد غابر ولم يقض عليها الأسطول الإنجليزي في يوم لن ننساه وهو يوم 12 يوليو سنة 1882 قضاء تاما حينما ضربها بمدافعه الضخمة قبل أن يبدأ الاحتلال الإنجليزي لهذا الوطن العزيز.
وقد رأت الحكومة أن تعيد إلي الحصن جماله القديم وزخارفه العربية الأولي فبدا من بعيد كأنما هو مسجد من المساجد الأثرية الفخمة ولو أنه قد وضعت فيه بطارية للأنوار الكاشفة وأخري للدفاع الجوي.
ولغرفة المحامين سحر علي جميع الزملاء فهي تأسرهم جميعا وتكاد تقعد بهم عن مباشرة أعمالهم ذلك لأنهم إذا ما جلسوا يتحدثون فإنهم ينتقلون من موضوع إلي آخر والحديث ذو شجون، فإذا بالزمن يمضي سريعا وإذا هم يقومون متراخين كسالي يتمطون.
ومن عجيب أن المحامين احتفظوا بإخوتهم رغما من تباين نزعاتهم الحزبية والسياسية فالسعدي والوفدي والكتلي والوطني جميعهم اخوان متحابون يتبادلون الملح والفكاهات والنوادر دون أن تؤثر عليهم ألوانهم الحزبية تأثيرا ما، ولا يمنع هذا القول من أن نقرر أن بعضا منهم لا تنسجم روحه مع البعض الآخر، وأن عدم الانسجام هذا لم يكن يؤدي في أي حال من الأحوال إلي التدابر والقطيعة بل كانت روح الألفة تغلب علي اجتماعاتهم.
حوار المحامين
وكلما اقصتني المعركة الانتخابية عن غرفة المحامين أحسست احساسا جارفا يدعوني إلي التردد عليها حتي أرفه عن نفسي بعض ما نلاقي من متاعب الانتخاب، وكنت أجد في الإفاضة إلي اخواني بمتاعبي ترويحا وارتياحا وكانوا يستقبلونني دائما بالترحاب ويطلبون مني أن أطلعهم علي المراحل التي قطعتها في الدعاية الانتخابية وكنت أقول:
اعلموا أيها الإخوان أن المعركة الانتخابية حرب حقيقة لا تقل عن الحرب القائمة الآن بين ألمانيا وانجلترا عنفا وشدة، وأن اسلحتي فيها هي نفس أسلحة الألمان، دعاية واسعة النطاق، جستابو، قنابل مدمرة، طائرات تلقي منشورات، طائرات تلقي قنابل محرقة، دبابات تقتحم الاستحكامات وأخيراً جنود المشاة يحتلون المدن والبلاد جميعا.
كان يستمع الاخوان إلي هذا التنظيم الحربي وهم يقهقهون، فكنت أعود بالحديث، ألا تصدقون إذن فاعلموا بأني بدأت الحملة بمنشورات أوزعها علي جمهور الناخبين في دائرتي فهناك المنشور رقم واحد والمنشور رقم 2 والمنشور رقم 3 والمنشور رقم5 .
وأردت بالمنشورات أن أقتحم الأذهان وأن أبلغ إلي القلوب وأن أهز النفوس، فإذا ما عبدت الطريق بهذا الأسلوب من أساليب الدعاية سرت بالمواكب والمظاهرات وألقيت الخطب الرنانة ونثرت الوعود وأخذت علي نفسي المواثيق، فإذا ما اشرأبت الأعناق وأصاخت الآذان ووعت القلوب هجمت هجوما عنيفا علي المنافسين الآخرين بعد أن أكون قد بثثت الأعوان في المقاهي والمساجد والأماكن يهيئون الأذهان ويستدرجون الناخبين.
كان الاخوان يستمعون إلي وهم ذاهلون ويخيل لي أنهم كانوا يقولون فيما بينهم وبين أنفسهم إن هذا الإنسان سوف ينجح.. إنه يتحدث في روح قوية، وكان العقلاء منهم يقولون: الله ياخذ بيدك، وكان الماليون منهم يقولون: كم أنفقت حتي الآن؟ وكان الرحماء المتعاطفون يقولون: عال خالص، قد سمعنا عنك ما سرنا، ان شاء الله نهنئك قريبا.
وكانوا يتلقفون جميعا منشوراتي، ومنهم من يمدح ، ومنهم من يقدح ومنهم من يتبسط في السخرية فيقول:
- أهلا بالمسجون رقم 375، أظن أن الناخبين لما وجدوا أنك دخلت السجن قالوا عنك دا وش سجون؟
ويقول آخر: وما هذه العبارة التي كتبتها في المنشور الأول: «وقد شب عن الطوق في شوارعكم» إية الطوق ده؟ أظن دا الطوق اللي كنت بتدحرجه في الحارة؟ هل الناخبون يعرفون شب وطوق؟
يا شيخ استعمل لهم ألفاظا وعبارات يفهمونها .. قال شب عن الطوق قال . طب والنبي دا الأستاذ فلان لما قرأها لم يفهمها!!
ويقول ساخر ثالث: انت واخد المسألة جد قوي وأتعبت نفسك علي غير طائل ألم يكن الأولي بك أن تنظر في شئون مكتبك وتوفر متاعبك ومالك!!
ويقول آخر: ألم نقل لك إن مفيش فايدة، وانت كان مالك دي مهزلة يا شيخ.
ومن عجب أنه رغما من هذه التعليقات المختلفة تقدم للترشيح في دوائر الإسكندرية العشرة إثنان وأربعون مرشحا من بينهم ستة عشر محاميا ولم ينجح من هؤلاء جميعا غير اثنين من المحامين والباقون من غير المحامين!!
وكانت غرفة المحامين أشبه بناد يعج بالكثير من الأعضاء ويضج بالألوان المختلفة من الأصوات، والصور المتعددة للشخصيات، فمن المحامين من كان وزيرا أو وكيل وزارة أو مستشارا أو قاضيا ومنهم من كان دون ذلك.
ومنهم من عاصر المحاماة منذ أيامها الأولي، ومنهم من لم يقيد إلا منذ أيام.. ومنه من له مكتب.. ومنهم من لا مكتب له، ومنهم العالم المتواضع، ومنهم غير ذلك.
ومن المحامين عدد كبير تولي كراسي الوزارة فرفعوا من شأن المحاماة وهم يترددون علي غرفة المحامين فهي غرفتهم التي تحنو عليهم سواء شغلوا منصب الوزارة أو تخلوا عنه.
والوزير من المحامين ترتسم علي سماه مسحة من طابع خاص لم تكن له قبل أن يكون وزيرا فهو متحفظ لا يتمادي في الفكاهة وهو إن ضحك فلا يغالي وأغلب ضحكه ابتسامة متزمتة، وهو معذور في التحول الذي بدا علي شخصه، فإن روح الديمقراطية التي تسبغها المحاماة علي أبنائها قد تأثرت إلي حد كبير بضخامة مركز الوزير الذي في يده الحل والربط وفي يده الأمر والنهي وفي يده العقاب والثواب وتحت أمره كبار الموظفين وصغارهم علي السواء.
وإذا عاد الوزير إلي غرفة المحاماة محاميا قال الذي يسعده أن يتشفي:
- خليه يرجع هنا تاني وأنفه راغم، دا كان طالع فيها قوي.
وليس ثمة عداء بين المحامي الذي واتاه الحظ فأصبح وزيرا زمنا ما وبين المحامي الذي لم ينل هذا المركز السامي وليس من سبب للتشفي إلا العاطفة البشرية التي يسمونها الحسد.
الدائرة أصبحت في جيبي
وكنت إذا دخلت غرفة المحامين يصيح بي الزملاء:
- هل من منشور جديد، ما أخبارك؟
فكنت أجيبهم: أخبار عال، اكتساح يا أفندم، اقتحمنا الاستحكامات وأغرنا علي العدو في موطنه، الدائرة أصبحت في جيبي.
ولم أكن المرشح الوحيد الذي كان يقول بأن الدائرة أصبحت في جيبه.
كان كل مرشح من المحامين يقول: بأن الدائرة في جيبه.
وكنا نحن المرشحين نتحدث فيما بيننا عن الدوائر الانتخابية كأنها ضياع نملكها ونسيطر عليها فكنت أقول «دائرتي» وكان غيري يقول «دائرتي» وكنا إذا سرنا في الشوارع نقول هذا الشارع داخل ضمن دائرتنا أو كان يقال لي: هذا شارعك يا أستاذ وهذه الجهة تابعة لك وهؤلاء العمال تابعون لك وهذا المصنع تابع لك.
وكانت هذه العبارات تبعث علي الزهو والخيلاء وكانت تجعلني أحس وأنا أسير في شوارع الدائرة أو وأنا أجلس في مقهي من مقاهيها أو وأنا أزور ناخبا في داره أن الشارع لي والمقهي ملكي والدار داري.
وكنت إذا ما وقفت أخطب في أي شارع أو أي مقهي أو أي دار كنت أقف وقفة المالك في ملكه منتفخ الأوداج مصعر الخد ألقي الكلام إلقاء عنيفا ولو أني كنت أصطنع التواضع فأشكر السامعين في الشارع، وصاحب المقهي في مقهاه، ومالك الدار عني كرم استقباله.
إن فترة الترشيح كانت فترة قصيرة جعلتني أحس في نفسي بأني مسيطر علي دائرة انتخابية عدد سكانها ستون ألفا من الأنفس وعدد أصحاب الأصوات فيها ثمانية آلاف تقريبا، وهو احساس وقتي انقضي في يوم المعركة الحاسم أو قضي عليه في ذلك اليوم المشهود وكان انقضاء هذا الاحساس مؤلما حقا.
تعديل القانون
دخلت يوما ثائرا في غرفة المحامين وكنت أردد هذه العبارة:
- يجب تعديل قانون الانتخاب.
فقال مرشح سعدي: عندك حق يجب تعديل قانون الانتخاب، وقال مرشح كتلي : لا نزاع في هذا ، أن قانون الانتخاب الحالي لا يصلح مطلقا أساسا لأية عملية انتخابية.
وكان يستمع إلي هذه الثورة محام وفدي، كان من قبل نائبا، ولم يحاول هذه المرة دخول المعركة الانتخابية لسببين: أولهما أن الوفد أصدر قرارا بمقاطعة الانتخابات وألزم جميع اعضائه بوجوب الخضوع له فخضعوا.
وأما السبب الثاني فهو لأنه يقول بأنه ذاق الأمرين في الانتخابات السابقة، فهو لا يفكر مطلقا في دخول المعركة بل هو يري أن المجانين وحدهم هم الذين يدخلون المعارك الانتخابية، ثم هو إلي جانب هذا يري أنه الآن في فترة استجمام وراحة ولا يريد أن يعكر صفو هذه الفترة شيء، ثم هو يري أيضا أن قانون الانتخاب الحالي واجب التعديل.
سأل الذين لا يدرون عن المعركة الانتخابية شيئا: لماذا؟
قلت: تصوروا أيها الاخوان أن المعركة الانتخابية ليست معركة مباديء وإنما هي معركة بين الفتوات، وقد حدثت زميلي الأستاذ فلان أن يوصي موكله بمناصرتي، هل تعلمون من هو موكله؟ إنه ولد فتوة اسمه «مَكَنهْ»!!
فضحك الزملاء وتساءلوا: اسمه «مكنه» صحيح.
قلت: نعم.. وهل تظنون أن اسم «مكنه» هو الاسم الغريب الوحيد؟
وفي أثناء ذلك حضر محامي «مكنه» واشترك في الحديث وقال بأنه أقنع موكله بوجوب معاونتي، ولكنه أضاف إلي هذا أن «مكنه» يطالبني بأن أشمله بنظرة.
قلت: هل سمعتم يا اخواني؟ الصرف، الفلوس وفي كل مكان.
قال المحامي السعدي: سيكون أول عمل لي في المجلس هو تعديل القانون.
وقال المحامي الكتلي: والله لو فعلت هذا لثار الوفد.
قال المحامي الوفدي: لماذا؟ ألسنا مقتنعين بوجوب التعديل؟
قال الكتلي: اطلع من دول .. هل تظن أنكم ستقرون التعديل؟ بالعكس.. سوف تثورون وتقولون بأننا قوضنا دعائم الديمقراطية وأننا فضلنا مصريا علي مصري آخر، وتتخذون تعديل قانون الانتخاب وسيلة للطعن في حكم الأحزاب المؤتلفة، وإلا فلو كنتم مقتنعين بوجوب التعديل فلماذا لم تنفذوا الفكرة أثناء حكمكم؟
قال الوفدي: السبب في هذا هو أننا لا نثور علي قانون الانتخاب إلا يوم الانتخاب، وإذا ما انقضي هذا اليوم هدأت الثورة.
مندوب جابر أفندي
وفي أثناء هذا الحديث أقبل فراش غرفة المحامين ينبئني بأن أحدا من الناس يطلبني فخرجت من الغرفة وإذا برجل طويل القامة يرتدي حلة نظيفة يحييني، فرددت تحيته وأنا أحاول أن أتذكر معرفته، ولكني أخيرا قطعت بأني لم أره من قبل.
قال الأفندي: أنا موفد من جابر أفندي.
قلت: ومن هو جابر أفندي؟
قال: جابر أفندي الذي رفع دعوي علي الغرفة التجارية، ألست حضرتك محامي الغرفة؟
قلت : نعم.
قال: أرسلني جابر أفندي لأخطرك بأنه علي استعداد تام لمساعدتك في الانتخاب، لأنه متصل بالكثير من أهالي الدائرة المثقفين ولديه عمال كثيرون يقطنون بها.
قلت: متشكر جدا.
إلا أنني دهشت حقا للباعث علي هذه المساعدة!! ولكن محدثي لم يدعني في دهشتي طويلا بل استمر قائلا: - ولكن جابر أفندي يرجوك ألا تقسو عليه في دفاعك ضده وأن تساعده.
قلت : شيء جميل يا أفندي.. أهذه رشوة أم ماذا؟ اسمع يا أفندي إن المهمة التي كلفك بها جابر أفندي مهمة وضيعة، وما كان يصح أن تكون رسوله فيها، عد إليه وأخبره أنني أرفض مساعدته ولو كان جميع سكان الدائرة من اتباعه، وأنه سوف يخسر قضيته إن شاء الله.
وقد كان.
التحدي
كانت تطلع علينا جريدة «الأهرام» صباح كل يوم خلال الفترة المحددة للمعركة الانتخابية وفيها إعلانات كثيرة عن المرشحين في مختلف الدوائر، وقد كان بعض هذه الإعلانات موعزا به من المرشحين، وبعضها يوقع عليه المرشحون أنفسهم.
أما الإعلانات الموعز بها، فمثالها أن تقرأ:«اجتمع لفيف من أهالي دائرة كذا وقرروا إقامة حفلة تكريم للمرشح فلان» أو «سافر المرشح فلان إلي دائرته الانتخابية في الصعيد تلبية لدعوة أهالي الدائرة» أو «تنازل فلان عن ترشيح نفسه في دائرة كذا حينما وجد أن فلانا المرشح عن هذه الدائرة هو أصلح من يمثلها في البرلمان» أو «أن المرشح فلان قد استخار الله ونزل علي رأي الدائرة ورشح نفسه عنها».
إن هذه الإعلانات وأمثالها هي بلا نزاع أسلوب من أساليب الدعاية، ولكن الإنسان ليتساءل هل يقرأ الناخبون هذه الإعلانات وبمعني آخر هل هذه الإعلانات مجدية حقيقة أو ذات أثر فعال.
إن الذي كنت أعلمه علي وجه التحقيق هو أن المطلع عليها قليل في الدائرة الانتخابية بالنسبة لعدد الناخبين، إلا أن هذا النفر القليل كفيل بأن ينقل أخبار الجرائد بالنسبة لعدد الناخبين إلا أن هذا النفر القليل من القراء كفيل بأن ينقل أخبار الجرائد إلي الذين لا يقرءون وقد يكون هذا النفر القليل وسيلة من وسائل الدعاية.
لهذا استقر رأيي علي أن أنشر إعلانا من هذه الإعلانات وبخاصة حينما أطلعت في جريدة «الأهرام» علي إعلان لأحد المنافسين في دائرتي وكان الإعلان يقع في عشرة أسطر وفي بعض الأحيان كان ينشر إعلانا يتكون من خمسة عشر سطرا، في الوقت الذي كنت أقرأ فيه إعلانات مختصرة كل الاختصار.
لما أن صحت عزيمتي علي النشر تناولت سماعة التليفون وحدثت مندوب «الأهرام» في الإسكندرية فعلمت منه أن أجر السطر الواحد المكون من خمس كلمات .. جنيه واحد.
يا للداهية .. أجر السطر جنيه.
أيدفع خصمي عشرة جنيهات أو خمسة عشر جنيها عن عشرة أسطر أو خمسة عشر سطرا؟ إن هذا المنافس مجنون .. كيف يبذر نقوده هذا التبذير؟!! ألا يؤلمه هذا الإنفاق الطائش؟ أم أنه لم يكن يتعب في الحصول علي المال؟
ترددت في النشر .. ولكن عدم النشر يوحي بالعجز إذن لا محيد عن النشر ولو بضعة أسطر.
جلست إلي مكتبي أحرر إعلانا، لكن ماذا أكتب؟
دار في خلدي أن خير الكلام ما قل ودل، وليكن الإعلان أشبه ببرقية.
سطرت كلاما طويلا له معني كبير، ثم اختزلت الكلام الطويل ذا المعني الكبير، ثم عدت واختزلت الكلام الطويل ذا المعني الكبير.
وأخيرا وفقت إلي وضع إعلان يقع في أربعة أسطر، ولا أري حرجا من تدوينه في هذا الكتاب.
أيها المرشحون: أتحداكم.
«تعالوا اخطبوا الناخبين إذا قدرتم.. وانشروا معي صحائفكم وما أنتم بقادرين، وللنتيجة عالمون » ثم الإمضاء.
كان لهذا الإعلان أثر بالغ علي القراء جميعا، سواء من كانوا ناخبين في الدائرة أو غيرها من الدوائر أو غير ناخبين.
قال المحامون في غرفة المحامين: ما هذه الفتونة؟
وقال أحد حضرات القضاة: أتستهين بخصومك إلي هذا الحد؟
وقال أحد المرشحين : هذه قلة أدب!!
وقالت إحدي الجرائد الأسبوعية: تحدي أحد مرشحي الحزب الوطني خصومه بأن يقف أحدهم ليخطب إذا أمكنه ذلك، لأنه يعلم أنهم لا يعرفون كيف يتكلمون.
أما أهالي الدائرة.. فكانوا يضحكون ويقولون: عنده حق.
ومن عجيب المصادفات أن تعقد سوق عكاظ في اليوم الذي نشرت جريدة «الأهرام» هذا التحدي الذي كلفني خمسة جنيهات أو أربعة وقدرت أن هذا المبلغ يوازي تقريبا مصاريف إحدي الجولات الليلية القصيرة، وكان له أثر بالغ علي الأذهان، ولهذا فإني سررت سرورا كبيرا، وأعتقد أني قد خطوت خطوات واسعة في سبيل الفوز.
وقد زارني كاتب المحامي الأهوج المدعو «جلال» وطلب مني أن أزور المعلم «حسن الحلاق».
قلت : ومن يكون «المعلم حسن»؟
قال: هو رجل طيب ومن أصحاب الرأي في الجهة ويقع حانوته خلف منزل منافسي وإن زيارته سيكون لها أثر خطير إلي الناخبين وعلي سكان الشارع جميعهم، وقد اتفقت معه علي هذه الزيارة، ويجب أن تلاحظ يا أستاذ أن زيارتك الفردية لها تأثير كبير علي الناخبين فيتهامسون ويقولون بأنك رجل ديمقراطي وأنك غير متعال عليهم.
قلت : حسن، سأزور هذا الحلاق في مساء اليوم بعد انتهاء عمل المكتب.
ثم ضحكت فيما بيني وبين نفسي من استعمالي لعبارة «انتهاء عمل المكتب» ففي الواقع وحقيقة الأمر لم يكن للمكتب أي عمل بعد أن قررت الترشيح، وبعد أن استغرقت المعركة جميع وقتي تفكيرا وعملا.
لقد تحول المكتب من مكتب للمحاماة إلي مركز قيادة لميدان من ميادين القتال، يجلس فيه القائد - الذي هو أنا - وأمامه رؤساء الفرق والجنود.
هذا هو الخطاط قد أقبل يعرض علي نماذج من خطه وهو يباهي به ويقول بأنه ليس خطاطا ككل كتاب اللافتات بل هو خطاط موهوب ومن حملة الشهادات العالية من مدرسة تحسين الخط.
وهو هاو وليس من المحترفين، وهو لا يريد إلا مصاريفه فقط، هذه المصاريف التي يقدرها بمبلغ يفوق اضعاف المبلغ الذي يطالب به الخطاط المحترف.
وهذا السيد أفندي خطيب الحفلات يسألني أي الجهات ينتظر أن أمر فيها حتي يصحبني إليها ليسبقني إلي خطاب السامعين.
وهذا «عبدالرؤوف» مشير الدولة.
وهذا المعلم «زكي» مستأجر الفتوات.
وهذا «عبدالجليل» وأصحابه.
وهذا محمود وغيره من المأجورين، ممن يتكدسون في مكتبي تكديسا ويستحوذون علي جميع المقاعد والكراسي والغرف، فإذا ما حضر أصحاب القضايا والأعمال ورأوا هؤلاء القوم فروا هاربين.
وإذا ما أقبل عميل جديد يريد مقابلتي كنت أقول له: إنني الآن لا أشتعل محاميا، وأنه إن كان في ميسوره الانتظار حتي تنتهي المعركة فله أن يعود ليكلفني بعمله، أما إذا كان في سرعة وعجلة فيحسن به أن يوكل محاميا آخر لأنني مشغول بالانتخابات.
وكنت أحاور نفسي: إذا كنت الآن أضحي بالمئات من الجنيهات في سبيل كسب المعركة الانتخابية فليكن إيراد هذا الشهر الذي تدور فيه المعركة من ضمن المبالغ التي أبذلها في سخاء والتي لا أحس في ضياعها ألما كأنما لم أكد أو أتعب في الحصول عليها، وكأنما ورثتها من أباء مجدودين.
أطعت جلالا وأنا كاره لأني أعلم رعونة هذا الكاتب وعدم وزنه الكلام بميزان العقل، وركبت سيارة مع بعض الأنصار وركب آخرون سيارة أخري حتي إذا ما وصلنا إلي دكان الحلاق الذي يقع خلف منزل منافسي وجدناه معلقا.
لم أر حينذاك جلالا. وسألت عنه فلم يدلني أحد علي مكانه.
فقال عبدالرؤوف: يا أستاذ أنت غلطان، ألم تلاحظ أنه سكران!
نعم.. كان جلال ثملا إلي أبلغ حدود الثمل، ولا أدري كيف لم أفطن لهذه الحقيقة !! إن جميع أوقاته يقضيها في شرب الخمر ، وكانت النقود التي يستولي عليها مني يبددها علي موائد الخمر مع أنه كثيرا ما يتحدث عن أملاكه الشاسعة وكرم محتده، ولولا سوء الحظ لكان مثل فلان الذي أصبح قاضيا، وفلان الذي صار مهندسا، وفلان الذي يعد من كبار الأطباء، فهؤلاء جميعا وغيرهم كانوا زملاءه في الدراسة.
هذا المعتوه جلال خدعنا وكنت أتميز من الغيظ، واشتد بي الحنق حينما لم أجده أمامي لأصب عليه جام غضبي، ولكن ما هذا الجام الذي كان مملوءا غضبا، والذي رغبت أن أصبه عليه؟! هو مجرد كلام رجل غاضب مخدوع ليس غير.
عدت أدراجي وكان يصحبني عدد من الأفراد وقد قررت العودة إلي منزلي وحمدت الله أنه لم تكن ثمة جولة تستغرق زمنا طويلا، ولعل الله أراد بي خيرا وأرادني علي الذهاب مبكرا لينال جسمي شيئا من الراحة.
ومررت في طريق عودتي بشارع ساطع الأنوار.
قلت: ما هذه الأنوار؟
قال عبدالرؤوف: هذا سرادق أقامه الحاج «حسين العواد» بمناسبة عودته من الحج.
قلت: هل هناك مانع من أن نجلس فيه لنسمع آي الذكر الحكيم؟
قال: لا مانع مطلقا.
ثم إني خلتها فرصة يراني فيها الناخبون من سكان الدائرة المجتمعون في هذا السرادق يستمعون لتلاوة القرآن الكريم.
دخلنا السرادق وحاول «عبدالرؤوف» أن يهيئ لي مكانا في الصدر ولكني أفهمته أنني أود أن أندس في وسط السامعين، إلا أن دخولي في جمع من أنصاري لفت النظر إلىّ، وسرت همهمة وغمغمة بين الجالسين وإذا بالأنظار تتجه نحوي وتطاولت الأعناق مشرئبة تحاول النظر إلىّ بعد أن جلست مختفيا في وسط الجالسين وكان الذي لا يعرف مكاني يسأل من سبق له أن رآني: أي الجالسين هذا المرشح؟ فيقال له: هذا الذي يضع منظارا ، فيكون السؤال الثاني: « في أي صف؟» فيرد عليه: يا أخي الأفندي الذي يضع منظارا وهو حليق الشارب. فيقال: أنا لا أراه. فيرد عليه: هذا الذي يحمل كوب الماء. فيقال: نعم. نعم. لقد رأيته، يقولون عنه أنه محام؟ فيرد عليه: آه يا سيدي.
ومال علي أحد الجالسين: شرفت يا أستاذ.
فنظرت إليه وقلت: متشكر.
وجاء «عبدالرؤوف» يقود رجلا يضع علي رأسه عقالا وقدمه إلي وهو يقول:
- الحاج «حسين العواد» يرغب في رؤيتك يا أستاذ فنهضت واقفا وسلمت علي الحاج وقلت: الحمد الله علي سلامتك يا حاج. مبروك.
فقال الحاج: العقبي لك يا أستاذ.
قلت: متشكر.
ثم جلست وقد لفت قيامي وجلوسي الأنظار إلىّ وإلي مكاني ورأيت علي البعد أفنديا يحييني فعرفت أنه أمين صندوق جمعية البر والتقوي، وقد عرفني به المعلم «زكي»، وتقدم إلىّ فيما بعد يعرض علىّ مساعدته، ثم سألني عن المطبعة التي أطبع فيها إعلاناتي ومنشوراتي، وعلمت من هذا السؤال أنه صاحب مطبعة، وأنه مستعد لأن يقوم بطبع جميع ما أريد بأسعار متهاودة، فكلفته بطبع خمسمائة إعلان من إعلانات الحوائط الكبيرة، وكنت أقصد بهذا التكليف أن أنال نصيرا جديدا من أبناء الدائرة، كما أنه كان يريد بالتحية أن يقتنص زبونا جديدا.
وكان الحج يقطع السرادق جيئة وذهابا بين صفي الكراسي يحيي الجالسين الذين كان يبلغ عددهم المئات، ولم يكونوا جميعهم من أصدقاء الحاج وإنما كانوا من سكان الجهة الذين نمي إلي علمهم أن الحاج حسين قد أقام سرادقا بمناسبة عودته من الطواف بالبيت الحرام وأنه قد استأجر ثلاثة من كبار المقرئين وأن أحد هؤلاء الثلاثة الشيخ عبدالله المقرئ المشار إليه بالبنان في مدينة طنطا مدينة السيد البدوي.
ويظهر أن الحاج كان يعتقد أنه لا يكون حاجا ولا يعرف عنه أنه آت من بلاد الحجاز إلا إذا ارتدي عقالا وبه حجازية ولهذا ارتداهما أو لعله فعل ذلك حتي لا يسأل الناس بعضهم بعضا عنه فكفاهم هذه المؤونة، فكان يروح ويجيء في لباسه الحجازي الفضفاض رافعا يديه بالتسليم يمينا وشمالا وقد بدت علي وجهه سيما التقوي والورع.
ولم أكن أعرف لعبدالرؤوف تلك الشخصية التي كانت له في تلك الليلة فإنه كان يروح ويجيء كأنه صاحب الدار يلقي التحيات ويتقبل التسليمات ويطلب من السامعين ألا يتكأكأ بعضهم علي بعض وألا يزدحموا في الممر الذي يتوسط الكراسي ويشير إلي من يتكلم مطالبا إياه بالسكوت والصمت وأن يستمع إلي تلاوة آي الذكر. ولما أن ختم أحد المقرئين حزبه تقدم إلي مبكر الصوت الذي وضع في السرداق خصيصا لهذه المناسبة وأعلن إلي المستمعين أن الشيخ عبدالله أعظم مقرئ في طنطا سوف يتلو عليهم ما يتيسر من القرآن الكريم وقد ظهر تطفل «عبدالرؤوف» وفضوله عند إعلانه اسم المقرئ فذكر اسمه عبدالكريم بدلا من عبدالله حتي أن أحدا من الجالسين في جواري قال: يا سلام علي الواد الطرابيشي ده دايما مشاغب يتدخل دائما فيما لا يعنيه.
لقد كان «عبدالرؤوف» مشهورا في هذه الحفلات الشعبية وكان يندس فيها جميعا كما بدا لي، وقد عمد إلي مكبر الصوت فوضعه أمام المقرئ تماما فكان هذا مدعاة إلي ظهور الصوت كأن صاحبه مصاب بالبرد والزكام فكان أجش مشوشا حتي طالب البعض بإصلاح المكبر.
ومضي «عبدالرؤوف» يدور هنا وهناك وأخيرا اقترب مني وأسر إلي كلاما، قال بأني إذا أحببت أن ألقي شيئا فليس هناك أي حرج.
قلت : أنا لا أحب انتهاز الفرص.
قال جاري: مافيش مانع أبدا يا أستاذ.
قلت: لا يجوز أن أتكلم في سرادق أقامه حاج لنفسه.
قال عبدالرؤوف: هل تحب نستأذن الحاج حسين؟
قلت: وهل تتصور أني أتكلم قبل استئذانه!!
وكانت ثمة مداولات ومباحثات ، وبعد قليل أقبل شقيق الحاج وعرض علىّ أن أتكلم إذا شئت.
ثم كانت مداولات ومباحثات، وتقدم أخيرا «عبدالرؤوف» وقال: إنه من المستحسن أن تتكلم عن الحج فقط باعتباره فريضة ولا تتعرض مطلقا للانتخابات.
قلت : دعني أفكر وسأنبئك برأيي بعد قليل.
عمدت إلي التفكير وقد أغمضت عيني حتي لا تشغلني المرئيات عن التفكير العميق ورحت أردد فيما بيني وبين نفسي: ماذا أقول؟ لاشك أنها فرصة عظيمة، جمع كبير من الناس من أهالي الدائرة والحديث إليهم خير دعاية، وهذا سرادق فخم ، هذا ميكروفون ينقل الصوت من السرداق إلي مسافات بعيدة عنه وسوف يكون السامعون كثيرين.
وفيما أنا في ذلك إذا بأحد الأعوان يسر إلي أن أحد المنافسين قد أقبل وجلس خارج السرادق في جمع من أنصاره فدعاني هذا الخبر إلي أن أقرر بصفة حتمية أن أقول كلمة ما.
ولكنهم يشترطون أن أتحدث عن الحج فقط، ماذا أعرف من طقوس الحج؟ إنني لا أدري عنها شيئا بل إن القليل الذي أعلمه قد نسيته نسيانا تاما، وكنت أعتقد أن علي المتحدث عن الحج أن يستشهد ببعض آي من القرآن وأنا لم أذكر حينذاك آية واحدة عن هذه الفريضة الكبري.
فرأيت فيما بيني وبين نفسي أن أجعل حديثي عن الحج حديثا من نوع آخر لا يمت إلي الطقوس ولا يحتاج إلي استشهاد بآي الذكر الحكيم أو من الأحاديث، ورحت أفكر وأفكر ولما إن استقر رأيي أخيرا علي الكلام أشرت إلي «عبدالرؤوف» وأفهمته أني مستعد للكلام وأني سأتحدث عن الحج فقط.
قال: هذه مناسبة طيبة جدا، وخصوصا أن الناس سوف يرون الفرق بينك وبين هذا المنافس الذي يجلس الآن خارج السرادق.
استمر الشيخ يقرأ ويقرأ ويتغني بالآيات ويرتلها ترتيلا ويقف وقفات، وجد السامعون فيها شيئا من الصنعة والفن فكانوا يهتفون ويصيحون طالبين من الشيخ ترديدها فكان يرددها وكانوا في كل مرة يتصايحون ويقولون: يا سلام علي ده صوت، أما حنجرة صحيح؟ دا شيء جميل، الله يفتح عليك يا شيخ، وكان بعضهم يصيح بمقرئ الحي أن يشحذ نشاط المقرئ الكبير فيعمد مقرئ الحي إلي تنفيذ الرجاء بأن يهز زميله الكبير هزا عنيفا أو أن يشده عليه شدا أو يحتضنه أو يقبله وهو يهلل ويكبر والمقرئ الكبير يبتسم في سرور وخيلاء فقد سري شعور التقدير له والاعتراف بكفايته بين السامعين جميعا.
وشاء فن المقرئ أن يطيل ويطيل وأن يكرر ترتيل الآية الواحدة عدة مرات وهو لا يعبأ بالزمن دون أن يحس اجهادا أو تعباً بل كان يضع يده علي خده ويلعب بأنامله وهو يهتز يمنة ويسرة كأنما كان يضرب علي مفاتيح البيانو ويستمتع بصدي صوته يرن في أذنيه.
كنت أشير من بعيد إلي «عبدالرؤوف» أن يقبل فإذا ما قدم كنت أسر إليه أن يحاول بوسيلة ما تفهيم المقرئ بأن يختم القراءة إلا أنه كان يجيبني بأنه عاجز عن ذلك كل العجز، فالرجل ضيف علي الإسكندرية وليس من مقرئي الحي وهو لا يري أن يطالبه بالاختصار لأن مجاملة الضيف وأخذه بالعطف واجبة، وهكذا ظل المقرئ يعذبني بإطالته التي لا جدوي منها وكنت متعبا إلي أقصي حدود التعب في تلك الليلة وشاء المقرئ ألا يناله الإجهاد إلا بعد ساعة من زمان وكدت أوشك عندما ختم قراءته أن أنام.
كانت الساعة الحادية عشرة ليلا عندما وقف «عبدالرؤوف» أمام مكبر الصوت وهو يقول:
الآن ستسمعون كلمة من مرشح الدائرة الأستاذ فلان عن الحج والحج فقط، هناك تنبهت من انحلال غامر كاد يتحول إلي نعاس وقمت أجر نفسي جرا ثم وقفت أمام الميكروفون وقد جعلته علي مسافة ما من فمي حتي يكون الصوت صافيا لا خشونة فيه وبدأت مرتجلا.
أيها الإخوان المسلمون:
سعدت الليلة بهذه الفرصة الفريدة التي أتاحت لي أن أمر بهذا السرادق الفخم وأن ألاقي صاحبه الكريم الحاج «حسين العواد» وأن أكون من ضمن المهنئين له بعودته السعيدة من بلاد الرسول «عليه الصلاة السلام» فسرت همهمة بين الحاضرين
- «عليه الصلاة والسلام».
كما شرفني بعض الإخوان بأن دعوني إلي أن أتحدث اليكم عن الحج.
أيها الإخوان المسلمون:
إن الحج فريضة من فرائض الإسلام الكبري وهو فريضة رأي الله جل وعلا أن يكلف بها المسلم تكليفا ذلك لأنه جعل الحج وسيلة لتطهير قلب المسلم الآثم، به يغسل ذنوبه ويعود طهورا ونحن في حاجة إلي الحج أيها الإخوان لتطهير نفوسنا وضمائرنا وقلوبنا.
إننا نريد الحج أيها الإخوان للكثير من الناس.
نريد الحج للوزير الذي يلي الوزارة فينسي مصلحة البلاد ويضحي بها في سبيل مصلحته الذاتية، نريد الحج لهذا الوزير ليطهر نفسه وتسمو سريرته، ولا يري في أغوار تفكيره غير مصلحة واحدة يرعاها ويعلم أنه ما وصل إلي كرسي الوزارة إلا من أجل تمهيد السبل وتعبيد الطرق لتحقيقه هي مصلحة هذا البلد الأمين في شتي صورها وألوانها وعناصرها.
ونريد الحج أيها الإخوان للنائب الذي تطغي مصالحه الخاصة علي مصالح الوطن عامة ومصالح الدائرة خاصة والذي بعد أن ينال ثقة الناخبين ويقتعد كرسي النيابة ينساكم وينسي مصالحكم.
ونريد الحج أيها الإخوان للتاجر حتي تتطهر نفسه وتنقي خوالج حسه فلا يبتغي إلا الربح الحلال ولا تطغي عليه النفعية الجشعة التي تقودها إلي الثروة بابتزاز أموالكم عن طريق السوق السوداء.
ونريد الحج أيها الإخوان للموظف الذي يتخذ من وظيفته وسيلة للثراء غير المشروع بأن يدفع الناس إلي رشوته حتي يسهل لهم الصعب من شئونهم وحاجاتهم.
نريد لهذا الموظف الحج لتطهير نفسه حتي يفهم أن الوظيفة ليست إلا نوعا من السخرة المحبوبة والتكليف الوطني الكريم الذي يقتضي من صاحبه أن يسمو علي جميع الاعتبارات المادية والمغريات الدنيوية.
نريد الحج أيها الإخوان لهؤلاء جميعا ولغيرهم ممن يؤدون أعمالا عامة أو خاصة لتتطهر نفوسهم، هكذا أراد الله الواحد الأحد أن يكون وسيلة لتطهير النفوس الآثمة التي أنزلقت أقدام أصحابها في هوة الإثم والخطيئة لتنقلب نفوسا خيرة لا تبتغي غير الصالح العام، وإني لأدعوكم إلي تأدية هذه الفريضة الكبري لتسمو نفوسكم وتتطهر ضمائركم.
ثم ختمت الخطاب بتهنئة المقرئ الكبير بجمال ترتيله وحسن تلاوته التي شنف بها اسماعنا وجعلنا نقضي وقتا سعيدا كما هنأت صاحب السرادق بحسن استقباله لي وبالخطوة الكبري التي نالها وبهذا اللقب الجديد الذي توج به رأسه.
ثم تلفت للمقرئ وسلمت عليه ومررت بين الصفوف ترقبني الأبصار ولاقيت الحاج «حسين» في منتصف الطريق فسلمت عليه مودعا وخرجت من السرداق دون أن التفت عن يمين أو شمال وعلمت أن منافسي كان جالسا في أحد الجانبين كما علمت فيما بعد أن سائلا سأل هذا المنافس أن يتقدم إلي مكبر الصوت ليتحدث إلي جمهور السامعين فرد عليه بأنه لا داعي لهذا الحديث، قيل له. ولكن منافسك قد تحداك في الجرائد بأنك لا تقدر علي الخطاب فعليك أن تعتلي المنبر وترد عليه فأجاب بأنه لم يقل شيئا حتي أرد عليه وهو لم يتحدث إلا عن الحج ولو قد قال شيئا عن الانتخابات لرددت عليه.
وأخيرا اقنعه أحد المشيرين أن يقوم ويهنيء الحاج «حسين» بعودته من الحجاز والأمر لا يستلزم غير كلمتين فقط.
وقد اختلف الرواة فبعضهم قال بأن المنافس وقف أمام مكبر الصوت وهنأ الحاج بعودته من الحجاز وبعضهم قال بأنه كلف بعض أعوانه بأن يهنيء الحاج علي لسانه.
والتزم انصاري جادة الصواب والحكمة فلم يهتف أحدهم أي هتاف أو يصفق أي تصفيق عند إلقاء الخطاب بل اصطنعوا السكينة والهدوء ولما أن خرجت من السرادق دوت هتافاتهم وسرنا في مركب صغير فساء هذا العمل أنصار المنافس، فتبعونا عن قرب وهم يهتفون لخصمي وكانوا يحاولون أن تعلو أصواتهم علي أصوات أنصاري وقد حاول هؤلاء أن ينزلوا فيهم ضربا ولكني نصحتهم بالكف عن الأذي وأن يقفوا جانبا حتي يمر الآخرون.
وقد أصبحت هذه الخطبة فيما بعد مشهورة باسم خطبة الحج، وكان لها دوي في الدائرة لا لروعتها بل للظروف التي ألقيت فيها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.