يقول المدافعون عن مشروع الجنرال دايتون: إنه جاء في ظلّ فَوْضَى كانت تعيشها الأراضي المحتلة؛ حيث لم يَعُد الناس يَأمنون على بيوتهم وأموالهم وأنفسهم، وإنّ مُهَّمته كانت تتمثّل في بِناء قوَّةٍ شرطيةٍ تَحْفظ الأمن، وهذا يعنِي أنّ علينا كفلسطينيين أن نقدِّم أسْمَى آيات الشكر والعرفان للجنرال العتيد لِمَا قدَّمه للشعب الفلسطيني الذي يعيش بالفعل هذه الأيام حالةً أمنيةً أفضل. ما ينبغي أن يقال- ابتداءً- هو أنَّ فوضى السلاح التي كانت تعيشها بعض المناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة كانت جزءًا من منتجات السلطة وحركة فتح على وجه التحديد، فتَحْت مسمّى كتائب شهداء الأقصى كانت تُعشِّش مجموعات من الزعران الذين يعيثون في الأرض فسادًا، من دون أن ينكر عاقلٌ أن هناك في مقابلها مجموعات كانت مجاهدة ومناضلة بالفعل، وهذه هي التي توزعت بين السجون والمقابر، باستثناءات محدودة، تمامًا كما حصل مع سائر المجموعات المقاتلة بالفعل في الضفة الغربية. الأكيد أنّ الجنرال دايتون لم يأتِ من أجل أن يُمْتِع الفلسطينيين بالأمن، بل جاء جزءًا من مشروع سياسي كبير هو الحل المرحلي بعيد المدى الذي فرضه شارون على الساحة السياسية الإسرائيلية، وأسَّس من أجله حزب كاديما، وذلك على خلفية القناعة بعدم إمكانية التوصل إلى حلّ نهائي يتنازل فيه الفلسطينيون عن القدس واللاجئين وجزءٍ كبير من الأرض. دليل ما نقول إنّ مهمة الجنرال بدأت في ديسمبر 2005 بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة الذي كان فاتِحَة المشروع، وبعد أن جرى تمرير القيادة للمجموعة الفلسطينيةالجديدة التي لا تؤمن بالمقاومة وتعتبرها وصفةَ تدميرٍ للشعب الفلسطيني، وكان الأصل أن تُسْفِر الانتخابات التشريعية بعد ذلك بشهرين اثنين عن فَوْز حركة فتح ليستكمل المشروع بنيانه الأساسي. كان الأصل أن يقوم دايتون بتشكيل قوة أمنية جديدة تصلح للمعادلة الجديدة وتختلف عن سابقتها التي انخرط قطاع من رجالِهَا في قتال العدو بعد انتفاضة الأقصى. وبالطبع من أجل أن يَجْري نقل المهمات الأمنية في المدن الفلسطينية إليها كجزء من المشروع الذي يأخذ مسمى الدولة المؤقتة أحيانًا، وكذلك السلام الاقتصادي، بينما يُسمِّيه سلام فياض "دولة الأمر الواقع". التنظير الأكثر وضوحًا لمهمة الجنرال وَرَد في محاضرته الشهيرة (7 أيار 2009) أمام معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى (الذراع الفكري والبحثي للوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة). وهنا بعض الفقرات من المحاضرة، والتي نَبْدَأها بفقرة فاقعة يقول فيها: "نحن لا نقدِّم شيئًا للفلسطينيين ما لم يتم التنسيق بشأنه مع دولة إسرائيل وبموافقة إسرائيلية". "ما الذي بَنَيْناه؟ أقول هذا تواضعًا، ما فعلناه هو بناء رجال جُدُد تتراوح أعمارهم بين 20 و 22 عامًا، وهؤلاء الشبان وضباطهم يعتقدون أن مهمتهم هي بناء دولة فلسطينية". يُشار هنا إلى أن حوالي سبعة آلاف ضابط وعنصر قد أُحِيلوا إلى التقاعد، فيما اختير من تَبَقّى بعناية ليصلح للمهمة الجديدة. نعود لفقرات من محاضرة دايتون: "في كلمة لضابط فلسطيني في حفل التخرج قال: إنكم لم تأتوا هنا لتتعلموا كيف تقاتلون إسرائيل، بل جئتم لتتعلموا كيف تحفظون النظام وتصونون القانون من أجل أن نتمكن من العيش بأمن وسلام مع إسرائيل". "ضباط الجيش الإسرائيلي يسألونني، كم من هؤلاء الرجال الجدد تستطيع أن تصنع، وبأية سرعة؛ لأنهم الوسيلة الوحيدة التي ستؤدي إلى رحيلنا عن الضفة الغربية". "عبر الضفة الغربية تَتّسم الحملات الأمنية بالتشدُّد مع العصابات المسلحة وتفكيك المليشيات غير الشرعية، وبالعمل ضد نشاطات حماس". لاحظ أنه يقول نشاطات حماس التي تشمل غير العسكري مثل السياسي والاجتماعي. ومما قاله أيضًا: إن ثلاثة أجهزة استخبارات تشارك في اختيار المنتسبين الجدد، كما أنّ إصلاح النظام القضائي كان جزءًا من عمله، وبالطبع لكي يجري تجريم المقاومة وسائر النشاطات التي تتفاعل معها، بدليل الحكم على عبد الفتاح شريم من قلقيلية بالسجن 12 عامًا لأنه آوى في بيته ثلاثة من مجاهدي القسام (قتل اثنان منهم على يد الرجال الجدد). والحق أنّ الفلسطيني الجديد الذي يتحدث عنه الجنرال لم يأتِ نتاج جهده فقط، وإنما نتاج تنظير سياسي صاغه قادة السلطة الجدد، مما يعنِي أنهم جاءوا وهم يعرفون طبيعة مهمتهم ومُهَيّأون نفسيًا لتنفيذها. الآن يرحل دايتون ليحلَّ مكانه الجنرال مولر، والسبب أن المهمة لم تنتهِ فصولها بعد، ولن تنتهِي قبل استلام السلطة لمهمات الأمن في سائر المدن (القدس خارج المعادلة)، وبالطبع تمهيدًا لتثبيت واقع الدولة تحت الاحتلال، والذي يؤبّد النزاع ويجعله مَحْضَ نزاع حدودي بين دولتين. هذا ما يفكرون فيه، لكن شعب فلسطين العظيم سيعرف كيف يقلب الطاولة في وُجُوه هؤلاء جميعًا ويضع قدمه على سكة المقاومة والتحرير والكرامة من جديد. المصدر: الاسلام اليوم