في ظل رتابة وتكرار محتوى الأغنيات العربية، وانحصار الكتابة والتأليف بين موضوعات الحب، الهجر، والفراق، مما أفقد الأغنية العربية بمختلف أنماطها الموسيقية عنصر الدهشة الذي تحقق بشدة مع أغنيات الراب والموسيقى البديلة والمهرجانات التي كسرت القاعدة، والتابوهات التقليدية، وقدمت نماذج لأعمال خارج السياق المتعارف عليه، حيث ناقشت قضايا وموضوعات اجتماعية، اقتصادية، سياسية، بل وشخصية، وفرضت أسلوبها وثقافتها على المجتمع العربي، حتى أصبح لها مكانتها بين أوساط المستمعين خاصة من فئة الشباب، وهم الشريحة الأكبر والأكثر تأثيرًا، لذا تصدر هذا اللون المشهد الموسيقي مؤخرًا، حتى أصبحت نسب استماعه ومشاهداته عبر مختلف المنصات الموسيقية تتفوق بملايين المشاهدات.. في السطور التالية نرصد محطات تطور أغنيات الراب والأندرجراوند والمهرجانات، كما نسلط الضوء على أبرز التجارب التي عكست حكايات من نبض الشارع المصري. بالعودة إلى البدايات، تُعتبر أغنيات الراب شكلًا من أشكال التعبير الفني الذي نشأ في أمريكا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ومع تطور هذا اللون الموسيقي، ظهرت حركة الأندرجراوند التي تُمثل صوت الفنانين اللذين يعملون بشكل مستقل بعيدًا عن شركات الإنتاج الُكبرى، وتتميز موسيقاهم بالجرأة في التعبير عن القضايا الاجتماعية، والسياسية، وغيرها، وبدأ مصطلح الأغنية البديلة ينتشر منذ أوائل الثمانينات مع ظهور عدد من الفرق الموسيقية منها فرقة "المصريين" التي أسسها الموسيقار هاني شنودة، فرقة "الأصدقاء" التي كونها الموسيقار عمار الشريعي، فرقة "النهار" للموسيقار محمد نوح، وفرقة "الفور إم" التي أسسها الفنان عزت أبو عوف مع شقيقاته، وكان هدف هذه الفرق هو البحث عن تقديم أغنية بديلة تجابه غزو الأغنية الغربية التي انتشرت وسيطرت في هذه الفترة على أسماع الشباب من خلال فرق "البلاك كوتس، Les Petits Chats"، وشهدت هذه الفترة تغيرًا جذريًا في شكل الأغنية المصرية، إلى أن قاد الموزع حميد الشاعري مسيرة تطوير أخرى، وأُطلق على هذا التطور مصطلح "الأغنية الشبابية الخفيفة"، أما المهرجانات فهي لون وشكل مستحدث للأغنية الشعبية المصرية، وظهرت في البداية في إطار ضيق بالأفراح الشعبية، بنمط وأسلوب يٌعبر عن ثقافة الطبقة الفقيرة، قبل أن تمتد وتُسيطر على أسماع جميع فئات وطبقات المجتمع. ولعل ما يُميز فنانين الراب، الأندرجراوند، ومؤديو المهرجانات هو طريقتهم في التعبير عن أفكارهم، همومهم، وما يُؤمنون به، لذا نجد أن معظمهم يكتبون ويلحنون أغنياتهم بنفسهم، ونادرًا ما يعتمدون على آخرين في الكتابة للتعبير عما يجول داخلهم من أفكار، مشاعر، واحتجاجات على الظلم، العنف، الفقر، والتمييز العنصري، وغيرها من القضايا الاجتماعية الهامة، بل وبالعكس أغنياتهم تجارب شخصية حقيقة من واقع الحياة، ولنا في ذلك أمثلة عديدة، أحدثها تجربة مؤدي الراب مروان موسى في ألبومه الجديد الذي حمل عنوان "الرجل الذي فقد قلبه"، حيث لفت أن هذا الألبوم يُعبر عنه بالكامل، ويتكون من 5 أجزاء يعكس خلالها مراحل الحزن ال5 من حالة الإنكار والغضب والمساومة والإكتئاب إلى القبول، ونقل الجمهور في رحلته وتجربته الشخصية التي مر بها بعد فقدان والدته، آملًا أن يجد كل مُستمع أغنية تُعبر عنه عندما يحتاجها تمامًا. لمست أغنيات الراب قلوب الجمهور العربي والغربي بمختلف فئاته وطبقاته، لقربها من نبض وصوت الشارع، حيث تعكس حياة وتجارب الأشخاص في المجتمعات المهمشة، مما يمنحهم صوتًا يٌعبر عنهم في عالم يتجاهلهم تمامًا، ومن أشهر فناني الراب العالميين توباك الذي تناول في أغانيه قضايا الفقر، العنف، والتمييز العنصري، ونوتوريوس الذي عُرف بإسلوبه الفريد في سرد القصص، حيث كانت أغانيه تعكس واقع الحياة المرير في شوارع نيويورك، أما ويجز يقول في احدى أغنياته "بصوتي بعمل فن شارع، انت بتعمل مش سامع"، ويقول أبيوسف: "بسمع مزيكتي في الشارع زي الربابة"، بينما يوجه مروان بابلو تحذيرًا للدخلاء بقوله: "نفسك تبقى منا في الشارع تمشي وسطينا؟ ماتعشمش نفسك هتتعلق زي الزينة"، وهو ما يعكس مدى حرصهم على التعبير عن نبض الشارع، وهمومه، ومشكلاته، فضلًا عن القدرة على استخدام لفة ومفردات الشارع بكفاءة تجعلهم قادرين على المنافسة، وهو ما يجعلهم في صدارة فناني الراب إلى جانب مجموعة أخرى مثل الجوكر، مروان موسى، عفروتو، شاهين، أبو الأنوار. كما نجحت الأغنية البديلة على مدار سنوات طويلة في اجتذاب شريحة كبيرة من الجمهور المصري والعربي، وحققت فرق "بلاك تيما، مسار إجباري، كايروكي، أوتوستراد، وسط البلد، فرقة جدل الأردنية، "،وغيرهم من الفرق المصرية والعربية نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، بفضل تسليط الضوء على قضايا وموضوعات متنوعة، حيث تُناقش مشاعر الاغتراب والتحديات التي يواجهها الشباب، وتتنقل بين قضايا المرأة وحقوقها والتحديات التي تواجهها في المجتمع بما في ذلك التمييز والتحرش، كما تُركز على قضايا الصحة النفسية والوعي بمشاعر القلق والاكتئاب، وساهمت الأغنية البديلة أيضًا في تشكيل الوعي تجاه القضية الفلسطينية، والدعوة إلى الصمود، الثبات، والقوة من أجل تحرير الأرض. اقرأ أيضا: محمد منير عن أغاني المهرجانات والراب: بسمعها لكن مش بتسكن قلبي أما أغنيات المهرجانات فقد تعكس ثقافة مؤدييها، والطبقة والظروف الاجتماعية التي نشأ فيها كل منهم، وليست بالضرورة أن تتناول موضوعات غدر الأصدقاء، خيانة الأحباب والأقارب، الاشتباك مع الخصوم، وإن كانت هي الأشهر، لكن هناك أغنيات تتحدث عن العلاقات العاطفية بمنظور غزلي، ولعل أشهرها "بنت الجيران" التي كسرت حاجز ال690 مليون مشاهدة عبر موقع "يوتيوب"، "إنتي بسكوتاية مقرمشة، عود البنات عالي، حبيبتي افتحي شباكك انا جيت، قنبلة الجيل، إنتي معلمة"، وغيرها من الأغنيات التي حققت نجاحًا كبيرًا وسط مختلف الفئات المجتمعية، وعلى الرغم من الهجوم الكبير الذي تعرض له مؤديين المهرجانات، ومحاولات إيفاقهم ومنعهم من ممارسة المهنة بسبب اسهامهم في افساد الذوق العام من وجهة نظر البعض، إلا أن هذا اللون فرض نفسه على الساحة الغنائية بقوة، حتى أن بعض نجوم الغناء اتجهوا إلى تغيير قاموسهم اللغوي، ونوعية الموسيقى التي يقدمونها من أجل مجابهة ومسايرة ذوق الجمهور بعد سيطرة المهرجانات على المشهد الموسيقي، بسبب قربها من لسان حال الناس بمفردات وتعبيرات من نبض الشارع المصري.