مقال كتبه العلامة المحقق السيد أحمد صقر ( بمجلة الأزهر عدد جمادى الأولى سنة 1361ه ) عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبرز من خلاله منحنى من مناحي عظمته هو الضمير الذي نفتقده اليوم في كثير من الحكام !! * * * رجل الضمير بقلم العلامة المحقق السيد أحمد صقر عظيم تنوّعت مَنَاحي عظمته ، جُعِل الحق على لسانه وقلبه ، فكان رائده في كل قول وعمل ، وفيما هو دون القول والعمل . سِرُّ هذه العظمة النادرة ، التي تخلب الألباب ، وتملأ الأبصار ، يرجع إلى شيء يسير أشد اليسر ، مُعَقَّد أشد التعقيد ، ملك عليه أقطار نفسه ، وغلبه على ذلك عقله وحسه ، هذا الشيء اليسير المعقد ، الذي كان مصدرًا لعظمة الفاروق ، هو ( الضمير اليقظ الباسل ) . ومما يستلفت النظر حقًا : أنه كان يدرك خطر الضمير ، ويعرف أثره القويم في الحياة ، فابتهل إلى الله في أول خطبة خطبها بعد أن صارت إليه الخلافة ، أن يرزقه هذا الضمير الباسل فقال : (( اللهم ثبتني باليقين والبر والتقوى ، وذِكْر المقام بين يديك ، والحياء منك ، وارزقني الخشوع فيما يرضيك عني ، والمحاسبة لنفسي )) . وقد استجاب الله دعاءه ، ويسر له إلى ما أراغه كل سبيل . * * * هذا الضمير اليَفظِ الباسل هو الذي صوَّر للفاروق هذه الصورة الرائعة للخلافة ، فهي عنده امتحان للحاكم والمحكوم على السواء : (( إني قد بقيت فيكم بعد صاحبي فابتُليت بكم وابتُليتم بي )) . وهو الذي ذاد الكَرَى عن عينه إن ألم بها ، مخافة أن تشيل كفته في هذا الامتحان العظيم ، حدثنا أسلم مولاه : (( إنه كان يبيت عنده مع ( يرفأ ) ، وأنه كان يقوم الليل إلا قليلاً ، وكان كثيرًا ما يستيقظ في هذا القليل فيرتل القرآن ترتيلاً ، حتى إذا كان ذات ليلة فقام فصلى ثم قال : قوما فصليا فوالله ما أستطيع أن أصلي ، ولا أستطيع أن أرقد ، وإني لأفتح السورة فما أدري في أولها أنا ، أو في آخرها . قلنا : ولم يا أمير المؤمنين ؟ قال : من همي بالناس )) . يريد من اهتمامي بما يصلحهم ، وما يدفع السوء عنهم . وهو الذي يقلق باله ، ويشغل خاطره كلما فرغ إلى نفسه ساعة من النهار . قال حذيفة : دخلت على عمر فرأيته مهمومًا حزينًا ، فقلت له : ما يهمك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد منكم تعظيمًا لي . فقلت له : والله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك ، فإن لم تنته ضربناك بالسيف ، ففرح عمر ، وقال : (( الحمد لله الذي جعل لي أصحابًا يقومونني إذا اعوججت )) . وأنا لا يخالجني أقل شك في أن عمر فرح حقيقة بهذا الجواب الغليظ ، واغتبط به ، لأن ضميره اليقظ الباسل يأبى عله ألا يفرح ، ألم يقل في خطبته : (( إذا رأيتم فيَّ اعوجاجًا فقوموني )) ؟ أولم يقاطعه أحد السامعين بقوله : والله يا عمر لو رأينا اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا ؟ . بل قد قال ، وقد قوطع ، ولم يكتف بإقراره العمل على تقويم المعوج ، بل أعلن اغتباطه على رؤوس الأشهاد بذلك فقال : (( الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه )) . اعترف الفاروق بسلطان الأمة عليه ، وأعلن خضوعه لرقابتها ، بل جرَّد الأمة من كل خير إذا تهيبت معارضة الحاكم ، وجرد الحاكم من كل خير إذا لم يتقبل المعارضة من المحكومين . * * * - جرى مرة بينه وبين رجل كلام فقال له الرجل : اتق الله يا عمر ، وأكثر من قولها حتى ضجر رجل من الحاضرين ، فقال له : أتقول لأمير المؤمنين اتق الله !! فنهره عمر وقال له : (( دعه فليقلها لي ، نِعْمَ ما قال ! لا خير فيكم إذا لم تقولوها ، ولا خير فينا إذا لم نتقبلها )) . - وجاءته بُرُودٌ من اليمن ففرقها على الناس بُرْدًا بُرْدًا ، ثم صعد المنبر يخطب وعليه حُلَّةٌ منها ، والحلة بردان ، فقال : (( اسمعوا رحمكم الله )) فقام إليه سلمان الفارسي وقاطعه قائلاً : والله لا نسمع ، والله لا نسمع . فقال عمر وهو هادئ : ولم يا أبا عبد الله ؟ فقال سلمان : يا عمر تفضلت علينا بالدنيا ففرقت علينا بردًا بردًا ، فقال : أين عبد الله بن عمر ؟ فقال له ولده : ها أنا ذا يا أمير المؤمنين . قال عمر : لمن أحد هذين البردين اللذين عليَّ ؟ (( فقال : لي ، فتوجه عمر إلى سلمان وقال : عجلت عَلَيَّ يا أبا عبد الله ، إني كنت غسلت ثوبي الخَلِق ، فاستعرت ثوب عبد الله ! فقال سلمان : أما الآن فقل نَسْمع ونُطِع ، واستأنف عمر خطبته وهو هادئ البال مرتاح الضمير . - وكان من عادة عمر أن يمر بالأسواق ويضرب التجار بِدُرَّته إذا تكدسوا في الطرقات ، حتى يدخلوا سكك ( أسلم ) ويقول : (( لا تقطعوا علينا سابلتنا )) ، وروى إياس بن سلمة عن أبيه قال : مر بي عمر وأنا قاعد في السوق ، ومعه دُرّته فقال : هكذا يا سلمة عن الطريق ، فَغَفَقَنِي بها [ الغفق : الضرب الخفيف ] ، فما أصاب إلا طرفها ثوبي ، فأمطت عن الطريق فسكت عني ، حتى إذا كان العام المقبل لقيني في السوق فقال : يا سلمة أردت الحج العام ؟ فقلت : نعم . فأخذ بيدي فما فارقت يده يدي حتى أدخلني بيته ، فأخرج كيسًا فيه ستمائة درهم وقال : يا سلمة خذها فاستعن بها على حجك ، واعلم أنها من الغَفْقَةِ التي غَفَقْتُكَ عامًا أول ! فقلت : يا أمير المؤمنين ما ذكرتها حتى ذكرتنيها . فقال عمر : وأنا والله ما نسيتها ! . وكيف ينساها عمر ذو الضمير اليقظ الباسل الذي يُحاسبه على كل شيء صغير أو كبير ، آونة رقيقًا رفيقًا كما في هذه المرة ، وآونة عنيفًا كل العنف ، شديدًا كل الشدة ، مؤلمًا كل الإيلام ، كما في قصته مع ذلك الذي لقيه في الطريق فقال له : يا أمير المؤمنين انطلق ، فأعدني على فلان فإنه قد ظلمني ، فرفع عمر درته ، فخفق به رأسه وقال : (( تدَعون أمير المؤمنين وهو معرض لكم حتى إذا اشتغل في أمر من أمور المسلمين أتيتموه ، اعدني اعدني )) . فانصرف الرجل وهو يتذمَّر ، وقام الضمير الباسل يعمل عمله في سرعة فائقة ، وما هي إلا لحظة حتى قال عمر : عليَّ بالرجل عليَّ بالرجل )) فجاء فألقى إليه الدرة وقال : (( امتثل )) . فقال الرجل لا والله ، ولكن أدعها لله ولك . فقال عمر : (( ليس هكذا إما أن تدعها لله إرادة ما عنده ، أو تدعها لي فاعلم ذلك )) . فقال الرجل : ادعها لله ! . ولما قفل عمر إلى منزله ومعه الأحنف بن قيس وجميع من حضر هذه المحاورة ، صلى ركعتين وجلس وأطرق وأطرقوا ، ثم أنشأ يقول بصوت جهير ملؤه الغيظ والغضب : يابن الخطاب كنت وضيعًا فرفعك الله ، وكنت ضالاً فهداك الله ، وكنت ذليلاً فأعزَّك الله ، ثم حَمْلك على رقاب الناس فجاءك رجل يستعديك فضربته ، ماذا تقول لربك غدًا إذا أتيته ؟! . * * * وظل الضمير اليقظ الباسل يعمل عمله والقوم خُشّع قد عَقِلَ جلال الموقف مَزَاودهم عن الكلام ! . وكما كان عمر ذو الضمير اليقظ الباسل ، والعقل العبقري يعنى يبتنظيم حركة المرور في الشوارع ، كذلك كان يهتم بالنظافة ويأمر أهل كل منزل أن يكنسوا أمام بيتهم ، ويفتش بنفسه ليرى من لم يمتثل ومن امتثل . حدث الأصمعي عن جويرة بن أسماء : (( أن عمر قدم مكة فجعل يجتاز في سككها فيقول لأهل المنازل : قُمُّوا أفنيتكم ، فمر بأبي سفيان فقال يا أبا سفيان : قموا فناءكم . فقال : نعم يا أمير المؤمنين ؛ يجيء مهاننا ، ثم إن عمر اجتاز بعد ذلك فرأى الفناء كما كان ، فقال : يا أبا سفيان ألم آمرك أن تقموا فناءكم ؟ فقال : بلى يا أمير المؤمنين ، ونحن نفعل إذا جاء مهاننا ، فعلّاه عمر بالدُّرة بين أذنيه فضربه ، فسمعت هند زوجته فقالت : أتضربه ؟ أما والله لرُبّ يوم لو ضربته لاقشعر بك بطن مكة ! فقال عمر : صدقت ، ولكن الله عز وجل رفع بالإسلام أقوامًا ووضع به آخرين )) . مضى عمر لشأنه وقال لنفسه وقالت له ، والضمير اليقظ الباسل من ورائهم رقيب ، وما هي إلا ساعة أو بعضها حتى نادي عمر : الصلاة جامعة ، وصعد المنبر ليخطب ، والناس من حوله ينظرون ، وينتظرون ، وما لبث عمر أن شرع يخطب فقال : (( أيها الناس لقد رأيتني وأنا أرعى على خالات لي من بني مخزوم ، فيقبض لي القبضة من التمر أو الزبيب )) . ولم يزد على ذلك حرفًا حتى نزل ، فشده الحاضرون وظنوا الظنون ، وتهامس المتهامسون ، ولكن لم يصل إلى سرّ هذا الخطاب الغريب أحد ، وهابوا أن يستفسروه ، إلا عبد الرحمن بن عوف ، وكان أجرأ الناس عليه ، فقد سأله : ما أردت إلى هذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال عمر : في صراحة وإخلاص : ويحك ! يابن عوف ، خلوت بنفسي فقالت لي أنت أمير المؤمنين ، وليس بينك وبين الله أحد فمن ذا أفضل منك ؟ فأردت أن أُعَرِّفها قدرها ! . رحم الله عمر ، فقد كان للحق حصنًا ، وللإسلام عزًا ، وكان بحق رجل الضمير .