وزير العمل يصدر قرارًا وزاريًا بشأن تحديد العطلات والأعياد والمناسبات    البطاطس ب10 جنيهات.. أسعار الخضراوات والفواكه بأسواق كفر الشيخ    وفاة كبير مساعدى زعيم كوريا الشمالية.. وكيم جونج يرسل إكليلا من الزهور للنعش    باحث أمريكي: كيف يمكن الحفاظ على استقرار العلاقات بين الصين واليابان؟    مستشفى العودة في جنوب غزة يعلن توقف خدماته الصحية بسبب نفاد الوقود (فيديو)    لاعب جنوب إفريقيا: أثق في قدرتنا على تحقيق الفوز أمام مصر    القلاوي حكما لمباراة الأهلي والمصرية للاتصالات في كأس مصر    تفاصيل جلسة حسام حسن مع زيزو قبل مباراة مصر وجنوب إفريقيا    إذاعي وسيناريست ورسَّام، أوراق من حياة الدنجوان كمال الشناوي قبل الشهرة الفنية    الأرصاد تحذر من ضباب يغطي الطرق ويستمر حتى 10 صباحًا    الطرق المغلقة اليوم بسبب الشبورة.. تنبيه هام للسائقين    45 دقيقة تأخير على خط «طنطا - دمياط».. الجمعة 26 ديسمبر 2025    ترامب: نفذنا ضربات قوية ضد «داعش» في نيجيريا    شعبة الأدوية: موجة الإنفلونزا أدت لاختفاء أسماء تجارية معينة.. والبدائل متوفرة بأكثر من 30 صنفا    الزكاة ركن الإسلام.. متى تجب على مال المسلم وكيفية حسابها؟    عمرو صابح يكتب: فيلم لم يفهمها!    وداعا ل"تكميم المعدة"، اكتشاف جديد يحدث ثورة في الوقاية من السمنة وارتفاع الكوليسترول    انفجار قنبلة يدوية يهز مدينة الشيخ مسكين جنوب غربي سوريا    الشهابي ورئيس جهاز تنمية المشروعات يفتتحان معرض «صنع في دمياط» بالقاهرة    ريهام عبدالغفور تشعل محركات البحث.. جدل واسع حول انتهاك الخصوصية ومطالبات بحماية الفنانين قانونيًا    سكرتير محافظة القاهرة: تطبيق مبادرة مركبات «كيوت» مطلع الأسبوع المقبل    أمن الجزائر يحبط تهريب شحنات مخدرات كبيرة عبر ميناء بجاية    زيلينسكي يبحث هاتفياً مع المبعوثَيْن الأميركيين خطة السلام مع روسيا    اختتام الدورة 155 للأمن السيبراني لمعلمي قنا وتكريم 134 معلماً    وزير العمل: الاستراتيجية الوطنية للتشغيل ستوفر ملايين فرص العمل بشكل سهل وبسيط    ارتفاع حجم تداول الكهرباء الخضراء في الصين خلال العام الحالي    وفاة الزوج أثناء الطلاق الرجعي.. هل للزوجة نصيب في الميراث؟    الإفتاء تحسم الجدل: الاحتفال برأس السنة جائزة شرعًا ولا حرمة فيه    الفريق أحمد خالد: الإسكندرية نموذج أصيل للتعايش الوطني عبر التاريخ    استمتعوا ده آخر عيد ميلاد لكم، ترامب يهدد الديمقراطيين المرتبطين بقضية إبستين بنشر أسمائهم    «الثقافة الصحية بالمنوفية» تكثّف أنشطتها خلال الأيام العالمية    حريق هائل في عزبة بخيت بمنشية ناصر بالقاهرة| صور    هشام يكن: مواجهة جنوب أفريقيا صعبة.. وصلاح قادر على صنع الفارق    أردوغان للبرهان: تركيا ترغب في تحقيق الاستقرار والحفاظ على وحدة أراضي السودان    «اللي من القلب بيروح للقلب».. مريم الباجوري تكشف كواليس مسلسل «ميدتيرم»    كأس مصر - بتواجد تقنية الفيديو.. دسوقي حكم مباراة الجيش ضد كهرباء الإسماعيلية    محمد فؤاد ومصطفى حجاج يتألقان في حفل جماهيري كبير لمجموعة طلعت مصطفى في «سيليا» بالعاصمة الإدارية    الأقصر تستضيف مؤتمرًا علميًا يناقش أحدث علاجات السمنة وإرشادات علاج السكر والغدد الصماء    أسامة كمال عن قضية السباح يوسف محمد: كنت أتمنى حبس ال 18 متهما كلهم.. وصاحب شائعة المنشطات يجب محاسبته    كشف لغز جثة صحراوي الجيزة.. جرعة مخدرات زائدة وراء الوفاة ولا شبهة جنائية    بروتوكولي تعاون لتطوير آليات العمل القضائي وتبادل الخبرات بين مصر وفلسطين    ناقد رياضي: تمرد بين لاعبي الزمالك ورفض خوض مباراة بلدية المحلة    نجم الأهلي السابق: تشكيل الفراعنة أمام جنوب إفريقيا لا يحتاج لتغييرات    متابعة مشروع تطوير شارع الإخلاص بحي الطالبية    محافظة الإسماعيلية تحتفل بالذكرى الخمسين لرحيل كوكب الشرق بحفل "كلثوميات".. صور    جلا هشام: شخصية ناعومي في مسلسل ميد تيرم من أقرب الأدوار إلى قلبي    ساليبا: أرسنال قادر على حصد الرباعية هذا الموسم    أخبار مصر اليوم: سحب منخفضة على السواحل الشمالية والوجه البحري.. وزير العمل يصدر قرارًا لتنظيم تشغيل ذوي الهمم بالمنشآت.. إغلاق موقع إلكتروني مزور لبيع تذاكر المتحف المصري الكبير    "التعليم المدمج" بجامعة الأقصر يعلن موعد امتحانات الماجستير والدكتوراه المهنية.. 24 يناير    واعظات الأوقاف يقدمن دعما نفسيا ودعويا ضمن فعاليات شهر التطوع    40 جنيهاً ثمن أكياس إخفاء جريمة طفل المنشار.. تفاصيل محاكمة والد المتهم    فاروق جويدة: هناك عملية تشويه لكل رموز مصر وآخر ضحاياها أم كلثوم    تطور جديد في قضية عمرو دياب وصفعه شاب    جراحة دقيقة بمستشفى الفيوم العام تنقذ حياة رضيع عمره 9 أيام    "إسماعيل" يستقبل فريق الدعم الفني لمشروع تطوير نظم الاختبارات العملية والشفهية بالجامعة    هل للصيام في رجب فضل عن غيره؟.. الأزهر يُجيب    الوطنية للانتخابات: إبطال اللجنة 71 في بلبيس و26 و36 بالمنصورة و68 بميت غمر    الأزهر للفتوى: ادعاء خصومات وهمية على السلع بغرض سرعة بيعها خداع محرم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخليفة الذي ألهب أحلام المسلمين


نظام الحكم المستحيل
عمر بن الخطاب والحكام العرب
حيرنا سيدنا عمر. حيرتنا مواصفاته الأسطورية.. وسيرته العامرة.. وعدالته غير المتخيلة. الخليفة الراشد الذي يمثل قدوة في نموذج الحكم وطريقة الإدارة.. واعتقد بعض الناس أنه يمكن أن يتكرر.. رغم أن زمانه قد مضي.. وعالمه قد انتهي.. وعصره قد ولَّي.. ولم يعد بين البشر من يماثله. لكنه بقي حلما يراود الكثيرين.. يظنون أن بالإمكان أن يعود أو يستعاد.. وأن الدولة حين تكون علي طريقته (رضي الله عنه) سوف تكون واحة العدل ووطن الاستقامة.
وتلك طبيعة البشر. حالمون بعدل نموذجي. لايدانيه ظلم. ولاتعكره مظلمة. يتمنون أن ينتفي حرف (لو) من مقولته - سيدنا عمر - الأشهر: (لو كان الفقر رجلا لقتلته).. لكن الخليفة العظيم رحل وترك لنا الحقيقة المرة.. وهي أن الفقر ليس رجلا ولاامرأة.. ولن يقتل أبدا.. وبقيت عبارته أمنية مستحيلة.. كما بقيت القيم التي أرساها في دولته مستحيلة بدورها.. لايمكن بلوغها بعده.. حتي وإن بشر بها الخطباء في المساجد والمنظرون في الكتابات التي تروج للدولة الدينية.
حين قاربت هذه الفكره قبل ثلاثة أسابيع، برؤية واضحة لا لبس فيها، تحت عنوان متسائل: (ماذا لو حكمنا عمر بن الخطاب؟)، وتلته إجابات لاتردد حولها، كان أن لاحقتني ردود أفعال مختلفة.. بعضها مؤيد.. وبعضها رافض.. والأغلبية سكنت في عالم الحيرة.. منطقة رمادية تعاني من صدمة المنطق وقوة الحقيقة.. قال أصحابها لي: (المشكلة أن المقال لايترك ثغرة للنقاش.. فالمبررات التي أصدرت بها حكمك لايمكن مجادلتها).. غير أن بعضهم اتبع رفض الحيرة.. ولجأ إلي الشتم حين وجد أن المقال ينسف نظرية ثابتة مؤداها أن الحكم علي طريقة سيدنا عمر هو مايمكن أن تأتي به الدولة الدينية.
إن تلك التعليقات واجبة الرصد، بغض النظر عما ورد في بعضها من شتم، فالشتم هو أقل وأضعف ثمن ندفعه حين نقول أفكارا تصطدم بذهنيات متجمدة، ولعل الثمن يقف عند هذا الحد، وهي في وجهها الأهم - أي تلك التعليقات - إنما تعبر عن طبيعة الأفكار والتساؤلات التي تطرحها رؤي الناس.. ويجب أن نناقشها.. فنحن لا نطرح الأفكار للإملاء وإنما للنقاش.. أيا ما كانت مجرياته.. ونحن أبناء هذا المجتمع الذي يعاني من عيوب انقطاع الحوار فيه لفترات طويلة.
يقول أحدهم في تعليق كتبه: (الموضوع يحيرني فعلا.. إذ إنه لا يمكن أساسا المقارنة بين مسئولي اليوم وبين صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم.. ولكن أليسوا هم أسوة لنا.. وإذا كان تطور النظم وقيام نظام الدولة وتعاظم تعداد السكان يقلل من مسئولية الحكام الحاليين حيث إنه "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ألا تعد كلمة مسئول هي ترجمة لمفهوم أن أي شخص يتصدي لعمل يجب أن يكون مسئولا عن تبعات العمل وهل أتقنه أم لا؟).
واستعان آخر بنص الحديث الشريف لكي يؤكد علي معني المسئولية.. فقال نقلا عن رسول الله (صلي الله عليه وسلم): (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.. فالإمام راع ومسئول عن رعيته.. والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته.. والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها.. والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته).
وكتب ثالث: (يقول الرسول (ص) لولا أن بعثت لبعث عمر.. هذا التكريم لعمر وضعه في منزلة الأنبياء، لذلك فالمقارنة ظالمة لحكام هذا الزمان.. ولكن كما قلت في المقال عن قصة تعثر الناقة أن الغرض منها هو إرساء مبدأ العدل ومسئولية الحاكم عما يفعله العاملون تحت قيادته من إرساء القواعد والنظام والتطبيق الفعلي للقوانين واحنا مسئولين أيضا عن كل ذلك.. وكل حاكم عادل ظالم).
وكتب رابع يقول: كانت عبارة عمر بن الخطاب، إعلانا لمسئوليته عن أفعال عماله الذين يختارهم لمناصبهم. لا أستطيع أن أحاسب رئيس الدولة عن أداء برلمان منتخب انتخابا حقيقيا، أو عن أداء رئيس وزراء منتخب. ولكن إذا كان رئيس الوزراء معينا من قبل الرئيس، فالرئيس لا شك مسئول مسئولية مباشرة عن أداء رئيس الوزراء الذي يختاره. خاصة إذا تعددت أخطاؤه ولم نر من الرئيس تحركا لمعالجة الوضع، وبالأخص إذا كان رئيس الوزراء يقول لنا في كل يوم أنه يعمل وفق توجيهات الرئيس، وبناء علي أوامره).
وكتب خامس قائلا: (عندما يتكلم الناس عن عهد عمر بن الخطاب يتكلمون عن نموذج ربما غير قابل للتكرار، ولكن ليس من المستحيل أن نقترب من أسسه ومبادئه، بل هي المبادئ التي يجب أن يسعي إليها الناس في البحث عن العدل والحق وأن يكون صاحب السلطة مسئولا أمام الله والناس).
وشتم سادس منتقدا بحدة ما ذهبت إليه.. ووصل حدا بعيدا.. إذ قال: قرأت مقالتكم اليوم بمجلة روزاليوسف بعنوان: "ماذا لو حكمنا الآن عمر بن الخطاب"، وفي حقيقة الأمر لم أكن لأرد بتعليق عليها لولا دعوتكم لهذا في نهاية المقال.
والله لا خطباء منابر سواك وأمثالك ممن يؤمنون بأننا شعب غبي، فحين تقول أننا - أي الشعب المغلوب علي أمره - ليس مطلوبا منا انتظار أن يعاقب الحاكم من السماء وإنما نحن نحاسبه بأساليب مختلفة، فهما أمران لا ثالث لهما، إما أنت أو نحن. والعصور الغابرة التي لن تعود - وفقا لكلماتك - كانت تلك التي شهدت عظمة العرب ولا أقول المسلمين. يا أستاذ، لم لم تشر إلي خامس الخلفاء الراشدين الذي لم يوجد أحد في زمنه يتقبل الزكاة، وقيل له "عف الحاكم فعفت الرعية"، وأمر بتوزيع الزكاة علي أصحاب الحرف ليقوموا بدورهم بتخفيض أسعار منتجاتهم.
بالله عليك أتحداك أن تكتب مطالباً بأن تكشف للشعب شخصية المسئول الذي أصدر قرارا أن يقوم القطاع الخاص باستيراد القمح منذ عام 5002 بأموال مدفوعة مقدماً لتاجر القطاع الخاص، وماذا كانت أسباب هذا القرار غير مستفيد من ورائه، ولماذا لا يجرؤ أحد منكم علي مناقشة عودة الحكومة لاستيراده مباشرة؟
ولماذا تستكثر علي رئيس الدولة أن يمر مرة كل شهر أو سنة - ولو فجرا لتفادي الزحام - ليقف علي أحوال الشارع. بلاش دي، يقراْ الجرائد ويعرف اللي بيعملوه اللي تحته، جرائد المعارضة طبعاً.
وأخيراً، وهو التحدي الأكبر، لماذا تكون مصر - علي حد علمي - الدولة الوحيدة في العالم التي لا تفرض ضرائب تصاعدية علي الأغنياء؟؟؟؟؟ ممكن حد يرد. إن 1 ٪ زيادة علي ضرائب الأغنياء تمثل حولي 3 بلايين جنيه مصري دخلا للدولة يمكن بها سد آلاف الاحتياجات التي لا يجد عمنا الدكتور وسائل لسدها سوي عصر باقي الشعب من البسطاء. وتصور أن الشعب الغبي يقول أنه لابد أن الأغنياء يدفعون لأشخاص آخرين من تحت الترابيزة ليتم مساواة الأغنياء بالموظفين.
سامحك الله وأمثالك ممن عهد إليهم أمانة الكلمة).
انتهي نص بعض التعليقات.. وهي في الإجمال تثير عددا من القضايا التي توجب علينا أن نعود مجددا للفكرة التي طرحتها.. ولكي ننظم طريقة النقاش.. حتي نصل إلي الحقيقة أو وجهة نظر صائبة.. فإنني أشير بداية إلي الخطوط العريضة لما كنت قد طرحت من قبل في مقالي المشار اليه:
1- لا يمكن القول أن الطريقة التي أدار بها سيدنا عمر دولته كانت هي تلك الطريقة التي يجب أن تكون عليها الدولة الإسلامية في مختلف العصور.. ففيما بعد اغتياله دارت عجلة الزمن وتوالي علي المسلمين خلفاء من مختلف الفئات الذين حكم كل منهم بطريقته.. حين كانت هناك خلافة متسعة عبر القارات.. بحيث إنه لايمكن القول بأن طريقة هذا أو ذاك من الخلفاء والأمراء تمثل المواصفات الكاملة لطرق الحكم العادلة.. خاصة أن كثيراً منها - إن لم يكن أغلبها فيما بعد الخلفاء الراشدين - لم تكن عادلة بالمعني المفهوم للعدالة.
2- سيدنا عمر ذاته، يمثل حالة خاصة جداً، وربما استثنائية للغاية، ليس فقط في التاريخ الإسلامي وإنما في التاريخ الإنساني كله.
3- لكل عصر حكامه وأساليبه.. ولكل زمن طريقته.. ولكل دولة منهجها في إدارة شئونها.. والأساس في الاختلافات هو أن نتفق علي القيم الواجب اتباعها وإن تباينت الأساليب.. ففي كل زمان يسعي الناس إلي العدل، وفي كل وقت يرغب الناس في المساواة، وفي كل عصر يريد الناس أن ينال الجميع حقه وأن يخضع الحاكم إلي المساءلة.. ولكن الطرق تتباين والأنظمة تختلف والحياة تتطور.
4- الدساتير والقوانين توزع الآن المسئوليات علي عناصر الإدارة وأطرافها بحيث إنه لم يعد ممكنا للعقل أن يقبل أن يكون الحاكم رئيساً أو ملكاً أو سلطاناً.. أيا ما كان نظام الحكم.. أن يقبل فكرة أن هذا الحاكم مسئول بنفسه عن عثرة ناقة أو حمار أو حادث سيارة وقع في بقعة نائية أو حتي في مكان ملاصق لمقر حكمه.
5- الحاكم الذي يكون مسئولا عن كل شيء ليس فقط حاكماً خارج قدرة احتمال المنطق ولكنه أيضا يكون حاكما غير مقبول بالمقاييس الديمقراطية الحديثة ويعتبر ديكتاتورا نافيا لكل قيم الشراكة والتشارك في الإدارة وتحمل مسئوليات الحكم ويجعل الأمة كلها غير متحملة للمسئولية.
ولكني أعود في بداية هذا المسلسل الذي فرض نفسه.. من أجل مزيد من الحوار مع القراء حول الفكرة.. إلي أن أناقش بنودا متنوعة وردت في ملاحظاتهم.. واستهل الأمر بحديث المسئول والرعية.. الحديث النبوي الأشهر: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته....... إلي آخر الحديث).
ذلك أن من الواضح في ملاحظات القراء أن تلك المسألة تشغل الذهنية العامة.. المسئولية.. والضمير الذي يحركها.. ويصل الأمر في قناعات البعض حد توهم أن الحاكم يجب أن يكون مسئولا عن كل شيء.. وأي شيء.. في أي شيء.. استنادا إلي قصة الناقة الشهيرة (لو أن ناقة عثرت في العراق.....) التي قال بها سيدنا عمر رضي الله عنه.
من الناحية الشكلية لابد من التوقف عند حرف (لو) الذي كان سيدنا عمر يستعين به مرارا في مقولاته.. إذ (لو) كان الفقر رجلا لقتلته.. ولو أن ناقه عثرت.. هذا الحرف يفيد عدم وقوع الواقعة.. وبناء الحكم علي افتراض.. وسن القاعدة علي أساس سيناريو لم يتحقق.. وكما أشرت فإنه لم يكن بمقدور سيدنا عمر أن يدري بأي أسلوب مباشر كم عدد النوق التي يمكن أن تعثر في أي من بقاع الخلافة الإسلامية.. وكيف يتحمل مسئولياتها.. فما بالنا بالبشر الذين يعثرون في الطرق قبل النوق.. وإنما كان خليفة المؤمنين الراشد والصحابي الجليل يذهب بعيدا من أجل إرساء الحد الأقصي والمثالي من القيم.
ومن الناحية النفسية علينا أن ننتبه إلي الطبيعة الدينية والتاريخية والمكانة التي بلغها سيدنا عمر في الإسلام.. وتأثير ذلك علي ما يقول.. إن أيا من حكام العصر الحالي عربا كانوا أو من أي دولة مسلمة.. لا يمكن أن يدعي أنه من المبشرين بالجنة.. لكن سيدنا عمر كان في صدارة المبشرين بها.. وقال عنه الرسول صلي الله عليه وسلم (لولا أن بعثت لبعث عمر).. رجل بهذه الوضعية.. لابد أن نفسه تمتلئ بالتزامات تفوق خيال أي بشر عادي.. فهو ليس فقط خليفة.. وليس فقط مبشرا بالجنة.. بل وضعه الرسول في مكانته تقريبا.. ومن ثم فإنه يضع علي كاهل ذاته ما لا يمكن تصوره.
نفسيا، خرج سيدنا عمر من سياق مواصفات البشر العاديين.. حكاما أو محكومين.. وبالتالي وضع لنفسه في هذا الإطار خصائص تعطي للمسلمين مبررات تفسر لماذا يمكن أن يكون قد خرج من طبيعتهم.. وذهب إلي أفق لا يمكن بلوغه.. مؤكدا ليس الواقع الذي يريده.. وإنما النموذج الذي عليه تقديمه.. ولا أعتقد أن هذا مطلوب من أي حاكم معاصر.. سواء في القدرة علي تحمل المسئولية.. أو في فرض (الكود) الميتافيزيقي علي تصرفات الحكام.. وفي واقعة المرأة الشهيرة التي قال عنها سيدنا عمر (أصابت امرأة وأخطأ عمر) تجسيد حقيقي لتلك المعاني النفسية.. فهو لم يكن يتصور أنه يمكن أن يصدر حكما يراه هو خاطئا.. فهو لم يكن عاديا.. أقل من نبي.. وبالتأكيد أكثر بكثير من بشر عادي.
في المضمون، لايتوقف كثير من الناس عند المعاني المتكاملة الواردة في حديث النبي صلي الله عليه وسلم عن المسئولية والرعاية.. إن الغالبية تتعامل مع الحديث بمنطق (ولاتقربوا الصلاة).. فيقفون عند حد عبارة (كلكم راع) ولايكملون بقية الحديث.
والحديث يعتبر مصفوفة كاملة لتوزيع المسئوليات في المجتمع كله.. حسب ترتيب السلم الاجتماعي.. بدءا من الإمام الذي هنا هو الحاكم.. وصولا إلي العامل في مال سيده.. مرورا بالزوجة والأب.. والحديث لايضع المسئولية علي كاهل أحد دون غيره، بل إنه يستخدم تعبير (كلكم).. في الإشارة إلي المسئولية وإلي الرعاية.. ومن ثم فإن الحاكم ليس مسئولا وحده، ولكنه أحد المسئولين وإن عظمت نطاقات مهامه.. وتدرجت مهام من هم تحته ومن هم بعده.
وقد فرض الحديث معني أخلاقيا للمحاسبة عن هذه المسئولية.. فالمسئول يحاسب ضميريا ودينيا أمام الله.. ولم يشر الحديث إلي آلية محاسبة دنيوية.. وإنما يعني أن هناك التزامات محددة زرعها في ضمير المؤمنين لكي يساءلوا عنها أمام الله.. غير أن القانون حدد فيما بعد ومع تطور الدولة تبعات تولي المسئولية.. وإذا كان الحاكم يحاسب عن طريق الآليات البرلمانية والانتخابية.. فإن العامل في مال سيده يحاسب عن طريق تعاقده.. وكانت في المقابل سلطة الأب والأم تخضع فقط للوازع الضميري.. لكن القانون تدخل ووضع أيضا تبعات علي مسئولية الآباء والأمهات وفرض عليهم أساليب معاملة واضحة.. فلا يجوز ضرب الابن حتي يعذب.. وإلا تدخل القانون.. ولا يجوز تشغيل الطفل وإلا تدخلت السلطات لمنع تلك الجريمة.
ولست أدري لماذا ننسي معاني المسئولية الشاملة ونحن نجتر قصة سيدنا عمر وكيف أنه كان يضع نفسه كخليفة راشد غير متكرر في صدارة المسئولية ويضع علي كاهل ذاته مسئولية أن تعثر ناقة في العراق.. إذ أين بقية المسئولين بدءا من والي العراق إلي صاحب الناقة الذي يقودها وذهب بها إلي أن تعثر وكان في يده أن يبعدها عما يعوقها في طريقها ويمكن أن تعثر فيه.
ونكمل الأسبوع القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.