«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخليفة الذي ألهب أحلام المسلمين


نظام الحكم المستحيل
عمر بن الخطاب والحكام العرب
حيرنا سيدنا عمر. حيرتنا مواصفاته الأسطورية.. وسيرته العامرة.. وعدالته غير المتخيلة. الخليفة الراشد الذي يمثل قدوة في نموذج الحكم وطريقة الإدارة.. واعتقد بعض الناس أنه يمكن أن يتكرر.. رغم أن زمانه قد مضي.. وعالمه قد انتهي.. وعصره قد ولَّي.. ولم يعد بين البشر من يماثله. لكنه بقي حلما يراود الكثيرين.. يظنون أن بالإمكان أن يعود أو يستعاد.. وأن الدولة حين تكون علي طريقته (رضي الله عنه) سوف تكون واحة العدل ووطن الاستقامة.
وتلك طبيعة البشر. حالمون بعدل نموذجي. لايدانيه ظلم. ولاتعكره مظلمة. يتمنون أن ينتفي حرف (لو) من مقولته - سيدنا عمر - الأشهر: (لو كان الفقر رجلا لقتلته).. لكن الخليفة العظيم رحل وترك لنا الحقيقة المرة.. وهي أن الفقر ليس رجلا ولاامرأة.. ولن يقتل أبدا.. وبقيت عبارته أمنية مستحيلة.. كما بقيت القيم التي أرساها في دولته مستحيلة بدورها.. لايمكن بلوغها بعده.. حتي وإن بشر بها الخطباء في المساجد والمنظرون في الكتابات التي تروج للدولة الدينية.
حين قاربت هذه الفكره قبل ثلاثة أسابيع، برؤية واضحة لا لبس فيها، تحت عنوان متسائل: (ماذا لو حكمنا عمر بن الخطاب؟)، وتلته إجابات لاتردد حولها، كان أن لاحقتني ردود أفعال مختلفة.. بعضها مؤيد.. وبعضها رافض.. والأغلبية سكنت في عالم الحيرة.. منطقة رمادية تعاني من صدمة المنطق وقوة الحقيقة.. قال أصحابها لي: (المشكلة أن المقال لايترك ثغرة للنقاش.. فالمبررات التي أصدرت بها حكمك لايمكن مجادلتها).. غير أن بعضهم اتبع رفض الحيرة.. ولجأ إلي الشتم حين وجد أن المقال ينسف نظرية ثابتة مؤداها أن الحكم علي طريقة سيدنا عمر هو مايمكن أن تأتي به الدولة الدينية.
إن تلك التعليقات واجبة الرصد، بغض النظر عما ورد في بعضها من شتم، فالشتم هو أقل وأضعف ثمن ندفعه حين نقول أفكارا تصطدم بذهنيات متجمدة، ولعل الثمن يقف عند هذا الحد، وهي في وجهها الأهم - أي تلك التعليقات - إنما تعبر عن طبيعة الأفكار والتساؤلات التي تطرحها رؤي الناس.. ويجب أن نناقشها.. فنحن لا نطرح الأفكار للإملاء وإنما للنقاش.. أيا ما كانت مجرياته.. ونحن أبناء هذا المجتمع الذي يعاني من عيوب انقطاع الحوار فيه لفترات طويلة.
يقول أحدهم في تعليق كتبه: (الموضوع يحيرني فعلا.. إذ إنه لا يمكن أساسا المقارنة بين مسئولي اليوم وبين صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم.. ولكن أليسوا هم أسوة لنا.. وإذا كان تطور النظم وقيام نظام الدولة وتعاظم تعداد السكان يقلل من مسئولية الحكام الحاليين حيث إنه "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ألا تعد كلمة مسئول هي ترجمة لمفهوم أن أي شخص يتصدي لعمل يجب أن يكون مسئولا عن تبعات العمل وهل أتقنه أم لا؟).
واستعان آخر بنص الحديث الشريف لكي يؤكد علي معني المسئولية.. فقال نقلا عن رسول الله (صلي الله عليه وسلم): (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.. فالإمام راع ومسئول عن رعيته.. والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته.. والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها.. والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته).
وكتب ثالث: (يقول الرسول (ص) لولا أن بعثت لبعث عمر.. هذا التكريم لعمر وضعه في منزلة الأنبياء، لذلك فالمقارنة ظالمة لحكام هذا الزمان.. ولكن كما قلت في المقال عن قصة تعثر الناقة أن الغرض منها هو إرساء مبدأ العدل ومسئولية الحاكم عما يفعله العاملون تحت قيادته من إرساء القواعد والنظام والتطبيق الفعلي للقوانين واحنا مسئولين أيضا عن كل ذلك.. وكل حاكم عادل ظالم).
وكتب رابع يقول: كانت عبارة عمر بن الخطاب، إعلانا لمسئوليته عن أفعال عماله الذين يختارهم لمناصبهم. لا أستطيع أن أحاسب رئيس الدولة عن أداء برلمان منتخب انتخابا حقيقيا، أو عن أداء رئيس وزراء منتخب. ولكن إذا كان رئيس الوزراء معينا من قبل الرئيس، فالرئيس لا شك مسئول مسئولية مباشرة عن أداء رئيس الوزراء الذي يختاره. خاصة إذا تعددت أخطاؤه ولم نر من الرئيس تحركا لمعالجة الوضع، وبالأخص إذا كان رئيس الوزراء يقول لنا في كل يوم أنه يعمل وفق توجيهات الرئيس، وبناء علي أوامره).
وكتب خامس قائلا: (عندما يتكلم الناس عن عهد عمر بن الخطاب يتكلمون عن نموذج ربما غير قابل للتكرار، ولكن ليس من المستحيل أن نقترب من أسسه ومبادئه، بل هي المبادئ التي يجب أن يسعي إليها الناس في البحث عن العدل والحق وأن يكون صاحب السلطة مسئولا أمام الله والناس).
وشتم سادس منتقدا بحدة ما ذهبت إليه.. ووصل حدا بعيدا.. إذ قال: قرأت مقالتكم اليوم بمجلة روزاليوسف بعنوان: "ماذا لو حكمنا الآن عمر بن الخطاب"، وفي حقيقة الأمر لم أكن لأرد بتعليق عليها لولا دعوتكم لهذا في نهاية المقال.
والله لا خطباء منابر سواك وأمثالك ممن يؤمنون بأننا شعب غبي، فحين تقول أننا - أي الشعب المغلوب علي أمره - ليس مطلوبا منا انتظار أن يعاقب الحاكم من السماء وإنما نحن نحاسبه بأساليب مختلفة، فهما أمران لا ثالث لهما، إما أنت أو نحن. والعصور الغابرة التي لن تعود - وفقا لكلماتك - كانت تلك التي شهدت عظمة العرب ولا أقول المسلمين. يا أستاذ، لم لم تشر إلي خامس الخلفاء الراشدين الذي لم يوجد أحد في زمنه يتقبل الزكاة، وقيل له "عف الحاكم فعفت الرعية"، وأمر بتوزيع الزكاة علي أصحاب الحرف ليقوموا بدورهم بتخفيض أسعار منتجاتهم.
بالله عليك أتحداك أن تكتب مطالباً بأن تكشف للشعب شخصية المسئول الذي أصدر قرارا أن يقوم القطاع الخاص باستيراد القمح منذ عام 5002 بأموال مدفوعة مقدماً لتاجر القطاع الخاص، وماذا كانت أسباب هذا القرار غير مستفيد من ورائه، ولماذا لا يجرؤ أحد منكم علي مناقشة عودة الحكومة لاستيراده مباشرة؟
ولماذا تستكثر علي رئيس الدولة أن يمر مرة كل شهر أو سنة - ولو فجرا لتفادي الزحام - ليقف علي أحوال الشارع. بلاش دي، يقراْ الجرائد ويعرف اللي بيعملوه اللي تحته، جرائد المعارضة طبعاً.
وأخيراً، وهو التحدي الأكبر، لماذا تكون مصر - علي حد علمي - الدولة الوحيدة في العالم التي لا تفرض ضرائب تصاعدية علي الأغنياء؟؟؟؟؟ ممكن حد يرد. إن 1 ٪ زيادة علي ضرائب الأغنياء تمثل حولي 3 بلايين جنيه مصري دخلا للدولة يمكن بها سد آلاف الاحتياجات التي لا يجد عمنا الدكتور وسائل لسدها سوي عصر باقي الشعب من البسطاء. وتصور أن الشعب الغبي يقول أنه لابد أن الأغنياء يدفعون لأشخاص آخرين من تحت الترابيزة ليتم مساواة الأغنياء بالموظفين.
سامحك الله وأمثالك ممن عهد إليهم أمانة الكلمة).
انتهي نص بعض التعليقات.. وهي في الإجمال تثير عددا من القضايا التي توجب علينا أن نعود مجددا للفكرة التي طرحتها.. ولكي ننظم طريقة النقاش.. حتي نصل إلي الحقيقة أو وجهة نظر صائبة.. فإنني أشير بداية إلي الخطوط العريضة لما كنت قد طرحت من قبل في مقالي المشار اليه:
1- لا يمكن القول أن الطريقة التي أدار بها سيدنا عمر دولته كانت هي تلك الطريقة التي يجب أن تكون عليها الدولة الإسلامية في مختلف العصور.. ففيما بعد اغتياله دارت عجلة الزمن وتوالي علي المسلمين خلفاء من مختلف الفئات الذين حكم كل منهم بطريقته.. حين كانت هناك خلافة متسعة عبر القارات.. بحيث إنه لايمكن القول بأن طريقة هذا أو ذاك من الخلفاء والأمراء تمثل المواصفات الكاملة لطرق الحكم العادلة.. خاصة أن كثيراً منها - إن لم يكن أغلبها فيما بعد الخلفاء الراشدين - لم تكن عادلة بالمعني المفهوم للعدالة.
2- سيدنا عمر ذاته، يمثل حالة خاصة جداً، وربما استثنائية للغاية، ليس فقط في التاريخ الإسلامي وإنما في التاريخ الإنساني كله.
3- لكل عصر حكامه وأساليبه.. ولكل زمن طريقته.. ولكل دولة منهجها في إدارة شئونها.. والأساس في الاختلافات هو أن نتفق علي القيم الواجب اتباعها وإن تباينت الأساليب.. ففي كل زمان يسعي الناس إلي العدل، وفي كل وقت يرغب الناس في المساواة، وفي كل عصر يريد الناس أن ينال الجميع حقه وأن يخضع الحاكم إلي المساءلة.. ولكن الطرق تتباين والأنظمة تختلف والحياة تتطور.
4- الدساتير والقوانين توزع الآن المسئوليات علي عناصر الإدارة وأطرافها بحيث إنه لم يعد ممكنا للعقل أن يقبل أن يكون الحاكم رئيساً أو ملكاً أو سلطاناً.. أيا ما كان نظام الحكم.. أن يقبل فكرة أن هذا الحاكم مسئول بنفسه عن عثرة ناقة أو حمار أو حادث سيارة وقع في بقعة نائية أو حتي في مكان ملاصق لمقر حكمه.
5- الحاكم الذي يكون مسئولا عن كل شيء ليس فقط حاكماً خارج قدرة احتمال المنطق ولكنه أيضا يكون حاكما غير مقبول بالمقاييس الديمقراطية الحديثة ويعتبر ديكتاتورا نافيا لكل قيم الشراكة والتشارك في الإدارة وتحمل مسئوليات الحكم ويجعل الأمة كلها غير متحملة للمسئولية.
ولكني أعود في بداية هذا المسلسل الذي فرض نفسه.. من أجل مزيد من الحوار مع القراء حول الفكرة.. إلي أن أناقش بنودا متنوعة وردت في ملاحظاتهم.. واستهل الأمر بحديث المسئول والرعية.. الحديث النبوي الأشهر: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته....... إلي آخر الحديث).
ذلك أن من الواضح في ملاحظات القراء أن تلك المسألة تشغل الذهنية العامة.. المسئولية.. والضمير الذي يحركها.. ويصل الأمر في قناعات البعض حد توهم أن الحاكم يجب أن يكون مسئولا عن كل شيء.. وأي شيء.. في أي شيء.. استنادا إلي قصة الناقة الشهيرة (لو أن ناقة عثرت في العراق.....) التي قال بها سيدنا عمر رضي الله عنه.
من الناحية الشكلية لابد من التوقف عند حرف (لو) الذي كان سيدنا عمر يستعين به مرارا في مقولاته.. إذ (لو) كان الفقر رجلا لقتلته.. ولو أن ناقه عثرت.. هذا الحرف يفيد عدم وقوع الواقعة.. وبناء الحكم علي افتراض.. وسن القاعدة علي أساس سيناريو لم يتحقق.. وكما أشرت فإنه لم يكن بمقدور سيدنا عمر أن يدري بأي أسلوب مباشر كم عدد النوق التي يمكن أن تعثر في أي من بقاع الخلافة الإسلامية.. وكيف يتحمل مسئولياتها.. فما بالنا بالبشر الذين يعثرون في الطرق قبل النوق.. وإنما كان خليفة المؤمنين الراشد والصحابي الجليل يذهب بعيدا من أجل إرساء الحد الأقصي والمثالي من القيم.
ومن الناحية النفسية علينا أن ننتبه إلي الطبيعة الدينية والتاريخية والمكانة التي بلغها سيدنا عمر في الإسلام.. وتأثير ذلك علي ما يقول.. إن أيا من حكام العصر الحالي عربا كانوا أو من أي دولة مسلمة.. لا يمكن أن يدعي أنه من المبشرين بالجنة.. لكن سيدنا عمر كان في صدارة المبشرين بها.. وقال عنه الرسول صلي الله عليه وسلم (لولا أن بعثت لبعث عمر).. رجل بهذه الوضعية.. لابد أن نفسه تمتلئ بالتزامات تفوق خيال أي بشر عادي.. فهو ليس فقط خليفة.. وليس فقط مبشرا بالجنة.. بل وضعه الرسول في مكانته تقريبا.. ومن ثم فإنه يضع علي كاهل ذاته ما لا يمكن تصوره.
نفسيا، خرج سيدنا عمر من سياق مواصفات البشر العاديين.. حكاما أو محكومين.. وبالتالي وضع لنفسه في هذا الإطار خصائص تعطي للمسلمين مبررات تفسر لماذا يمكن أن يكون قد خرج من طبيعتهم.. وذهب إلي أفق لا يمكن بلوغه.. مؤكدا ليس الواقع الذي يريده.. وإنما النموذج الذي عليه تقديمه.. ولا أعتقد أن هذا مطلوب من أي حاكم معاصر.. سواء في القدرة علي تحمل المسئولية.. أو في فرض (الكود) الميتافيزيقي علي تصرفات الحكام.. وفي واقعة المرأة الشهيرة التي قال عنها سيدنا عمر (أصابت امرأة وأخطأ عمر) تجسيد حقيقي لتلك المعاني النفسية.. فهو لم يكن يتصور أنه يمكن أن يصدر حكما يراه هو خاطئا.. فهو لم يكن عاديا.. أقل من نبي.. وبالتأكيد أكثر بكثير من بشر عادي.
في المضمون، لايتوقف كثير من الناس عند المعاني المتكاملة الواردة في حديث النبي صلي الله عليه وسلم عن المسئولية والرعاية.. إن الغالبية تتعامل مع الحديث بمنطق (ولاتقربوا الصلاة).. فيقفون عند حد عبارة (كلكم راع) ولايكملون بقية الحديث.
والحديث يعتبر مصفوفة كاملة لتوزيع المسئوليات في المجتمع كله.. حسب ترتيب السلم الاجتماعي.. بدءا من الإمام الذي هنا هو الحاكم.. وصولا إلي العامل في مال سيده.. مرورا بالزوجة والأب.. والحديث لايضع المسئولية علي كاهل أحد دون غيره، بل إنه يستخدم تعبير (كلكم).. في الإشارة إلي المسئولية وإلي الرعاية.. ومن ثم فإن الحاكم ليس مسئولا وحده، ولكنه أحد المسئولين وإن عظمت نطاقات مهامه.. وتدرجت مهام من هم تحته ومن هم بعده.
وقد فرض الحديث معني أخلاقيا للمحاسبة عن هذه المسئولية.. فالمسئول يحاسب ضميريا ودينيا أمام الله.. ولم يشر الحديث إلي آلية محاسبة دنيوية.. وإنما يعني أن هناك التزامات محددة زرعها في ضمير المؤمنين لكي يساءلوا عنها أمام الله.. غير أن القانون حدد فيما بعد ومع تطور الدولة تبعات تولي المسئولية.. وإذا كان الحاكم يحاسب عن طريق الآليات البرلمانية والانتخابية.. فإن العامل في مال سيده يحاسب عن طريق تعاقده.. وكانت في المقابل سلطة الأب والأم تخضع فقط للوازع الضميري.. لكن القانون تدخل ووضع أيضا تبعات علي مسئولية الآباء والأمهات وفرض عليهم أساليب معاملة واضحة.. فلا يجوز ضرب الابن حتي يعذب.. وإلا تدخل القانون.. ولا يجوز تشغيل الطفل وإلا تدخلت السلطات لمنع تلك الجريمة.
ولست أدري لماذا ننسي معاني المسئولية الشاملة ونحن نجتر قصة سيدنا عمر وكيف أنه كان يضع نفسه كخليفة راشد غير متكرر في صدارة المسئولية ويضع علي كاهل ذاته مسئولية أن تعثر ناقة في العراق.. إذ أين بقية المسئولين بدءا من والي العراق إلي صاحب الناقة الذي يقودها وذهب بها إلي أن تعثر وكان في يده أن يبعدها عما يعوقها في طريقها ويمكن أن تعثر فيه.
ونكمل الأسبوع القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.