محمد إسماعيل قبل عقود كانت الكلمة هي العنصر الأول في الأغنية، الأساس الذي يُبنى عليه اللحن والصوت والتوزيع، فالكلمة كانت تعكس حال المجتمع وتختصر ملامح زمن بأكمله، ومع مرور السنوات تغيّرت المعاني والمفردات واختلفت طريقة التعبير والكتابة، فأصبحت الأغنية مرآة أخرى لجيل جديد بلغته وإيقاعه وأولوياته. هذا التبدّل في مضمون الأغنية هو نتيجة تحولات اجتماعية وثقافية واقتصادية انعكست على طريقة الكتابة والغناء. "أخبار النجوم" طرحت العديد من التساؤلات حول هذه الظاهرة على الموسيقيين، ليكشفوا كيف تغيّرت الكلمات، ولماذا تغيّرت، ومتى بدأ هذا التحول الملحوظ في شكل ومعنى النص الغنائي. في البداية يرى الموسيقار منير الوسيمي أن التحول في كلمات الأغاني بدأ تدريجيًا منذ مطلع الألفية الجديدة، حين بدأت ملامح المجتمع نفسه تتغير من حيث اللغة والاهتمامات وطريقة التواصل، فكانت الأغنية في الماضي انعكاسًا لوجدان الإنسان، فالكلمة كانت تُكتب بصدق شديد وتُراجع بعناية شديدة لأنها تمثل قيمة فنية وثقافية، وكانت جزءًا من تكوين الوعي في المجتمع، فلم يكن الشاعر الغنائي يبحث عن انتشار سريع، بل عن خلود العمل في وجدان الناس. أما اليوم، فالأغنية صارت أقرب إلى منتج استهلاكي سريع لا يُقاس بجمال الكلمة أو عمق المعنى، بل بسرعة انتشاره على المنصات ومواقع التواصل. اقرأ أيضا: منير الوسيمي يغيب عن تحقيق «الموسيقيين» بشأن شكوى مصطفى كامل ويضيف الوسيمي أن تغيّر اللفظ لم يكن فقط لغويًا، بل في الجوهر أيضًا، فزمان كانت الكلمات تحافظ على الذوق العام، فيها احترام للمستمع حتى لو كانت تتناول موضوعًا بسيطًا أو شعبيًا، أما الآن فالكلمة أصبحت مرنة بشكل مفرط وأحيانًا خارجة عن الذوق المعتاد، نتيجة رغبة البعض في لفت الانتباه أو خلق ضجة. السبب في ذلك أن الأغنية تحوّلت من رسالة فنية إلى وسيلة للظهور والترويج. ويشير الوسيمي إلى أن هذه الظاهرة لم تولد فجأة، بل هي نتاج تراكمات اجتماعية وثقافية بدأت من منتصف التسعينيات مع تغير شكل الإعلام وظهور الفضائيات، ثم تسارعت أكثر مع ثورة الإنترنت ووسائل التواصل، حيث صارت المنافسة على الشهرة لا على القيمة، فالناس زمان كانت تسمع لتستمتع، أما الآن فيسمعون ليواكبوا ما هو دارج فقط، فانعكس ذلك على صُنّاع الأغنية الذين بدأوا يكتبون بلغة هذا الجمهور الجديد. انعكاس للتطور اللغة أما الناقد الموسيقي أمجد جمال، فيرى أن تغيّر مفردات الأغنية ليس بالضرورة أمرًا سلبيًا، بل هو انعكاس طبيعي لتطور اللغة اليومية للمجتمع، فكل زمن له لغته الخاصة، والكلمات التي كانت رائجة في الستينيات والسبعينيات لم تعد تُستخدم بالطريقة نفسها الآن، ولا يمكن أن نطالب شاعر اليوم أن يكتب بأسلوب مرسي جميل عزيز أو حسين السيد، لأن المستمع نفسه تغيّر، وطريقة تلقيه للمعنى أصبحت مختلفة. ويضيف أمجد جمال أن التحول الحقيقي في معاني الأغاني بدأ عندما تغيّرت طبيعة العلاقات الإنسانية، فالمجتمع لم يعد كما كان في بساطته ورومانسيته، ففي الماضي كان التعبير عن الحب يتم بصور شعرية راقية ومجازات لغوية عميقة، أما اليوم فاللغة أصبحت مباشرة تميل إلى البساطة والسرعة، وهذا طبيعي في عصر السرعة والإعلام الفوري. ويشير أمجد جمال إلى أن ما حدث لا يُعد انحدارًا لغويًا بقدر ما هو تبدّل في أسلوب التعبير، فنحن نعيش في زمن مختلف لا يمكن فصل الفن فيه عن الواقع، فالتغيّر في الكلمات يعكس تغيّرًا في الإحساس العام، في طريقة التفكير وفي أسلوب الحياة، حتى الأغنية الحزينة اليوم تُكتب بطريقة أكثر اختصارًا وأقل فلسفة، لأن الناس لم يعودوا يبحثون عن المعنى العميق بقدر ما يريدون التعبير الفوري عن مشاعرهم. ويؤكد أمجد جمال أن الأغنية ستظل دائمًا ابنة زمنها، وأن الحكم على جودة الكلمات يجب أن يكون بمعايير عصرها لا بمعايير العصور السابقة، موضحًا أنه كما تطوّر اللحن والإيقاع تطورت اللغة أيضًا، وهذا ليس خطأً طالما حافظت الكلمة على صدقها وجمالها النسبي، المهم ألا تفقد الأغنية جوهرها الإنساني حتى وإن اختلف شكلها. اختفاء المراجعة في حين يرى الناقد الموسيقي عبد الرحمن طاحون أن تغيّر الكلمات كان بفعل تغيّر منظومة الإنتاج الفني نفسها، فزمان كانت الكلمة تُكتب ثم تُلحن ثم تُغنّى في إطار واضح من التعاون بين الشاعر والملحن والمطرب، وكانت هناك جهات إنتاج تهتم بالقيمة، أما اليوم فمعظم الأغاني تُنتج ذاتيًا أو تُصنع لأغراض تجارية محددة، فاختفت المراجعة الفنية وصار المعيار هو مدى قابلية الأغنية للانتشار على المنصات، ونتيجة لذلك أصبحت الكلمات أسهل وأبسط، وأحيانًا بلا رمزية تُذكر. ويضيف طاحون أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية لعبت دورًا مهمًا في هذا التغير، فحين تتغير أولويات الناس تتغير مفرداتهم أيضًا، فالشباب اليوم يعيشون في عالم مختلف، يتحدثون لغة رقمية، ويتأثرون بالإعلانات ووسائل التواصل الاجتماعي أكثر من الشعر أو الأدب، وبالتالي انعكس ذلك على الأغنية التي أصبحت تحمل قاموسهم اليومي لا قاموس الشعراء التقليديين. ويرى طاحون أن توقيت التغير الحاسم بدأ منذ العقد الثاني من الألفية، حين تحولت صناعة الموسيقى إلى فضاء مفتوح عبر الإنترنت، فلم يعد هناك حارس للذوق العام، فكل شخص يمكنه أن يُصدر أغنية ويصل بها إلى ملايين المستمعين بغض النظر عن مستوى الكلمات، ومع الوقت أصبح الجمهور نفسه جزءًا من التوجيه، لأن صُنّاع الأغنية بدأوا يكتبون وفقًا لما يطلبه السوق الرقمي. ويختتم طاحون حديثه قائلًا إن التغير في كلمات الأغاني لم يكن مجرد تحول لغوي، بل هو انعكاس لتحول ثقافي شامل، فعندما تتغير نظرة المجتمع إلى الفن وإلى دوره تتغير معه اللغة والمفردات والمعاني، وربما بعد سنوات تتبدّل الصورة من جديد، فالفن حيّ يتطور كما يتطور الإنسان نفسه، ولا يبقى على نفس الحال.