منذ اشتعلت نيران الشرق الأوسط واشتدت العواصف السياسية في محيطه ظل هناك خيط من الحكمة يمتد من ضفاف النيل إلى العالم يعيد كل مرة التوازن إلى معادلة مختلة. هذه الحكمة المصرية ليست خطابا دبلوماسيا أو موقفا طارئا بل إرث دولة تعرف جيدا معنى الحرب وتدرك ثمن السلام. ولهذا حين تتحدث القاهرة اليوم عن الوساطة لا تفعل ذلك بحثا عن مجد سياسي أو مكسب عابر بل بوصفها صاحبة مدرسة قديمة تعلمت من التاريخ أن السلام لا يُشترى بل يُصنع. في الأسابيع الأخيرة حين تصاعدت المواجهات في قطاع غزة وتحولت المأساة إلى جرح مفتوح في الضمير الإنساني اتجهت الأنظار نحو القاهرة دون دعوة. العالم يدرك أن مصر حين تتكلم لا تفعل ذلك عبثا ، وحين تتحرك فإنها تمارس السياسة بمعناها العميق لا الدعائي. إنها الدولة التي اختبرت الحرب وعاشت مرارتها ثم صنعت السلام بإرادتها لا بإملاء من أحد. ومن تلك التجربة التاريخية نشأت فلسفة مصرية في إدارة الأزمات تعتمد على الواقعية والالتزام الأخلاقي والمصلحة الإنسانية المشتركة. لم تأت الوساطة المصرية من فراغ فالقاهرة لم تخرج يوما من دائرة التأثير في قضايا المنطقة. منذ اتفاقية كامب ديفيد وحتى اليوم كانت الجسر الذي يربط بين الخصوم حين تنقطع الجسور وكانت دائما صوت العقل وسط زحام الانفعالات. ومع كل أزمة جديدة كانت القاهرة تثبت أن صوتها الهادئ أكثر قدرة على الإقناع من ضجيج القوى الكبرى. لكن ما يجعل دورها اليوم مختلفا هو أنها تتحرك في عالم فقد بوصلته ؛ عالم تتحدث فيه القوى العظمى عن القيم بينما تتاجر بالمبادئ وتدّعي الدفاع عن الإنسان وهي تتركه وحيدًا أمام النيران. في مثل هذا المشهد لا تبيع مصر الأوهام ولا ترفع سقف الوعود لكنها تمتلك ما لا يملكه كثيرون: رصيدا من الثقة لدى الجميع. لم تُغلق أبوابها في وجه أحد ولم تفقد احترام طرف مهما اختلف معها. تجلس القاهرة إلى طاولة واحدة مع من لا يجتمعون عادة لكنها تفعل ذلك دون أن تنحاز أو تساوم على مواقفها. وهذا سر تفوقها فهي لا تملك فقط أدوات السياسة بل تمتلك روحها وتعرف أن الكلمة الصادقة أحيانا أقوى من ألف بيان. الوساطة في مدرسة مصر ليست منصة إعلامية ولا مشهدا من الكاميرات. فالدبلوماسية الحقيقية عندها تُصنع في صمت الغرف المغلقة حيث تُنسج الخيوط الدقيقة بين الأطراف المتصارعة بصبر واحترام ومهارة. وخلال الأسابيع الماضية حين كان العالم يكتفي بتكرار بيانات القلق كانت القاهرة تعمل على الأرض. لم ترفع الشعارات لكنها فتحت المعابر لم تصدر بيانات لكنها رتبت اللقاءات ولم تتحدث عن الإنسانية بل مارستها فعلا. وهنا يكمن جوهر الفارق بين من يتاجر بالأزمة ومن يسعى فعليًا لإنهائها. القاهرة لا تتحرك من موقع المجاملة أو الطموح السياسي بل من موقع الشرعية الأخلاقية التي تملكها دولة قدّمت السلام يومًا كخيار وطني وحافظت عليه كمسؤولية إنسانية. وفي زمن تآكلت فيه مصداقية القوى الكبرى أصبحت مصر صاحبة رؤية واضحة في إدارة الصراعات. فهي ترى أن السلام ليس وثيقة تُوقّع بل ثقافة تُزرع في وعي الشعوب. لهذا تبني وساطتها على مبدأ أن الأمن الحقيقي لا يتحقق بالسلاح بل بالعدالة وأن القوة العسكرية مهما بلغت لا تستطيع أن تُطفئ نار الغضب إذا ظلت جذور الظلم حية. القاهرة ترفض أن تتحول إلى أداة في يد أحد فهي تتحرك باستقلال كامل نابعة من إدراكٍ عميق لدورها ومسؤوليتها تجاه المنطقة. لم تنتظر يوما تفويضا دوليا لتتدخل ولم تسعَ إلى تسويق نفسها كقوة راعية لمصالح الآخرين بل باعتبارها دولة تعرف أن أمنها لا ينفصل عن استقرار الإقليم. لهذا حين تتحدث مصر فإنها لا تتحدث باسم الحياد بل باسم المسؤولية التاريخية التي تجعلها مؤتمنة على صوت المنطقة حين يصمت الجميع. لقد أدركت القاهرة أن الوساطة الحقيقية لا تحتاج إلى صخب بل إلى ثقةٍ متراكمة. فهي تتعامل مع الأطراف المتنازعة بميزان من الاحترام وتُدرك أن الحلول لا تُفرض بل تُبنى بالتفاهم. وحين تنجح في جمع المتخاصمين فإنها تفعل ذلك لأنها تنطلق من مبدأ بسيط وعميق في آن واحد: أن الإنسان أولا وأن حماية الحياة فوق كل الحسابات. هذه المعادلة الإنسانية هي ما يجعل من الوساطة المصرية حالة استثنائية في عالم بات يفتقد للضمير الجماعي. السلام بالنسبة لمصر ليس ترفا سياسيا بل حاجة وجودية. فمنذ عبور أكتوبر العظيم أدركت هذه الأمة أن القوة الحقيقية ليست في الانتصار العسكري وحده بل في القدرة على تحويل الانتصار إلى مشروع استقرار. ولهذا تتعامل مع ملف الوساطة باعتباره امتدادًا لروح العبور عبور من الحرب إلى الحكمة ومن الفوضى إلى البناء. ومثلما لم يكن نصر أكتوبر وليد المصادفة فإن نجاح الوساطة المصرية اليوم ليس وليد ظرف بل ثمرة لتقاليد عميقة في إدارة الأزمات نابعة من إدراك بأن الدبلوماسية ليست فن التفاوض فقط بل فن فهم النفس البشرية في لحظات التوتر القصوى. حين تتراجع القوى الكبرى عن دورها كصانع للسلام تتقدم القاهرة لتعيد تعريف هذا الدور. فهي تدرك أن السلام لا يُفرض بالهيمنة بل يُبنى بالتوازن وأن الوساطة ليست حيادا سلبيا بل التزاما إيجابيا بحماية الأرواح. ولهذا يلتف العالم حولها اليوم لا لأنها الأقوى عسكريا أو الأغنى ماديا بل لأنها الأصدق إنسانيا. لقد ربحت القاهرة ما هو أثمن من النفوذ ربحت ثقة الشعوب واحترام العالم لأنها لم تتاجر بالمآسي بل جعلت من السياسة طريقا إلى الرحمة. لقد علمتنا مصر أن الوساطة لا تُشترى بل تُصنع كما يُصنع التاريخ: بالإيمان، والصدق، والإرادة. إنها لا تقدم دروسا في العلاقات الدولية بل تكتب تجربة إنسانية عميقة تقول للعالم إن أعظم قوة يمكن أن تملكها دولة هي قدرتها على حفظ الحياة لا على إنهائها. في زمن يختلط فيه الصواب بالضجيج تظل القاهرة استثناءً مضيئا يذكّرنا بأن الحكمة ما زالت ممكنة وأن السلام مهما تأخر له عنوان واحد على خريطة الشرق الأوسط: مدرسة اسمها مصر.