المنهجية الوضعية التى نشأت في الغرب هى أشد المناهج تأثيرا في حياتنا وأكثرها التصاقا بالحالة الثقافية في مجتمعات العرب والمسلمين، ومصر بالطبع في مقدمتها، فلدينا هنا في أرض الكنانة عشاق لها مؤمنون بها مدافعون عنها، يدعون إليها ليلا ونهارا ولا يرون تقدما يحدث أو نهضة يمكن أن تبدأ بمعزل عنها ومن ثم فهى تشكل لهم قبلة ثقافية إليها يتجهون، ومنها يتلقون، وعنها يأخذون، فهم بها مغرمون، ولمبادئها وأفكارها يروجون ويدعون. ومن المهم في البحث المجرد أن يعرف الباحث السياق التاريخى والمناخ الثقافى الذى نشأت فيه تلك المنهجية حتى يتمكن من الحكم عليها صوابا أو خطأ ، صوابا نأخذ به وندعو إليه مع الداعين لها ، أو خطأ فنتجنبه وننبه إخواننا إليه ونصوب وجهتهم إن كانوا يبحثون عن الحقيقة ويريدون نهضة وإصلاحا. وفى السياق التاريخى يلحظ الباحث ما يلى : 1. أن الفترة التى سبقت ظهورالمنهجية الوضعيةكانت الكنيسة قد سيطرت برجالها ومفاهيمها على مصادر القرار والتوجيه . 2. أن الصيغ الثقافية السائدة في تلك الفترة كانت محكومة بقيود السكون الرافض لأي حراك والجمود المتأبي على أي تغيير، والثبات المعادي لكل جديد عقلي أو علمي. 3. أن هذه المرحلة انتهت بتمرد العقل على تعاليم الكنيسة، وثورته بعد صراع طويل على تلك الصيغ الجامدة . 4. كان من الطبيعي أن يولد هذا الضغط المتزايد فكرًا مناقضًا تمامًا يعادي فكرة الثبات فى حد ذاتها" ، وأنه لا مطلقات أبدًا في هذا الوجود. 5. أن المنهجية الوضعية نشأت في أحضان هذا الظرف التاريخى المأزوم ثقافيا وعلميا. 6. وبموجب قانون رد الفعل، انطلقت المدارس الوضعية فى دراستها للظواهر الطبيعية أو الاجتماعية من منطلق أن كل شيء نسبي. 7. أن الرؤية في المنهجية الوضعية انحصرت في جانب صغير من عالم المادة "العالم المحسوس أو ما يسمى بعالم الملك أو عالم الشهادة" دون أن تضع في الاعتبار عالم الغيب أو حتى تفكر فيه. ومن هنا انطلقت هذه المدارس في إنكارها للثوابت في كل شيء، العقائد والقيم والأخلاق، ونشأت العلمانية الطبيعية كما يطلق عليها أستاذنا العظيم الدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- "العلمانية الشاملة"، والتي يمكن أن نسميها أيضا "العلمانية الطبيعية / المادية" أو "العلمانية العدمية"، وهي رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجالاته، لا تفصل الدين عن الدولة وعن بعض جوانب الحياة العامة وحسب، وإنما تفصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن كل جوانب الحياة العامة في بادئ الأمر، ثم عن كل جوانب الحياة الخاصة في نهايته، إلى أن يتم نزع القداسة تماما عن كل العالم (الإنسان والطبيعة) وعن كل شئ في الحياة العامة والخاصة، الرموز والمرجعيات ومن ثم تذوب وتتلاشى شيئا فشيئا كل الفروق بين المقدس والمدنس. هذا هو السياق الزمني الذي نشأت في ظله المدارس الوضعية في دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية والإنسانية وما احتواه هذا السياق من دوافع وبواعث وردود أفعال تجاوزت كل الثوابت والمطلقات ونظرت إلى كل شيء من منظور نسبي هروبًا من جبروت الكنيسة وتمردًا على السكون والجمود الذي صادر حق العقل في التساؤل والاستفهام، كما صادر حرية الفكر في الانطلاق حتى نحو الجوانب المادية. غير أن هذه المنهجية الوضعية استبدلت قيدا بقيد ووثاقا بوثاق رغم ثورة العقل وتحطيمه لقيود الكنيسة إلا أنها استبدلت قيود الكنيسة بسعار الشهوات حين انطلقت في الحياة بغير ضوابط الأخلاق والقيم فنشأت النزعة الاستعمارية وانطلق الوحش الكامن في أعماق الإنسان للسيطرة والاستعلاء وبسط النفوذ وإلغاء الآخر أو تدميره وتدمير ثقافته. في بلادنا بلاد العرب "الأجاويد الحرة المستقلة" كان تلاميذ المنهجية الوضعية على أتم استعداد للعمل في بلاط العلمانية الجديدة ،ونقل بضاعتها المزجاة كلها بغثها وسمينها إلى بلادنا الحرة المستقلة التابعون في كل شئ لمن ليسوا من دون الله على شئ من أبناء جلدتنا فتحوا دكاكينهم أطلقوا على أنفسهم لقب المبدعين والمثقفين من باب الترويج للبضاعة الجديدة ، ولم يفرقوا بين دين ودين ولا بين مجتمع ومجتمع فاستنسخوا تلك الحالة من هناك وأتوا بها معلبة رغم انتهاء صلاحيتها ، لكنهم أرادوا أن يبيعوها في أسواقنا الثقافية حيث الأبواب مشرعة بغير رقيب أو حسيب. وعلا صراخهم أنه لا نهضة ولا تقدم بغير الخروج على الثوابت والتحلل من كل الأصول ولعل هذا يفسر لنا إصرار " خفافيش النار عندنا على تهميش دور المؤسسات الإسلامية ومحاولات تحجيمها وتخويف النظام والمجتمع منها وقطع الصلة وبتر العلاقة بينها وبين مؤسسات المجتمع المدنى، ولعله يفسر لنا أيضا سر الحملات المحمومة طويلة اللسان على دين الله ودعاته ومن ينتسبون إليه، بينما تخرس ألسنتهم أمام تطاول الكنيسة ورجالها على كل شئ بما في ذلك تحدى القوانين وإحراج النظام والضغط على رموزه وممارسة كل وسائل الابتزاز ضد سلطات الدولة والتلويح بتجييش المظاهرات والاستقواء بالخارج على حساب الأغلبية المسلمة. ولما كان الموالى التابعون في كل شئ لمن ليسوا من دين الله على شئ تشمئز قلوبهم إذا قلنا لهم قال الله وقال رسوله بينما تتفتح أساريرهم ويشتبشرون إذا ذكرنا لهم أسيادهم وولاة أمورهم وأولياء نعمتهم، فإننا هنا سنسوق لهم جملة من النصوص تمثل شهادات علمية وتاريخية موثقة جاءت على ألسنة العدول من مفكرى الغرب أملين أن يفكروا فيها بعقول متحررة لعلهم في لحظات صدق وما أقلها في حياتهم يراجعون أنفسهم ويغيرون قبلتهم ويكفون عن الإغارة على دين الأغلبية وعلى ثوابت الأمة ويريحون الدنيا من عويلهم المستمر ولعل كبيرهم يعدل عن بث فحيح الأفاعى حول الإسلام والمسلمين بمناسبة وبغير مناسبة . فى كتابه " حفارو القبور"يقول المفكر الفرنسى روجيه جارودى " أعطى الغرب الإستعماري، منذ خمس قرون - والعرض مستمر- مثال التطرف الأكثر فتكا، وهو الإدعاء بامتلاك الثقافة الوحيدة الحقيقية، الدين العالمي الوحيد، نموذج التنمية الوحيد، مع نفي أو تدمير الثقافات الأخرى، الديانات الأخرى، النماذج الأخرى للتنمية.ص 22 جعلوا في بعض الأحيان من الإلحاد مكونا أساسيا للإشتراكية، مما حرمها دائما من بعدها الخاص بالبحث فيما وراء المادة لصالح تسميتها ب"الإشتراكية العلمية"، متناسين أن الثورة يمكن أن تكون علمية في وسائلها، لكن لا يمكن لأي علم أن يمنحنا أهدافا نهائية. أصبحت "الحقيقة" سلعة تباع وتشترى، ويتم تكييفها طبقا للهدف المطلوب. يعتمد الإعلام من الآن فصاعدا على دعم الإعلان، الذي يتحكم في تمويل البرامج واختيار مقدميها ص 78 السياسة الكبرى هي كيفية إعداد الشعب إعدادا جيدا للعبودية – من اليمين أو من اليسار- عن طريق الشاشة الصغيرة وهو يبتسم في سعادة وغفلة! وإذا كان من السهل حكم الشعب الجاهل، فما أسهل ذلك عن طريق التلفزيون.ص 79 تولد الرغبة في الهروب من مجتمع بلا معنى، نوعا من الجنون أو التدمير، أو على الأقل نسيان العالم وأنفسنا أيضا.ص 82 مثلما حدث في زمن انحلال الرومان وألعابهم للسيرك، نعيش مرة أخرى من جديد عصر "فساد التاريخ"، المتميز بالسيطرة التقنية والعسكرية الساحقة لإمبراطورية لا تحمل أي مشروع إنساني قادر على إعطاء معنى للحياة والتاريخ. استلزم الأمر حينذاك ثلاثمائة عام لبناء مجنمع إنساني جديد. هذا الميلاد لعالم إنساني، إنطلاقا من "ما قبل التاريخ" الحيواني والذي عدنا لنعيش فيه، لم يكن ليولد إلا من الوعي، على مستوى الشعوب، من سوءات وحدانية السوق وأنبيائها المزيفين.ص 85 كتاب فوكوياما، المستشار في الإدارة الأمريكية، حول نهاية التاريخ، هو التعبير النموذجي لما أسميه " أعراض 92". إنه نموذج لأيدولوجية تبرير "الفوضى العالمية الجديدة"ص 86 لم ينجح النظامان الإجتماعيان في الشرق والغرب، لا الأول ولا الثاني، في الإجابة عن هذه الأسئلة الخاصة بالأهداف النهائية؛ فشلت الرأسمالية لأنها لا ترى أي هدف سوى النمو الكمي لإنتاج السلع والخدمات وأرباحها*.ص88 وفشلت إشتراكية الدول في نموذجها السوفيتي. إتخذت لنفسها هدفا، لكن اتضح أنها غير قادرة على الوصول إليه بالوسائل التي استخدمها*. ولدت كل منهما على نفس التربة الثقافية الغربية. اشترك النظامان في اليقين الزائف نفسه، الصادر من غرور النهضة, وهو أن "العلم" التجريبي والرياضي يمكن ان يجيب عن كل المشكلات ويحلها. الوسائل الهائلة التي خلقها ستضمن السعادة. فشل العلم التجريبي في ذلك، مثلما علم الإجتماع الوضعي. أفلست هذه الفرضية الأولى، مثلما فشلت في أن تحل محل الأخلاق. وبالطبع فشل العلم التجريبي والتكنولوجيا في أن يقودا وحدهما الإنسانية بنجاح. هكذا، ولد نوع جديد من البشر: الإنسان المبرمج ويعني هؤلاء الذين يشبهون العقول البشرية بالكمبيوتر، متناسيين أن خاصية الإنسان هي طرح الأسئلة النهائية، وقبلها أسئلة لماذا وما الأهداف النهائية. ص 89 في كتابه " مجتمع خارج حدود السيطرة يقول الكاتب الأمريكى زبيجنيو بريزينسكى، وكان مستشارا للأمن القومى في الولاياتالمتحدةالأمريكية يقول: "أصبح المواطن يعاني من حالة ضياع وتشتت. فهو لايدري هل يعود للالتزام بالتعاليم الدينية في حين يجد حوله مجتمعًا بأكمله، استبعد تلك التعاليم واستباح المحرمات، أم يواكب ذلك المجتمع ويعاني من التمزق والتناقض الداخلي" . فهل يعى الموالى والعبيد معانى تلك المقولات؟ وهل يتحررون من ربقة العبودية؟ أم ينطبق عليهم قول الشاعر: وما ناديت إذ ناديت حيا .....ولكن لا حياة لمن تنادى وصدق الله العظيم إذ يقول: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }الفرقان44 • رئيس مجلس إدارة المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية – أستراليا • ورئيس إذاعة القرآن الكريم في أستراليا