تفاصيل الحالة الصحية للفنان أحمد سعد بعد تعرضه لحادث سير    استطلاع: 44% من الإسرائيليين يرفضون منح نتنياهو عفوا عن تهم الفساد    الكاف يخطر الزمالك بطاقم تحكيم مباراة زيسكو يونايتد    هند عاكف ترد على شائعة زواجها من إسماعيل الليثي قبل وفاته    رئيس شعبة الذهب يكشف توقعاته للأسعار خلال الفترة المقبلة    بعد استبعاد الفنانين المصريين، تركي آل الشيخ يعلن عودة الثقافة المصرية لموسم الرياض    للأمهات، اكتشفي كيف تؤثر مشاعرك على سلوك أطفالك دون أن تشعري    توقيع اتفاقيات وتفقد مشروعات وتوسعات جامعية.. الحصاد الأسبوعي لوزارة التعليم العالي    انطلاق الأسبوع التدريبي ال 15 بقطاع التدريب وبمركز سقارة غدًا    أسماء مرشحي القائمة الوطنية لانتخابات النواب عن قطاع القاهرة وجنوب ووسط الدلتا    ضبط 15 شخصًا لقيامهم باستغلال الأطفال الأحداث في أعمال التسول    موجة برد قوية تضرب مصر الأسبوع الحالي وتحذر الأرصاد المواطنين    إنقاذ 3 مصريين فى منطقة محظورة بين تركيا واليونان    قناة السويس تشهد عبور 38 سفينة بحمولات 1.7 مليون طن    محاضرة بجامعة القاهرة حول "خطورة الرشوة على المجتمع"    عروض فنية وإبداعية للأطفال في ختام مشروع أهل مصر بالإسماعيلية    تصعيد قاسٍ في أوكرانيا... مسيّرات وصواريخ "كينجال" ومعارك برّية متواصلة    قافلة تنموية شاملة من جامعة القاهرة لقرية أم خنان بالحوامدية    مؤتمر جماهيري حاشد ل«حماة الوطن» بالدقهلية لدعم مرشحه في النواب 2025 | فيديو    الموسيقار هاني مهنا يتعرض لأزمة صحية    المدير التنفيذي للهيئة: التأمين الصحي الشامل يغطي أكثر من 5 ملايين مواطن    محافظ الجيزة يُطلق المهرجان الرياضي الأول للكيانات الشبابية    الصحة العالمية: 900 وفاة في غزة بسبب تأخر الإجلاء الطبي    فرص عمل جديدة بالأردن برواتب تصل إلى 500 دينار عبر وزارة العمل    مواجهات حاسمة في جدول مباريات اليوم السبت 15 نوفمبر 2025    وزيرة التنمية المحلية تفتتح أول مجزر متنقل في مصر بطاقة 100 رأس يوميا    بتكوين تمحو معظم مكاسب 2025 وتهبط دون 95 ألف دولار    انخفاض ملحوظ فى أسعار الطماطم بأسواق الأقصر اليوم السبت 15 نوفمبر 2025    الأعلى للثقافة: اعتماد الحجز الإلكتروني الحصري للمتحف المصري الكبير بدءًا من 1 ديسمبر    «التخطيط» تطبق التصويت الإلكتروني في انتخابات مجلس إدارة نادي هليوبوليس    توقيع إتفاق تعاون بين «مينا فارم» و«باير» لتوطين صناعة الدواء    «الزراعة»: إصدار 429 ترخيص تشغيل لمشروعات الإنتاج الحيواني والداجني    لو مريض سكر.. كيف تنظم مواعيد دواءك ووجباتك؟    في ذكرى وفاته| محمود عبدالعزيز.. ملك الجواسيس    تحاليل اختبار الجلوكوز.. ما هو معدل السكر الطبيعي في الدم؟    أطلقت عليه وابل رصاص وضربته بظهر الطبنجة (فيديو)    كولومبيا تعلن شراء 17 مقاتلة سويدية لتعزيز قدرتها الدفاعية    ترامب يلغي الرسوم الجمركية على اللحم البقري والقهوة والفواكه الاستوائية    عمرو حسام: الشناوي وإمام عاشور الأفضل حاليا.. و"آزارو" كان مرعبا    حارس لايبزيج: محمد صلاح أبرز لاعبي ليفربول في تاريخه الحديث.. والجماهير تعشقه لهذا السبب    نشرة مرور "الفجر".. انتظام مروري بمحاور وميادين القاهرة والجيزة    درجات الحرارة على المدن والعواصم بمحافظات الجمهورية اليوم السبت    الصين تحذّر رعاياها من السفر إلى اليابان وسط توتر بشأن تايوان    جامعة القناة تقدم ندوة حول التوازن النفسي ومهارات التكيف مع المتغيرات بمدرسة الزهور الثانوية    الشرطة السويدية: مصرع ثلاثة أشخاص إثر صدمهم من قبل حافلة وسط استوكهولم    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمحل عطارة في بولاق الدكرور    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    في غياب الدوليين.. الأهلي يستأنف تدريباته استعدادا لمواجهة شبيبة القبائل    حكم شراء سيارة بالتقسيط.. الإفتاء تُجيب    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    مقتل 7 أشخاص وإصابة 27 إثر انفجار مركز شرطة جامو وكشمير    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    باحث في شؤون الأسرة يكشف مخاطر الصداقات غير المنضبطة بين الولد والبنت    جوائز برنامج دولة التلاوة.. 3.5 مليون جنيه الإجمالي (إنفوجراف)    زعيم الثغر يحسم تأهله لنهائي دوري المرتبط لكرة السلة    حسام حسن: هناك بعض الإيجابيات من الهزيمة أمام أوزبكستان    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



...حتى لو ألغيتموها ..؟!-1
نشر في المصريون يوم 05 - 05 - 2010

منذ أن التحقت بقطار التعليم عام 1943/1944 بدءا من الصف الأول للمدرسة الأولية التى كانت تسبق التعليم الابتدائى إلى أن تخرجت فى آداب القاهرة عام 1958/1959 وأنا ،مثل ألوف من المصريين ،نتلقى دروسا فى التربية الدينية من خلال مقرر دسم ، ودروس فى اللغة العربية ، بها الكثير من آيات القرآن الكريم باعتباره المقياس الأساسى لحسن النطق العربى والتزام قواعد اللغة ،ولم أسمع ، كما لم أقرأ ، ولم أشاهد ، أى حدث أو حديث عن " فتنة طائفية " أو تعصب هنا أو هناك ، مع أن هذه الفترة من التاريخ بصفة خاصة لا أظن أن قد مر بمصر ما هو أكثر منها من حيث سرعة الإيقاع ،والعنف ،والتغير الجذرى ،والتحولات التاريخية .
وحتى أنعش ذاكرة من يعلم ،وأضيف إلى من لا يعلم، يكفى أن يعرف أن هذه الفترة كانت تشهد احتدام معارك الحرب العالمية الثانية ،بكل ما اتصل بها من دموية وخراب ودمار ،وبعدها بثلاث سنوات ، حرب فلسطين وظهور الكيان الصهيونى على الأرض المغتصبة ، ،ومقتل رئيسى وزراء لمصر ( أحمد ماهر، ومحمود فهمى النقراشى )، وقيام ثورة يوليو1952 وخلع الملك ،والتحول من الملكية إلى الجمهورية 1953،ومحاولة اغتيال جمال عبد الناصر 1954،وتأميم قناة السويس 1956، والعدوان الثلاثى عام 1956 ، وقيام الوحدة بين مصر وسوريا 1958 ...
مجموعة أحداث مهولة تتضاءل أمامها وتتصاغر أحداث ما بعد هذه الفترة التى كثر الحديث فيها عن العنف والإرهاب والتعصب ، ذلك الحديث الذى لم يكن قائما قبل أول السبعينيات بنفس الكثافة وذات الحدة والاتساع !
ولاحظ أيضا أن كل حوادث العنف من عام 1948، حتى عام 1954، نسبت لجماعة كبرى ذات طابع دينى ، هى جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم كان يمكن أن يثور مثل هذا الحديث القائم الآن عن التعصب والفتنة الطائفية والإرهاب وضرورة اجتثاثه من جذوره فى مقرر التربية الدينية ، ولكن العقل الوطنى كان لا يزال بخير ، وكان الحس الدينى لا يزال يقظا ، ومن هنا فقد حُصر الأمر فى مرتكبى الأحداث ، ولم يتم تعميم ! بل لقد طالب البعض ألا تعاقب الجماعة كلها ويقتصر العقاب على من اشتركوا فى هذا الحادث أو ذاك .
وأزيدك أخى القارئ ، فأقول لك أننى أمضيت أربع سنوات فى التعليم الثانوى فى مدرسة أهلية صاحبها مرب قبطى كان مشهورا فى أوائل الخمسينيات ( راغب مرجان بالفجالة بالقاهرة ) ،وأيضا لم نشعر طوال هذه الفترة الطويلة فى أى لحظة بتمييز وتعصب ، بل لقد استجاب الرجل لمطلبنا عندما خاطبناه فى ذلك ،وأمر بإنشاء " مصلى " نصلى فيها صلاة الظهر ، ويرفع فيها الآذان ،ويجئ ضمن هذا الآذان " أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله "!! ولم يحتج زملاؤنا التلاميذ الأقباط ، بل وكانت المنطقة المجاورة معقلا قبطيا ألا وهى منطقة الظاهر .
كل هذا ، فى الوقت الذى تعرض فيه المسلمون فى فلسطين إلى التشريد واغتصاب الوطن عام 1948، بمساندة مباشرة وجماعية من الدول الغربية ، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ،ومن قبل ، قامت الدول الغربية بتحطيم آخر دولة خلافة كانت تظلل الكثرة الغالبة من الدول العربية الإسلامية ، وكان عدوان 1956 بزعامة أكبر دولتين غربيتين فى هذا الوقت ، بريطانيا وفرنسا ، لأننا استرددنا منشأة قائمة على اراضينا ألا وهى قناة السويس .
ومع هذا كله ،وهناك غيره ، لم ننسب ما حدث لنا من كوارث على أيدى القوى الغربية وأذنابها، إلى إرهاب ،ولا ملأنا الدنيا عويلا وصياحا نؤكد فيه أن ما تم كان بفعل الديانة المسيحية التى ينتمى إليها هؤلاء المعتدون والمغتصبون ، بل نسبنا ما حدث إلى عوامله الحقيقية ، السياسية ،والنزعة الاستعمارية ،والاتجاه إلى الاستغلال الاقتصادى ،وتأكد يقيننا من أن المسيحية لا ذنب لها أبدا فيما ارتكبه من ينتسبون إليها ، مع إيمان أنها ديانت محبة وتسامح ،مؤكدين المبدأ العظيم ( لا يقاس الحق بالرجال وإنما يقاس الرجال بالحق ).
لقد سبق أن استُضفت على قناة الحرة الأمريكية ،فى مناظرة رباعية عبرر القمر الصناعى حول مناهج الدين فى الدول العربية ،وكان ذلك منذ عدة سنوات ،وعبرت عن رأى ما زلت عليه للآن ، ألا وهو : لماذا تطالبوننا نحن دائما بكذا وذاك من التغيير والتنقيص والحذف وإعادة التحرير فى مناهج تعليم ديننا ، ولا يتحدث أحد أبدا ولا يلتفت إلى ما يتم فى مناهج التعليم الدينى داخل الكيان الصهيونى ، المثقلة بالأوهام والأساطير ،وصور شتى من النزعات التى تقطر غلا وكراهية ،وحضا على استخدام العنف مع " الآخر " ،ويكون استمرار لاتهامنا ،فى الوقت الذى لا يتهمهم هم أحد ؟ ألا يعبر هذا عن ذروة من ذرى التعصب ؟
وكان مما قلته أيضا ، الإشارة إلى التعليم الدينى فى المعاهد والكليات الأزهرية ،ومعظم ما يتم فيها من تعليم يدور حول الدين ،عبر سنوات تعليم طويلة : هل حدث يوم من الأيام أن ظهر متهم فى أى حادث عنف ،ويكون متخرجا أو طالبا فى الأزهر ؟ لم يحدث ، لأن التعمق فى دراسة الدين الإسلامى وفهمه ، يجعل الدارس واعيا تماما بضرورة الحفاظ على حياة الآخرين ،وأن المكلف بأخذ القصاص هو ولى الأمر ،وأن المدافعة لا تكون إلا إذا وقع علينا اعتداء ، لكن ، لا ينبغى للمسلم أن يكون هو البادئ به .
وعندما أقارن بين أحداث جسام مرت به مصر ، ولم يحدث إرهاب ولا تعصب ولا فتنة ،وبين ما يحدث الآن أحيانا من حادث هنا وهناك ، لابد أن أبصر الحقيقة ألا وهى أن المتهم الحقيقى لا يقيم بين صفحات كتب التربية الدينية ،وإنما هو فى ما تشهده مصر ، منذ السبعينيات من صور خلل " بنيوى " تتفاقم عاما بعد عام ..تصور أنك تركب أوتوبيسا غاية فى الازدحام ، حالة ركابه غاية فى الفقر ، وكثير منهم يكاد لا يجد لقمة عيشه ،ويعز عليه العثور على مأوى ،ورحلة الأوتوبيس تستغرق وقتا طويلا ، ماذا سوف تجد العلاقات بين الركاب بعضهم بعضا ؟
هل تذكر العبارة العامية " كل واحد روحه فى مناخيره " ...لا يطيق أحد الآخر ، لا عن كراهية وتعصب ،وإنما ضغط الظروف القائمة الشديد ، فى الوقت الذى لا يستطيع فيه أن يتجه إلى العلة الحقيقية ، يحوله إلى باقى الركاب فيصيح فى هذا وذاك ، وقد " يشتم " ،وقد تقوم معارك ،وتكثر الاتهامات !
كانت مصر قبل ثورة يوليو تجتمع حول قضية الخلاص من الاحتلال البريطانى الذى كان لا يزال جاثما على ضفاف قناة السويس ..
وكانت مصر طوال عهد الثورة تجتمع حول قضية التنمية والنهوض ومقاومة محاولات الاستعمار للعودة فى صور أخرى إلى الديار ..
من هنا برزت " المواطنة " ممارسة وعيشا وملامسة، لا قولا وخطابة ...
والآن يكاد الفقر يفتك بعشرين مليونا من ثمانين مليون ،وأصبحنا نصادق العدو ،ونعادى الصديق ،ونقرأ ونسمع عن حفنة من سارقى ثروة الوطن ،وغياب شبه تام ل" حلم قومى " و " مشروع وطنى " ..
إن الفقر الخانق ، من شأنه أن يضعف أواصر العلاقات الاجتماعية ،ويبذر بذور قيم تدمر ولا تبنى ، تسمم ولا تغذى ..
الأسعار تقفز قفزات جنونية ، والأجور تسير بسرعة السلحفاة ،ويكفى أن أسوق لك مثالين فى غاية البساطة :
الجريدة اليومية ، كانت عام 1952 بقرش صاغ ،وكان الراتب لخريج الجامعة 15 جنيها ،أصبحت الجريدة الآن بجنيه ، أى زادت مائة ضعف ، فهل زاد راتب الخريج مائة ضعف لتصبح البداية 1500 جنيه ؟
منذ يومين ، لأول مرة منذ سنوات ، أرسلت خطابا مسجلا ، فإذا بى أعرف أن الأجر مائة وثمانون قرشا ،وكان منذ خمسين سنة ، لا يزيد عن ثلاثة قروش ، أى زاد ستين مرة ، فهل زادت الأجور بالنسبة نفسها ؟
ماذا تتوقع نتيجة لهذا ؟ عندما تتزايد الأسعار بمتوالية هندسية ،وتتزايد الأجور بمتوالية عددية؟ اتساع دائرة العوز والفقر والحرمان ،واللهث حول ما يسد الرمق ،وفى سباق مخيف على هذا الطريق ، لا تسل عن ترابط وتضامن وإخوة ..
ومن هنا لا تُجدى أحاديث عن المواطنة ، وكلمات ، ومنشورات ،وكتب ،وبرامج إذاعية وتلفزيونية ،ومقررات ..لأننا لا نعيشها !
إن وزير التربية والتعليم يصرح بأنه ،وغيره من الذين تم اختيارهم لفحص كتب التربية الدينية وجدوا فيها ما قد يسئ إلى آخرين من غير المسلمين ، وكنا نود أن يشير إلى هذا ويحدده حتى يمكن أن نناقشه .
وفى مناقشة مع بعض الباحثين حول هذا الموضوع ، قال البعض منهم ، أنها آيات تذكر اليهود بسوء ، قلت سبحان الله ، ومن يجرؤ أن يشكك فى غاية القول الإلهى ؟ صحيح أن القرآن الكريم ملئ بالآيات التى تندد بسلوكيات مشينة فعلها بنو إسرائيل وكذلك اليهود ، فهل أنزل الله هذه الآيات ليبث التعصب بيننا وينشر التباغض بين المسلمين وغيرهم ، أم لكى نحذرهم ونعى بما يدبرون من دسائس ومؤامرات ،ونحرص على ألا نفعل مثلهم ، بل ونعمل جاهدين على أن نكون الأقوى والأعز شأنا بقوة حقيقية تتجسد واقعا على الأرض بما كلفنا به من " تعمير " ؟
(2)
إن التعصب صورة مرضية للغلو فى اتجاه يشكل أحد قسمات الطبيعة الإنسانية ، هذا الاتجاه هو " الانحياز " إلى كل ما ينتمى إليه الإنسان ، وهو ما يسمى بالانتماء والولاء ، مثلما ينحاز كثير من المصريين إلى النادى الأهلى أو الزمالك ، فهذا الانتماء أو الانحياز ، إذا أدى إلى اعتداء على المخالف ،والتغاضى عن العيوب الذاتية ،وادعاء محاسن وأفضال وفضائل غير حقيقية ، قلنا بتحوله إلى تعصب .
وكم نشهد فى حياتنا العامة ، حتى بين العلماء والمفكرين والمثقفين ، انحيازا إلى هذا المذهب أو ذاك ،إلى هذه الفلسفة أو تلك ، بل وبين عموم الناس ، انحيازا وتعصبا إلى هذه المحافظة أو تلك ، هذه العائلة أو تلك ، بل وبين الأكاديميين ، من حيث التعصب إلى تخصص بعينه دون غيره .
فما الذى يحول الانتماء والانحياز إلى تعصب مرضى ؟
عندما يشتد القهر بالناس ويفعل الاستبداد فعله من حيث الرغبة الجامحة فى الانتقام ،واستزراع مشاعر الحقد والغل ...
وعندما يكثر الجهل ويشيع التسطيح ، كما لمسنا من مشاهد مخزية ، ما زلنا ندفع ثمنها حتى الآن مما حدث أيام المبارتين الكرويتين بيننا وبين الجزائر ، حيث علا صوت التعصب فى مجال ، من سماته الأساسية أنه يربى ( كما هو المفروض ) التعاون والتسامح ،والقبول بالهزيمة ، حتى أننا أحيانا ما نمدح شخصا بوصفه بأنه ذا روح رياضية !!
إن وزير التربية ظهر فى مؤتمره الصحفى يعلن اتجاه المراجعة ، ومعه الدكتور على جمعة ، مفتى مصر ، ولقد كنت قد سعدت ، فترة غير قصيرة بأن أكون صديقا لفضيلة المفتى من قبل عدة سنوات ، وكنا نشهد اجتماعات متعددة ، بعضها شخصى ، وبعضها أملته متطلبات فكرية وعلمية ،ولمست سعة علمه وحرصه على الدين ،وسمو أخلاقه ،ويقظة ضميره الدينى ،وكم أتمنى ألا يتم استدراجه إلى هذا الفخ الشيطانى ، حيث أن المبرر المنطقى والعلمى أن من الضرورى مراجعة مناهج التعليم ممن حين لآخر حتى تتسق مع متغيرات العلم والمجتمع والعالم والعصر ، لكن ، كم من المبادئ السامية المعلنة ، تكون ستارا لعمليات ذبح وتخريب ..
لقد شكا الإخوة الأقباط من تخلل آيات قرآنية كتب اللغة العربية ،واستجابت الوزارة بالفعل فحذفت الكثرة الغالبة ، حتى لم يتبق إلا ما يشبه الرموز ،ونحن لابد أن نحترم موقف الإخوة الأعزاء ، فهم شركاء الوطن ، لكننا نُذَكر بأن ما يستشهد به من قرآن يجئ باعتباره نصا لغويا ، لا نصا دينيا ، على أساس أن القرآن هو " ميزان " اللغة العربية ،ونُذَكّر بما فعله من قبل الزعيم القبطى الكبير مكرم عبيد ، عندما حفظ القرآن الكريم ليستقيم لسانه وتصح لغته ، ويستفيد من بلاغته ، وهو الذى كان يعمل بالمحاماة ، التى هى بحاجة ماسة إلى المهارات اللغوية والخطابية والمنطقية المختلفة ،وقال الرجل تلك القولة الصادقة العميقة أنه مسلم ثقافة ومسيحى ديانة .
وهنا يمكن لمن يضعون المنهج أن يستشهدوا بالآيات المتضمنة لقيم أخلاقية ومعاملات إنسانية وأسس تربوية ونفسية . إن الكاتب إذا استشهد بنص لفيلسوف أو مفكر فى مجال القراءة والمطالعة لن يثور أحد ، بل نسلم بأن هذا أمر ضرورى وسليم ،فلماذا لا يتقبل الإخوة الأعزاء تطبيق هذا المنطق هنا أيضا بالنسبة للنصوص القرآنية الخاصة بالأخلاق ؟
وإذا كان أولو الأمر فى وزارة التربية قد حذفوا الآيات التى تحث على الجهاد فى خطوة سابقة ( مع أنه مقرون بأن يكون فى سبيل الله ) ،وآيات خاصة باليهود من المنهج المقرر فى المدرسة ، فماذا يفعلون لملايين يقرءون القرآن فى المنازل والمساجد ،وفيها هذا المحذوف ، وأكثر منه ؟
سوف يجدون الله سبحانه وتعالى يقول عن اليهود :
- (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)) ، فى سورة المائدة .
- وفى السورة نفسها يقول سبحانه (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ... (82)) . وعن بنى إسرائيل ، فى سورة لامائدة أيضا قال :
- (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
إنه حكم الله عز وجل الذى خلقنا وخلق بنى إسرائيل ، وخلق كل شئ ، فهل خبراء التعليم الذين أوصوا بالحذف أكثر دراية من مولهم بما هو أصلح ؟
هل يلغون قراءة القرآن ، أو يصدروا طبعات منه خالية من هذا الذين يرجفون به ؟!
اللهم لا حول ولا قوة إلا بك !!
لقد سبق أن قرأت ،كما تصادف أن شاهدت يوم أمس (30 أبريل 2010 ) على إحدى القنوات الفضائية متحدثا يؤكد ضرورة أن تركز التربية الدينية على القيم الأخلاقية ، حيث أنها مساحة مشتركة بين الأديان السماوية الثلاثة ، مستشهدا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ، بما يعنى أنه يقر ما جاء به كل موسى وعيسى عليهما السلام ، واقترح ألا تسمى بالتربية الدينية .
ونحن نقر بهذا الذى قال به المتحدث ، وما يسعى إليه المسئولون ،ولكنهم يسيرون فى اتجاهه وفقا لمنطق الخطوة خطوة ، لكننا لا ننتهى إلى النتيجة نفسها ، فبالفعل هناك الكثرة الغالبة من القيم الأخلاقية ، إن لم تكن كلها ، هى مما تشترك فيه كل الأديان ، لكن هذا شئ و" المعرفة الدينية " شئ آخر ..إن فى الدين عقائد ، لابد من تعليمها للأجيال الجديدة ،وفى الدين عبادات ، لابد من تعليمها كذلك للأبناء .
ألا أن مما أصبح واضحا لكل ذى عينين أن اتجاه التدين يتزايد بسرعة ، وبشدة ، على مستوى العالم كله ، وبالنسبة لكل الأديان ، بعد طول معاناة للإنسان ، حيث اقتنعت الكثرة الغالبة ، أن هذا الإنسان ، مهما تقدم ونهض وبلغ ، فسوف يقر فى النهاية بفضل الله وعظمته وأنه هو الملجأ وفى رحابه يجد الإنسان اليقين والراحة والطمأنينة .
وإذا كان الأمر كذلك ، تشتد الحاجة إلى تعليم الدين ، حتى لا يقع الأبناء فريسة جهال أو متعصبين يستمدون منهم ما يشعرون بحاجة إلى معرفته .
يقول البعض أن هذا يكون من مهام الأسرة ودور العبادة ،ونقول لهؤلاء ، كيف يتم هذا فى مجتمع به ما لا يقل عن 18 مليون أمى ؟
ومتى يمكن أن يتم هذا وكل من الأب والأم يلهثان فى سبيل تحصيل لقمة العيش التى أصبحت عزيزة ، أم نكل الأمر إلى الدروس الخصوصية ؟!!
أما المساجد ، فهى مغلقة فى وجه المسلمين فى مصر إلا فى أوقات الصلاة ،ولأداء الفروض الخمسة فقط ،وبعدها لابد من مغادرة روادها المكان فورا ،وفقا لتعليمات أمن الدولة التى تبنتها وزارة الأوقاف " وفلسفتها " ، كما هى العادة !
وإذا كانت التربية الأخلاقية مما نقر بأهميتها ، إلا أنها ليست " تربية معرفية " تتم من خلال مقرر وكتاب ودروس ومدرسين ..إنها ممارسات وقدوة ومناخ ، إذا لم يشع كل من هذا بالقيم الأخلاقية ، فلا أمل من أى مقرر ، حتى لو امتد بمراحل التعليم كلها .
لقد سبق لجريدة الأسبوع أن نشرت ، فى أوائل العقد الحالى ترجمة تقرير أمريكى شهير ، حافل بالاتهامات الكاذبة ، مقترحا اتجاهات لتعديل مناهجنا فى التربية الدينية والتاريخ ،وكتبنا عن هذا تفصيلا فى حينه ،ولن نكرر ما سبق لنا أن كتبناه ، حيث سوف يسخر منا المسئولون ويكذبوننا ويؤكدون أنهم فيما يفعلون ، يستلهمون الضمير الوطنى ولا يستجيبون لإملاءات خارجية ، وهو رد طبيعى ومتوقع ،فليس من المنتظر ، ولا من المتخيل أن يعترف مسئول بأنه ينفذ أجندة خارجية .
لكننا فى الوقت نفسه ، نلفت النظر إلا أمور وجوانب أخرى ، يمكن التمثيل لها بما نراه غالبا فى تصرفات الأعوان والسكرتارية المحيطة بهذا المسئول الكبير أو ذاك، فى هذا الموقع أو ذاك ..إنهم يتشربون اتجاهات المسئول ومصالحه ، التى ترتبط بها مصالحهم ، فإذا بهم لا ينتظرون تعليماته ، بل ينفذون ما يرون ، من طول خبرة ، ما يسره ويعزز موقعه ، ومن هنا شاع القول الشهير "ملكيون أكثر من الملك ".
ولن أنسى فى هذا المقام ، ما قاله لى صديق كبير شهير ،( لم يصرح لى أن أنقل ما قاله لى ) أثق بصدقه ، من أن وزيرا للتربية صديق له ، فى إحدى الدول العربية ، كثيرا ما طلب منه أن يزورهم ليعينه فى تنفيذ بعض الطلبات والتوجيهات الخاصة بالتعليم الدينى ، بصورة توفق بين ما هو مأمور به ، وبين ضميره الوطنى والدينى ..هذه الواقعة لا أنساها أبدا ،وتم للمسئول المسكين ما طلب ، أكثر من مرة ،ولسان حاله يقول " اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ،ولكن نسألك اللطف فيه "!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.