«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قضية الوطنية بين العلمانية والإسلام
نشر في الشعب يوم 07 - 04 - 2007


بقلم: أ د يحيى هاشم حسن فرغل
yehia_hashem@ hotmail .com
[email protected]

رجعت قضية الوطنية إلى الساحة الفكرية والسياسية في مصر بإلحاح ، وبخاصة في التعديلات الدستورية الراهنة ، ومن قبل : بعد ما أصيبت قضية القومية العربية بضربة قاصمة بسقوط حزب البعث العراقي - بعد سقوط العراق نفسه - بين براثن الذئب الأمريكي ، وهي ضربة موجعة تأتي إضافة إلى ما سبقها بوفاة زعيمها الرئيس جمال عبد الناصر ، ولكنها كما هو الشأن في عالم الأفكار والمبادئ ربما تكون سببا في إنعاشها على مستوى التداول النظري ، والترتيب الحزبي ، في عالم يزعم التوجه نحو حرية الفكر والتعددية

ومن المؤسف أن يتحول مشروع القومية : عربية أو وطنية مصرية – في يد العلمانية التي دخلت الجحر بعد النكسة ثم عادت تطل برأسها مع الهيمنة الأمريكية - إلى سهام مسمومة تحاول بها ضرب الفكر الإسلامي والشرعية الإسلامية و التاريخ الإسلامي في مقتل عندما تشيع مقولة نابعة من الجهل والتزييف بأن مصر – على سبيل المثال – لم تحكم نفسها منذ سقوط الحضارة الفرعونية لأكثر من ثلاثين قرنا إلى أن جاء جمال عبد الناصر في عام 1952 م الذي حاول أن يعيد المفهوم القومي للحكم : سواء في فترته الأولى مصريا أو في فترته الثانية عربيا ثم عودته مصريا بعد النكسة وتطورات أخرى معروفة ، إذ يحاكم هؤلاء جميعا تاريخ مصر بمقياس أوربي علماني مستورد ظهر في القرن التاسع عشر والعشرين حيث نشأت فكرة القومية كأسلوب للحكم لأول مرة .إلى أن وصل الأمر حاليا إلى دستور جديد يدعو صراحة إلى وطنية مصرية نقية ، تتنكر عند بعضهم للعقيدة الإسلامية ، وتتنكر عند بعضهم لمحيطها العربي ، وتدعو عند بعضهم إلى لغة مصرية يترجم إليها القرآن ! ، وصاحب ذلك نشاط وثني واسع أخرج الطواغيت الملعونة في القرآن من المتاحف وزرعها على النواصي والطرقات ونحت رموزها على مداخل المدن الهامة والجدران .
**********
إن الأمر الذي غيبه هؤلاء عن الرأي العام أن القومية – أيا كان حجمها - إنما نشأت إبان القرن الثامن عشر في أوربا ، وانتشرت خلال القرن التاسع عشر ، وأصبحت في القرن العشرين واقعا عالميا ، ولا زال شأنها يزداد في آسيا وأفريقيا والبلاد التي لم تحصل على استقلالها بعد عاما بعد عام .
يقول هانس كهن في كتابه " القومية معناها وتاريخها " ترجمة أمين محمود الشريف ، نشر مكتبة نهضة مصر: ( إن الشعور القومي بمفهومه الحديث–- لم يصبح حقيقة مقررة قبل نهاية القرن الثامن عشر ، إذ أخذ هذا الشعور يؤثر بصورة مطردة في كافة نواحي الحياة العامة والخاصة ، ولم تطالب كل أمة بأن تكون لها دولتها الخاصة التي تنتظم كافة أفرادها إلا منذ عهد قريب جدا ، وكان الإنسان فيما مضى لا يدين بالولاء للدولة القومية ، وإنما يدين به للهيئات الأخرى المختلفة ذات السلطان الاجتماعي والتنظيم السياسي والاتحاد المذهبي كالقبيلة أو العشيرة ، ودولة المدينة أو السيد الإقطاعي ، والدولة الملكية الوراثية أو الكنيسة أو الطائفية الدينية ، ولم يكن المثل الأعلى في كثير من القرون هو الدولة القومية بل قيام امبراطورية عالمية - ولو من الناحية النظرية على الأقل - تنتظم قوميات مختلفة وأجناسا مختلفة على أساس حضارة مشتركة ) ص ز – 2 .
ومما يؤكد حداثة عهد القومية ما يقوله كهن : من أننا وإن كنا نجد أفرادا يجاهرون بمشاعر تمت بصلة إلى القومية حتى قبل أن يبزغ عصر القومية لكن هذه المشاعر لا تتعدى الأفراد ، إذ أن الجماهير لم تشعر قط بأن حياتها من الناحية الثقافية والسياسية والاقتصادية ترتبط بمصير الهيئة القومية ، قد يثير الخطر الخارجي شعورا عابرا بالاتحاد القومي كما حدث في بلاد اليونان خلال الحروب الفارسية وفي فرنسا خلال حرب المائة عام ، ولكن الحروب التي نشبت قبل الثورة الفرنسية لم تكن لتثير في العادة شعورا قوميا عميقا ، فقد حارب الإغريق ضد الإغريق في الحروب اليونانية البلونيزية ، كما حارب الألمان ضد الألمان ، والإيطاليون ضد الإيطاليين ، في الحروب الدينية والملكية التي نشبت في أوائل العصور الحديثة دون أن يدركوا إطلاقا ما ينطوي عليه كنه هذا العمل من " قتل الأخ لأخيه " ، وحتى في القرن الثامن عشر كان العسكريون والمدنيون في أوربا يلتحقون بخدمة الحكام " الأجانب " ويخدمونهم في أغلب الأحيان بولاء وإخلاص يدلان على انعدام أي شعور قومي في نفوسهم ، ولم تكن القومية مصدرا للحياة الثقافية إلا منذ عهد قريب جدا ، فالتربية والتعليم وتكوين العقل والخلق لم تكن في معظم عصور التاريخ محدودة بالحدود القومية ، بل كان الدين في كثير من العصور مصدر الحياة الثقافية والروحية جميعا ، كما كان التعليم يقوم في كافة ربوع أوربا خلال عصر النهضة وبعدها على التقاليد المشتركة للحضارة اليونانية الرومانية ، وكانت المثل العليا للفروسية في أوربا الوسطى وتقاليد البلاط الفرنسي في القرنين السابع والثامن عشر تتجاوز الحدود القومية ولم يصبح الشعب مرادفا للأمة ، والحضارة مرادفة للحضارة القومية ، وحياة الشعوب وبقاؤها رهنا بحياة القومية وبقائها إلا في أوربا وأمريكا إبان القرن التاسع عشر ، وفي آسيا وإفريقية إبان القرن العشرين ، ومنذ ذلك الوقت أصبحت القومية تسيطر على نوازع الجماهير واتجاهاتها ، كما أصبحت في الوقت نفسه مبررا لسلطة الدولة ، ومسوغا لاستعمال القوة ضد مواطنيها وضد غيرها من الدول ) ص 3 - 4

( وعلى الرغم من حداثة عهد القومية فقد ظهرت بعض خصائصها من نفس المعين الذي ظهرت منه الحضارة الغربية : من العبرانيين الذين كانوا يشعرون باختلافهم عن الأمميين وأنهم شعب الله المختار ، وانتظارهم المنقذ القومي الموعود ، واحتفاظهم بتراث مشترك من ذكريات الماضي وآمال المستقبل . ومن الإغريق القدامى الذين كانوا يشعرون باختلافهم عن البرابرة كما يشعرون بالتفوق الثقافي والروحي على جميع الشعوب الأخرى ) ، ص 4 – 6
وبالرغم مما ذهب إليه كهن من أن القوميات تخضع لعوامل تاريخية متغيرة على جانب كبير من التعقيد ، وكثير منها يشتمل على عناصر " خارجية " تميزها عن غيرها من القوميات كوحدة اللغة أو الإقليم أو الوحدة السياسية أو العادات أو التقاليد أو الدين ، فإن ألزم العناصر في تكوينها هو وجود إرادة حية جماعية فعالة تسري في السواد الأعظم من الشعب بل في كل فرد من أفراده ص 2

ومن المهم في هذا السياق أن ندرك أن القوميات الأوربية في عصر نهضتها في أواخر القرن التاسع عشر سايرت ارتفاع شأن العلوم البيولوجية فكان لها – كما يقول هانس كهن ( تأثير قوي في القومية ، وذلك بالإضافة إلى مبدأ تنازع البقاء الذي نادى به داروين ، ثم عادت القبلية الطبيعية القديمة فظهرت في صور وأشكال حديثة ، وهذه النزعة القبلية ترسي قواعد القومية كما ترسي ولاء الفرد : روحيا وسياسيا على أساس النسب والدم الذي يتغلغل في أعماق الطبيعة البشرية ويحدد خصائص هذه الطبيعة كما يزعمون ، وكان أرثر دي جوبينو ( 1816 – 1855 ) أول من وضع أصول القومية الأحيائية ( البيولوجية ) في بحث له بعنوان ( مقال في التفاوت بين الأجناس البشرية ) قال فيه " إن الدم ذو أهمية عظمى ، وإن الناس يتفاوتون في العبقرية ، وإن الحضارة لا يمكن أن تنقل من شعب إلى شعب ، ولذلك فالأجناس المتأخرة لا يمكن أن تسمو إلى مستوى أرفع " ، وقال جوبينو " إن الشعب التيوتوني أو الألماني هو الشعب المختار ، إذ العبقرية العنصرية مرهونة بنقاء الدم ، كما قال : إن المصاهرة مضرة بالحضارة ، " وذهب إلى حد تشجيع مذهب عبادة الأسلاف ، باعتباره وسيلة للمحافظة على بقاء الأجناس الراقية ، وتمكينها من الاضطلاع برسالتها في زعامة العالم ) ص 110-111
وقد أشار آخرون أيضا إلى عنصرية الدم كأساس لقيام القوميات في أوربا منهم الدكتور هرمان راندال في كتابه " تكوين العقل الحديث " ص - من 176 : يقول هرمان راندال ( لقد تغذت الدعوة إلى القومية بالداروينية الاجتماعية إذ ذهب أصحابها إلى أن صراع البقاء يجري بين العنصريات العرقية والقومية ، أكثر مما يجري بين الأفراد ، وتصبح الحرب هي صيغة الصراع من أجل البقاء ، وتصبح هي العامل الأساسي في التطور الاجتماعي )

على أساس هذا المفهوم الاستعلائي قامت عمليات التوحيد التي قامت على القومية في الغرب ، في ألمانيا وإيطاليا وإنجلترا وأمريكا ، وهذه القوميات بهذا المفهوم هي التي سوغت للرئيس الأمريكي وليم ما كنيلي – على سبيل المثال – أن يقول في خطاب له ببوسطن عام 1899 بصراحة : ( لقد آلت إلينا الفيليبين مثل كوبا وبورتوريكو ، وأصبحت في حوزتنا ، ونحن ملتزمون بهم باسم التقدم ) وجعلت سياسيا أمريكيا آخر يقول : : ( إن وظيفة الجنس الإنجلو سكسوني هي أن يمنح الحضارة لشعوب العالم غير المتحضرة : إنني أنكر على أي شعب بربري أن يظل في حوزته أي جزء من المعمورة )
وهي التي سوغت للقومية الأمريكية في عهدها الراهن أن تصدر قيمها ومثلها العليا وأسلوب حياتها للعالم باسم الديموقراطية والعولمة والتقدم وحقوق الإنسان .
وهاهو السحر ينقلب على الساحر - كما جاء بالأهرام 2511990 تحت عنوان ( بعث القوميات يتحدى أمريكا ) حيث يؤكد الكاتب الصحفي الأمريكي ويليام باف في كتابه الجديد " صحوة العالم القديم نحو نظام عالمي جديد " : أن الامبراطورية الأمريكية مثلها مثل الاتحاد السوفيتي مهددة في الوقت الحالي بالانهيار السريع حيث إنها لم تكن سوى ثمرة تسرع ومحاولة اقدم عليها الأمريكان نتيجة إحساس متزايد بعظمة حضارتهم وقوميتهم ..
فالهزات العنيفة التي تعرضت لها الولايات المتحدة بداية بحرب فيتنام ثم الثورة الإسلامية ... وتدهور العلاقات مع دول أمريكا اللاتينية دليل قاطع على تزايد الشعور القومي في تلك البلاد . وظهور نظريات ومعتقدات جديدة تتواءم مع العقائد والثقافات التي تتميز بها كل أمة على حدة مما يتناقض في الوقت نفسه مع الرؤية الأمريكية التي تقوم على أساس اتباع المثال الأمريكي .. )

ولقد تسرب هذا المفهوم عن القومية في صورتها الشعوبية المتأخرة إلى العالم الإسلامي أول ما تسرب إلى الخلافة العثمانية فهدمها وأجهز عليها - ضمن عوامل أخرى بالطبع – على يد القومية التركية ، وترجمت هذه القومية عن موقفها من الدين في كل ما صدر عن قيادتها من آراء واتجاهات وقرارات علمانية ، حيث تنكرت للغة العربية وحروفها ، ثم تنكرت للتاريخ الإسلامي الذي أسهمت في تكوينه لعدة قرون ، وتنكرت لروابط الأخوة في الإسلام ، وحيث اعتبرت الشريعة الإسلامية من المحظورات التي يعاقب عليها القانون .
وتسلل هذا المفهوم إلى بلاد إسلامية عريقة فأوقف مد اللغة العربية في إيران وباكستان وآسيا الوسطى ، كما أوقفها في بعض أجزاء من الجزائر والعراق أي في عقر الديار العربية

*********
و انتقلت الدعوة القومية في هذا الإطار إلى العالم العربي واعتقد الكثيرون أنها دعوات توحيد وتحرير ، ودعوات تقريب : تضم الطوائف المسلمة وغير المسلمة ، ولكنها انقلبت بعد ذلك لتصبح فلسفة حرب وتخريب بين القوميات المحلية المختلفة في العالم العربي في دوائر المسلمين أنفسهم ، والنموذج العراقي - ظاهر للعيان اليوم .
ومن الحقائق ذات المغزى في فهم قيام هذه القوميات أنها وجدت نفسها في نهاية الأمر في وضع التبعية الكاملة للاستعمار ، لأنها لم تكن في بعض ظروفها وأحوالها – سواء كانت قومية عربية أو قومية مصرية أو كردية أو امازيغية -- دعوة إلى وحدة بقدر ما كانت دعوة إلى تمزيق ...

ومن المؤسف أيضا أن الموضوع أخذ يتحول في يد الشوفينية المصروية إلى قومية مقزمة ، دون أن يهتدوا إلى شيء في مفهوم هذه المصروية :
ما حدودها ؟ أعندهم حدود لها غير ما وضعه الاستعمار في سايكس بيكو ؟! أم سيبدءون حروبا من أجل فرض رؤيتهم ؟
في لغتها ؟ أعندهم غير لغة العروبة لغة حية ؟!
في عرقيتها ؟ أعندهم غير عجين العروق الذي تكفلت به السنون فيما اختلط على أرضهم من هجرات ؟ ومن أحدثها وأقواها هجرة القبائل العربية في المنطقة طولا وعرضا ؟
في أحلافها أعندهم غير أمان إسرائيلية متربصة ؟
في شعارها ؟ أعندهم غير الانتكاس إلى الفرعونية وما هي إلا لقب الحكام ، الذي صار علما على الطغاة ؟ الذين قال فيهم كتاب الله : { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ، فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّالِمِينَ
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ، وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِينَ) 39-42القصص
في دينها ؟ أعندهم غير دين الإسلام الذي نقلته العرب إلى أرضهم ، إن كان ذاك فليقولوها ؟! ماذا عندهم – في عصر التكتلات الكبرى – بديلا من تكتل عربي ممكن : يضم الأركان الاستراتيجية لدولة عظمى في الماء والزراعة والنفط و السكان والمواقع العسكرية والتنمية الاقتصادية ؟
ماذا بقي لهم غير محاولة فاشلة لإعادة " إنتاج حزب البعث العربي " ولكن على الطريقة المصروية ؟ وهم يعلمون كما نعلم أن حزب البعث لم يكن يتنكر للتراث الإسلامي – مثلهم تماما – ولكنه كان في أحسن أحواله ينظر إلى الإسلام لا باعتباره وحيا حقيقيا ولكن باعتباره نتاجا علمانيا من أطوار العروبة ، ومفخرة من مفاخر العبقرية العربية ؟ ؟ فهل يجدون لأنفسهم غطاء مثل هذا يرون فيه الإسلام طورا من أطوار المصروية ؟ ومفرزة من مفرزات الفرعونية ، باعتبار أن أخناتون أول من دعا – كذبا - للتوحيد ؟ ومن ثم فهم واقعون حتما بمقومات دعوتهم في تناقض مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي ترى الإسلام وحيا سماويا فوق كل النعرات القومية والشعبوية والعنصرية والطائفية والفولكلورية ؟
أم تراهم سعداء اليوم بإزاحة معوق رئيسي لدعوتهم بما تحقق لهم وللتيارات العلمامية قاطبة من تجريم المرجعية الدينية رغم أنف المادة الثانية من الدستور ، و المادة الرابعة من القانون المصري للأحزاب السياسية – وهي ترتكز على الدستورالمهيض - التي تنص على الآتي [ يشترط لتأسيس أو استمرار أى حزب سياسي ما يلي :
أولا : عدم تعارض مقومات الحزب أو مبادئه أو أهدافه أو برامجه أو سياساته أو أساليبه فى ممارسة نشاطه مع : 1- مبادئ الشريعة الاسلامية باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع ... ]

ماذا بقي لهم في مشروعهم من حدود أو لغة أو عرق أو حلف أو شعار أودين؟ اللهم إلا مؤامرة بائسة – مريضة بفقر الدم - على سلامة مصر أرضا وأمنا و سكانا ودنيا ودينا ؟ ؟ ؟

أم هل نحن بحاجة إلى إعادة إنتاج فترة جديدة في الصراع مع مثل هذه التوجهات الشوفينية : سواء عربية أو مصروية تنتقل هذه المرة من ساحة الشام والعراق إلى ساحة مصر بعد أن نجحت مصر في تجنبها في الفترة البعثية السابقة ؟

أيهربون من امتداد مصر الجيولوجي في جزيرة العرب قبل انشقاق البحر الأحمر واقرءوا سورة الفجر لتروا كيف جمع القرآن الكريم بين العرب البائدة ومصر ( عاد وثمود ... ومصر ) :{ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التى لم يخلق مثلها فى البلاد ، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، وفرعون ذى الأوتاد الذين طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد . }.
أيهربون من حقيقة التمازج ما بين مصر وجيرانها منذ ما قبل التاريخ من خلال الأصلين الحامي والسامي عن طريق هجرات سامية يشك في مصدرها الشرقي : أهو من الشمال من شبه جزيرة سيناء أو من الجنوب عن طريق البحر الأحمر ، والصحراء الشرقية ، وكذلك الأمر في أصل اللغة المصرية : في كونها أفريقية سامية معا ؟ أنظر كتاب مصر لإيتين دريو تون وجاك فاندييه ترجمة عباس بيومي ومراجعة الدكتور محمد شفيق غربال وعبد الحميد الدواخلي نشر مكتبة النهضة المصرية ص 4-5- 20-21
أيهربون من امتداد مصر في التاريخ الإسلامي الذي حفظ لها اسمها ذلك الذي اغتصبه آخرون فجعلوه " إيجبت " ؟ أتعرفون كيف اغتصب اسم " مصر " فصار إيجبت بينما اسم مصر هو هو منذ وجود الهيروغليفية والعبرية والفينيقية والآرامية والأشورية ، ولم تحفظها من الاندثار غير العربية والقرآن ؟
أيهربون من تحرير الإسلام لمصر التي دخلها منقذا من اكتساح الشمال لها بيد الغزو الاسكندرى (اليونان البطالمة ) ثم بيد الرومان الذين نشروا الاضطهاد في ربوع البلاد حتى وصل الذروة فى عصر الامبراطور دقلديانوس (284 م ) الذي أوقع الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمذابح بالمسيحيين الأرثوذكس بإلقائهم في النار أحياء، أو كشط جلدهم بآلات خاصة، أو إغراقهم في زيت مغلي، أو إغراقهم في البحر أحياء، أو صلبهم ورؤوسهم منكسة إلى أسفل، ويتركون أحياء على الصليب حتى يهلكوا جوعا، ثم تترك جثثهم لتأكلها الغربان، أو كانوا يوثقون في فروع الأشجار، ويتم تقريب فروع الأشجار بآلات خاصة ثم تترك لتعود لوضعها الطبيعي فتتمزق الأعضاء الجسدية للمسيحيين إربا إربا.
ويقول الباحث المسيحي الأستاذ الدكتور نبيل لوقا بباوي : إن أعداد المسيحيين الذين قتلوا بالتعذيب في عهد الإمبراطور دقلديانوس يقدر بأكثر من مليون مسيحي إضافة إلى المغالاة في الضرائب التي كانت تفرض على كل شيء حتى على دفن الموتى، لذلك قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر اعتبار ذلك العهد عصر الشهداء في مصر، وأرخوا به التقويم القبطي تذكيرا بالتطرف المسيحي." الشبكة الإسلامية 1272003 "
ثم استمر الاضطهاد بعد ذلك أربعة قرون تقريباً كانت حصيلتها نشأة الرهبانية وفرارها إلى جبل المقطم وغيره من الصحارى وإنشاء الأديرة ؟
حتى تخلصت مصر من اضطهادهم بعد إذ جاء الإسلام فأرجع إلى مصر كرامتها واسمها وأمنها وسلامها وحرمتها وحريتها ؟
أم هم يرون الإسلام في غير كيانه المعنوي الذي يصبح ملكا لكل من يؤمن به : فردا أو جماعة أو عرقا ؟
أيهربون من الجيولوجيا أم من التاريخ أم من التحرير ؟
ايهربون من ذلك كله ؟
حسنا لكن إلى ماذا ؟ أإلى خيال مآتا ؟
إلى حلم القومية الوطنية المصروية الشوفينية ؟
&&&&&
وإنه لمن أهم المواجع التي أرقت ليل الفكرة القومية ونهارها اشتعال الصراع بين أطرافها في سوريا والعراق ومصر ، ولكن الأهم من ذلك : شيوع البلبلة والغموض والحدة في علاقتها بالإسلام والمرجعية الإسلامية و الفكر الإسلامي .
هناك حقائق مبدئية يجب التعريف بها حول علاقة مبدأ القومية أو الوطنية بالإسلام :
الحقيقة الأولى : أنه إذا أريد بالقومية " الانتساب إلى قوم " فلا شبهة في إقرار الإسلام لذلك ، والخطر كل الخطر في الياء والتاء تلك الملتوية القبيحة التي تلحق بالكلمة فتحولها من معناها الجزئي إلى مذهب أو مبدأ أو نحلة أو دين ، كما حدث في أشباهها من الاشتراك إلى الاشتراكية ، وصهيون إلى صهيونية ، ورأسمال إلى رأسمالية ، ووسط إلى وسطية وهكذا من مزالق هذه الياء والتاء .
إن انتساب المرء لقوم من الأقوام لا يعني التمذهب حول القوم ، وهو حقيقة واقعية لا يتصور أن تنكر ، ومن الواضح في الشريعة الإسلامية حرصها الشديد على الأنساب ، وصحة الأنساب ، ولم يكلف الإسلام الداخلين فيه التنكر لأنسابهم ، مهما يكن من أقوامهم من نكران ، بل استمر كل محتفظا بنسبه إلى أهله ، ونسبه إلى قبيلته ، ونسبه إلى قومه .
الحقيقة الثانية : إذا أريد بالقومية " محبة القوم " الذين ينتسب المرء إليهم فتلك فطرة غالبة ، لا يحاربها الإسلام ولا يتنكر لها ، وإن كان يعمل على تهذيبها والسمو بها ، ويجعل لمحبة القوم هدفا : أن تعمل على هدايتهم ، وإنقاذهم ، وتخليصهم من عواقب الكفر والعصيان ، وأن تعمل على نصرتهم مظلومين : برفع الظلم عنهم ، كما تعمل على نصرتهم ظالمين بردهم عن الظلم .
الحقيقة الثالثة : أن الإسلام إذ يعترف بالقوم انتسابا ومحبة ويضع ذلك ضمن قيمه المقررة ، فإنه يدرج هذه القيمة في التسلسل القيمي الخاص به ، وفي هذا التسلسل تكون القيمة الأعلى حاكمة على القيمة التي هي أدنى ، ولاشك أنه في البناء القيمي للإسلام تأتي قيمة التسليم لله وطاعة رسوله فوق القيم جميعا ، بمعنى أنه إذا وجد الإنسان نفسه في موقف تتعارض فيه قيمتان من القيم التي أجازها الإسلام لم يلتبس عليه الأمر في شيء وحكم القيمة الأعلى .

إن المشكلة طرقت أبواب العالم الإسلامي عندما أخذ سلم القيم الإسلامي يهتز أو يتداعى في عقائد المسلمين وقلوبهم وسلوكهم ، فظهرت العصبية في التاريخ الإسلامي للعروبة تارة ، وللفارسية تارة ، وللتركية تارة ثالثة ، ولكنها تفاقمت في العصر الحديث عند ما تسربت إليه الدعوة القومية بصورتها الساذجة التي نشأت في الغرب حيث تعلى قيمة القوم والقومية على غيرها من القيم ، ولا ترى للأخوة في الدين أن تكون القيمة الحاكمة ، وأنكرت أن تقوم الدولة على غير الانتساب إلى القوم ، وما ينبع من هذا الانتساب من تغليب كل ما يصدر عن القوم من رأي أو خلق أو مصلحة أو عادات أو ثقافة بشكل عام . ، وهي بغير شك لا تتقيد بشيء من الحقائق الثابتة التي ذكرناها .

والأمر الذي لاشك فيه – من وجهة النظر الإسلامية - أنه عندما تكون الدولة الإسلامية جامعة للمسلمين في أكثر بقاع الأرض تضم في أنحائها قوميات مختلفة فإن الدعوة إلى القومية بمفهومها الحديث تكون دعوة مرفوضة إلى " التمزيق " .
أما أن تأتي الدعوة إلى القومية او الوطنية في سياق التجميع لأقاليم ممزقة - كما هو الحال اليوم في كثير من المواقع - تسعى مثاليا إلى وحدة أكبر هي وحدة الأمة الإسلامية ، وتمر بوحدات أقل هي وحدة القوميات فإنها عندئذ لا اعتراض عليها طالما تخلصت من مفهومها الأوربي العلماني ، وهذا يعني أن تتوفر لها شروط ثلاثة :
أن تكون مفتوحة لانضمام قوميات أخرى في محيط العالم الإسلامي .
أن تكون محكومة بالأخوة الإسلامية لا حاكمة عليها .
أن تكون محكومة بالقيم الإسلامية عموما وفي أعلاها قيمة الخضوع لله ورسوله ، وهي قيمة ضامنة لحقوق ما يسمى الأقليات .
وأن تستهدف في النهاية نوعا ما من الوحدة الإسلامية ، هذه الوحدة التي لا تنتظم تحت القهر كما هو الشأن في تاريخ القوميات العلمانية ، ولكنها تبدأ من نفس الفرد ، وتسلك آلية الاعتصام بحبل الله ، وهو حبل ينكر ميكيافيليات الخيانة والغدر ، والظلم والقسوة ، كما ينكر الجشع والطمع وسفك دماء الأبرياء . انطلاقا من قوله تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) 103 آل عمران .

وفي تقديري أنه لقد آن الأوان لمراجعة القضية على ضوء الإسلام - الذي نجح تاريخيا في توحيد المنطقة على يد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، وضرب ضربته القاصمة لمفهوم القومية – خارج الشروط التي ذكرناها - أثناء عمله في بناء الدولة الإسلامية : في بيعة العقبة الأولى ، ثم في بيعة العقبة الثانية ، ثم في مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار ، ثم في تشييده الدولة حجرا بعد حجر وعاما بعد عام هو والخلفاء الراشدون من بعده . والذي ركل بقدمه مفهوم العروبة المتناحرة قبليا لعدة قرون ، والتي كانت تعقد ولاءها للأقوى وفقا لظروف السطوة والماء والكلأ ، والتي كانت – وما تزال - تتسامح مع الغريب مالا تتسامح فيه مع القريب ، والمستجير بعضهم ضد بعض بالغازي القوي من الفرس تارة والروم تارة أخرى ، وما تزال تمارس هويتها – يا للعار - في هذا الطريق مع تغير العنوان : ما بين روس وبريطان وفرنسيس وأمريكان ، وكأنهم لم يكونوا بعد يعلمون أن الكفر ملة واحدة .
آن الأوان لمراجعة القضية على ضوء الإسلام بعد التجارب المريرة التي مر بها العالم العربي أخيرا بسبب فشل القومية العربية تلك التي غاب عن منظريها أنها إنما قامت حيث قامت في الغرب بحروب طاحنة لم يعد المجال متاحا لها في عالم اليوم وخصوصا عندما يكون الأمر لمصلحة العرب ، وقد جاء الدليل القاطع على ذلك في المحاولات الفاشلة التي وقعت منذ تطرقت الفكرة إلى المنطقة في بداية القرن العشرين بالرغم من تنوع أساليبها - : الأولى على يد الشريف حسين في محاولته لضم الشام والعراق ، ثم على يد جمال عبد الناصر في محاولته الوحدة مع سوريا و العراق ، واليمن ، وليبيا ، ثم على يد صدام حسين في محاولته ضم الكويت ، وبين هذا وذاك في المحاولات الفاشلة في أروقة الجامعة العربية ... ومن الواضح أن نظام الحكم لصدام حسين كان القلعة الأخيرة التي تهاوت تحت وهم تحقيق القومية كما تمت في أوربا فهو بمعنى من المعاني - وقد سبقه عبد الناصر إلى ذلك - ضحية الاستلاب العقلي الذي وقعت فيه العلمانية بكل منطلقاتها وعقائدها ونتائجها

آن الأوان بعد هذه التجارب المريرة أن لا نحاول إعادة اختراع العجلة ، أو إعادة تجربة الفاشل من المجربات ، أو الرضا بالفتات من فكر القومية إذ ننتكس إلى قومية قزمة وإن دعيت مصرية ، وأن نصحح استراتيجية الوحدة لكي توضع فيها وحدة الأمة الطوعية التربوية – على النسق القرآني ، بكل ما فيه من ضمانات للأقليات ، وفقا لآلية " واعتصموا بحبل الله " – في بداية الطريق ، بالنفس الطويل ، فلم يعد هذا الاعتصام اليوم ترفا مؤجلا ، ولكنه أصبح ضرورة ملحة ، ومعتصما وحيدا ، وممكنا فرديا ، وحلما جماعيا .
هذه الآلية التي تتعامل مع الأفراد كل منهم في نفسه ليغيرها بقانون التغيير الإسلامي ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) تجعل العبء ملقى أساسا على ضمائر الأفراد التي تلتئم حول حبل الله ، وفقا لقوله صلى الله عليه وسلم ( أتاني جبريل فقال : يا محمد : إن الأمة مفتونة بعدك ، قلت : فما المخرج يا جبريل ؟ قال : كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وهو حبل الله المتين ، وهو الصراط المستقيم ، وهو قول فصل ليس بالهزل ، إن هذا القرآن لا يليه من جبار فيعمل بغيره إلا قصمه الله ، ولا يبتغي علما سواه إلا أضله ) رواه الإمام أحمد . ويقول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح ابن حبان ج 1 ص 329 بسنده عن أبي شريح الخزاعي قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبشروا وأبشروا أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله قالوا نعم قال فإن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا ) ، وحبل الله يعني رسوله كما يعني كتابه ، يقول تعالى ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم )44 النحل. ومن هنا تتبين الخطوات التي أقامها الإسلام لوحدة المسلمين : إذ يقيمها على مجموعة من الضرورات الواقعية: فهي ضرورة أولية واقعية بمقتضى وحدة الجنس البشري ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) 1 النساء
وهي ضرورة أولية واقعية بمقتضى الوحدة الأساسية التي كان الناس عليها ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ) 19 يونس
وهي ضرورة أولية واقعية في مجال المسلمين بمقتضى إيمانهم بالله الواحد ، وبالدين الواحد ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) 92 الأنبياء ، ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) 52 المؤمنون
وهي ضرورة أولية واقعية من ضرورات الفطرة الواحدة ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) 30 الروم .
وهي ضرورة من ضرورات أخوة الإيمان ( إنما المؤمنون إخوة ) ، ويقول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح البخاري بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة) وفي صحيح البخاري بسنده عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا . وشبك أصابعه )

وهذه الآلية تعتمد على منهج عملي واقعي يبدأ من داخل النفس ويتحرك معها :
ففي مجال العقيدة ترتبط هذه الوحدة بعقيدة المسلمين الأساسية ، وهي عقيدة التوحيد ، وفي رحاب هذه العقيدة - التي تنفي عنها أية صورة من صور الشرك الخفي أو الظاهر - يتربى المسلمون على الوحدة تربية تتغلغل في نظرتهم إلى مبدأ وجودهم في هذه الحياة ، كما تمتد فى نظرتهم إلى مستقبلهم في الآخرة .
وفي مجال الشريعة ترتبط هذه الوحدة بخضوع المسلم – نظرا وعملا – لنظام تشريعي واحد : واحد في مكوناته ، واحد في مصدره ، واحد في هدفه ، منسجم في اجتهاداته .
وفي مجال الأخلاق تتوثق هذه الوحدة بقيام المجتمع الإسلامي – والفرد المسلم – على أساس من القيم الإسلامية الثابتة الموحدة التي وضحها الكتاب وبينتها السنة ، وفي مقدمتها قبول الآخر والبر له مالم يقاتل ، على قاعدة لهم مالنا وعليهم ما علينا
وصارت أصلا لأخلاق المسلم : يرفض الاستئصال و يستعصي على التزييف ويتأبى على التهجين

وظروف استمرار الوحدة الإسلامية أو عوامل دعمها ووقايتها تتلخص في وجود المرجع الأعلى الذي يرجع إليه عند ظهور الخلاف ، ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) 59 النساء ، وهو هنا منهج بسيط بين المناهج المعقدة ، ممكن بين المناهج المستحيلة ، منتج بين المناهج العقيمة . ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) 153 الأنعام .

لقد اعتقد الكثيرون أن وحدة الأمة لإسلامية منال صعب وفكرة طوباوية ، وترف لا تسمح به ظروف العصر، وتناسوا أنها الأيسر والأقرب ، والأسلم ، إن أرادوا ، وأنها هي التي بدأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ذلك إلا لأنها تبدأ من قلب الفرد وحياته وسلوكه ، من خلال اعتصامه بحبل الله ،

فإذا ما بدأت الوحدة هكذا وانتشرت هكذا دون لجوء لعنف أو استبداد أو آلية فساد – لم يعد يسمح به العصر لأي مشروع وحدوي في البلاد الخاضعة لمشروعات الاستعمار – استوت على سوقها وأنضجت فروعها ، وأنتجت ثمارها ، ولا يعود الشكل الذي تندرج فيه بعد ذلك غير كلمة الختام
وإننا في هذا المنهج لن نبدأ - لحسن الحظ - من الصفر ، ويكفي على مستوى الجماهير أن نتعامل معها بالتوعية والحفز والإيقاظ والتنبيه ، وتحريك دوافع الإيمان الكامنة والتضحية المتسامية والنصر المطلوب ، مع مقاومة تحريف مناهج التربية وتفريغ الخطاب الديني كما تريده الولايات المتحدة عدو الإسلام الأول وعملاؤها المتأمركون في مراكز النفوذ والتربية والدعوة والإعلام والتوجيه

وإنها لوحدة تستحق أن ترى في المستقبل القريب - بالتدريج - وقد جمعت ما بين أربع دول : سوريا بمكانتها التاريخية ومخزونها الثقافي وقابليتها للتمدد فيما بعد في الشام والعراق ، والسعودية بمكانتها الدينية والمالية وقابليتها للتمدد فيما بعد في دول الخليج ، ومصر بمكانتها البشرية والعلمية وقابليتها لتتمدد فيما بعد في شمال أفريقيا ، والسودان بمكانته المائية والزراعية وقابليته للتمدد فيما بعد في أفريقيا .
ولتكن تلك عقيدة تيار سياسي يتبناها ويعمل من أجلها برغم الخلاف في التفاصيل .

وإذا كان لابد من التخلية قبل التحلية فمن شروطها ما تكفل به القدر الرحيم من سقوط الدعاوى الوافدة المهزومة تباعا - سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا – تلك التي كانت قد تسرطنت منذ سقوط الدولة الإسلامية ، واقتلاعها نهائيا ، مع صعود التيار الإسلامي من خلال الركام الملتهب : نقيا فارعا متميزا ، وانتصار الحركة الإسلامية لتصبح إنجازا فعليا موعودا – بإذن الله - على يد العراق و فلسطين ، و مصر بوجه خاص بالرغم من كل صعوبات الطريق .

يقول السيد رشيد رضا صاحب المنار : ( فهو - يعني حبل الله - يوجب علينا أن نجعل اجتماعنا بكتابه ، عليه نجتمع ، وبه نتحد ، لا بجنسيات نتبعها ، ولا بمذاهب نبتدعها ، ولا بمواضعات نضعها ، ولا بسياسات نخترعها ).
إن الفرقة إنما تأتي من تلك المذاهب ، وتلك المواضعات ، وتلك السياسات ، وهي باختصار إنما تأتي من شياطين العلمانية المتربصين بالطريق
أما حبل الله فهو خيط الضوء وسط المتاهة الظلماء ، يقصد إليه من يقصد النجاة ، كما يقصد إليه من يقصد المنعة والشرف ، ولا يضل عنه ذو بصر أو بصيرة ، يتحرك إليه الأفراد وتتحرك إليه الجماعات ، وتنبثق عنده الدول ، فإذا هم هناك موصولون بحبل الله المتين .
تحريرا في 6 4 2007 أد يحيى هاشم حسن فرغل
عميد كلية أصول الدين بالأزهر سابقا
yehia_hashem@ hotmail .com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.