عندما فتح العرب المسلمون الأندلس في بدايات القرن الثامن الميلادي لم يعقبه انتشار للإسلام في أوروبا الغربية، وعلى النقيض من ذلك عندما فتح العثمانيون المسلمون شبه جزيرة البلقان في القرن الرابع عشر تقريبا، انتشر الإسلام في أوروبا الشرقية، ومع ذلك ظل الإسلام بعيدا عما يسمونه مراكز التحول الحضاري والتي كانت تمثله أوروبا الغربية منذ نهايات القرن التاسع عشر وامتد ليصل ذروته مع انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. اليوم يوجد في أوروبا نحو 70 مليون مسلم من أصل 750 مليون أوروبي، أي ما يمثل نحو 10% من تعداد السكان، والمتوقع بحسب تقرير نشرته صحيفة "الصنداي تليغراف" البريطانية في أغسطس عام 2009، أن يمثل المسلمون في عام 2050 نحو 20% من تعداد السكان. أوروبا اليوم تعيش أكبر مشكلة على مستوى "الهوية" لم تصادف مثلها عبر تاريخها كله، وكما يقول "إيفان أوز نوس" في "شيكاغو تربيون" إنه لأول مرة يشارك الإسلام في إعادة السؤال مجددا حول هوية أوروبا، وبعدما كانت الأخيرة تستقي هويتها من اليهودية والمسيحية فقط، بات الإسلام أحد أهم روافدها والذي لا يمكن تجاوزه بحال.. بل إن الإسلام فرض على أوروبا أن تعيد النظر مجددا في "مثلها العليا" مثل العلمانية والعلاقة بين "الكنيسة" أو الدين والدولة، وبات الحجاب والمآذن في مركز الجدل العام وعلى رأس الأسباب التي تعمق من الاستقطاب المتنامي اليوم بين النخبة والرأي العام والأحزاب السياسية بشكل مدهش، ما فرض نمطا من أنماط "الفوبيا" التي تتساءل عن هذا الوافد الجديد والذي بات جزءا منها يشاطرها الأرض والثقافة والحضارة وتفاصيل الحياة اليومية جلها ودقها. مقتضى الحال هنا يحيلنا إلى الميل نحو عدم استخدام المفردات التي تعزز من هذه "الفوبيا" المتنامية، فليس من المناسب أن نضع الإسلام باعتباره "تحديا" للمسيحية الغربية، لأن المصطلح قد يفضى إلى نقيض ما هو مستهدف منه ولذا اهتم السلف من علماء الأصول بما يسمى "تحرير المصطلح" وضبطه، وفي حالة "الإسلام الأوربي" ينبغي أن يتحرى هذا المنهج بشكل يراعي دقة وحساسية وضع المسلمين في أوروبا، سيما وأن الأحداث أفرزت جيلا يرى في الإسلام "بديلا" ليس على مستوى "المنطق" و"الفلسفة" وإنما على مستوى "الأزمات" التي خلفتها الرأسمالية المتطرفة في السنوات العشر الأخيرة.. إذ لم تعد كتابات المفكر الألماني المسلم "مراد هومان" عن "الإسلام البديل" محض طرح نظري وإنما واقع اقتنعت به أوروبا مؤخرا بعد الأزمة المالية الأخيرة عندما احتكمت إلى "العقل" في اختبار الإسلام أمام أزمة تتعلق بصلب مصالحها الحيوية. فلأول مرة يضع الصحفيون والمفكرون الغربيون أوروبا إما خيارين: إما "البابا وإما القرآن" وكما جاء في افتتاحية مجلة "تشالينجز" على لسان رئيس تحريرها "بوفيس فانسون".. ولأول مرة يطالب خبراء غربيون بقراءة "القرآن" بدلا من "الإنجيل" لاكتشاف دور المسيحية الكاثوليكية في تبرير انتهازية الليبرالية المتوحشة، والتي ادت إلى وضع الغرب أمام أسوأ أزمة مالية تهدد أسس وأصول النظام الرأسمالي الغربي ولأول مرة تتساءل الصحف الغربية عما إذا كان "وول ستريت" قد تأهلت لاعتناق الشريعة الإسلامية على نحو ما جاء على لسان " رولان لاسكين" رئيس تحرير صحيفة "لوجورنال دي فينانس" بالتزامن مع مع دعوة مجلس الشيوخ الفرنسي إلى ضم النظام المصرفي الإسلامي للنظام المصرفي في فرنسا، وهي ذات الدعوى التي تبنتها أكبر مؤسسة مسيحية في العالم وهي الفاتيكان. أوروبا إذن لا نريد اخافتها بخطاب استعلائي يقدم الإسلام بوصفه خصما من مسيحيتها سيما وأنها اليوم تبحث عن الإسلام "الشريك" الحضاري ولقد باتت مهيئة إلى قبوله إذا "اقتنعت" بأن فيه حلا لمشاكلها على صعيد "التجرية" وليس "التنظير" المحض، وهو ما فعلته المصارف الإسلامية بشكل يفوق جهود المئات من الدعاة والفضائيات والمواقع الالكترونية.. ما يعني أننا نحتاج إلى ابداع حقيقي على المستوى المؤسسي وعلى صعيد الخطاب الذي يتحرى مخاطبة "وجدان" أوروبا أكثر من عقلها وهي قصة أخرى قد نتناولها في مقال لاحق إن شاء الله تعالى. [email protected]