ما زلت أذكر ذلك اليوم البارد من أيام الإسكندرية الجميلة.. كان كل شيء يبدو مبهرًا.. البحر وقد خلا من المصطافين فلم تُحجب نضارته.. والهواء العليل يداعبنا فترفرف له قلوبنا.. حمل فريق العمل الكاميرات متجهًا صوب بيت هذا الشيخ المسنِّ ليسجل شهادته على التاريخ لقناة "أزهرى" الفضائية.. كان المخرج والمصور كلاهما يُمنِّى نفسه بمكان متسع فسيح يُمكِّنه من ضبط الكاميرات بأريحية.. اصطحبنا الدليل - وهو الأستاذ محمد الكيك صاحب محلات بريونى وأحد محبِّى الشيخ - مُرحِّبًا بنا، وسرعان ما دَلَفَ بنا إلى أحد الشوارع المتفرعة من كورنيش الإسكندرية.. بدأنا فى صعود درجات السلم بصعوبة بالغة زادها إرهاق السفر عبر الطريق الصحراوى من القاهرة إلى الإسكندرية.. كنا نصعد الطابق تلو الآخر بترقب متسائلين: لعلها هذه الشقة؟! طال تساؤلنا كثيرًا حتى كانت المفاجأة!! الشيخ يعيش فى حجرتين فوق السطح.. الحجرة الثانية - التى لم نرها - لا يمكن الدخول إليها إلا من خلال الحجرة الأولى التى نحن فيها.. ولم يكن السقف أكثر من ألواح خشبية متراصة بأناقة تقى الشيخ وزوجته الحرَّ وقليلًا من البرد.. لم تَخْلُ الغرفة النظيفة والمُرَتَبَة بعناية فائقة من الكراسى القديمة المتهالكة والكتب الصفراء التى ارتسمت عليها تجاعيد الزمن.. تمامًا كوجه هذا الشيخ الذى نقش الزمان على وجهه خريطة معقدة التفاصيل تُنبئ عن هموم ثقيلة تراكمت عبر السنين.. ما زلت أذكر الدهشة التى علت وجوه الفريق، فقد كانوا يتُوقُون إلى مكان أفضل من هذا يليق بالكاميرات – على حد تعبيرهم. لم يقطع هذه الدهشة سوى عرض الأستاذ محمد الكيك أن ينتقل بنا إلى مكان آخر إلا أنه سرعان ما آب إلى نفسه، مؤكدًا أن الشيخ يأبى أن ينتقل إلى مكان آخر غير بيته.. همست فى أذنه: هل للشيخ بيت آخر؟! أجاب: لا والله، هذا المكان المتواضع فقط، عرض عليه بعض محبِّيه منازل فاخرة وشققاً فارهة إلا أنه أَبَىَ العيش إلا فى هذا المكان المتواضع!! لحظات ودخل الشيخ بقامته الطويلة وجلبابه الأنيق وعصاه التى تستمد قوتها منه.. سارعت إليه لأسلم عليه وأُقبِّلَ يده؛ فقبضها.. عاودت الكَرَّة؛ فقبضها ثانيةً.. جلس الرجل خاشعًا على الكرسى يتمتم ببعض الأدعية غير آبهٍ بمن حَولَه.. كنت مشغولًا بالنظر فى وجهه الذى علته علامات الرضا.. وتذكرت كيف يعيش بعض الدعاة فى القصور الفارهة ويمتطون أثمن السيارات.. وكيف استبدلوا السرر الموضونة بالحصير.. والأرائك الوثيرة بأعمدة المساجد.. وأطايب الطعام بالخبز الجاف!! ظلَّ الشيخ فى مجلسه وظللتُ على حالى تغالبنى بعض الدموع الحائرة.. لم أكن أدرى لماذا ولكنها كانت تغالبني!! ربما فرحًا بلقاء الشيخ!! وربما إشفاقًا عليه!! وربما انبهارًا بزهده وقد رأيت أمثاله يرفلون فى النعيم.. ولكنى تذكرت قول النبى – صلى الله عليه وسلم: إن الله يعطى الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولا الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبه!! بدأ العمل ودارت الكاميرات والرجل يحكى بتواضعٍ جمٍّ عن عبد الناصر والاتحاد الاشتراكى وكيف انتقلت ملكية مصر من (الباشوات) إلى (السوبر باشوات) بعد أن تسلط العسكر على البلد.. ولم يكن الحديث لينتهى دون الحديث عن خلافه مع السادات والست حرمه التى أرادت أن تكون شجرةَ دُرٍ جديدة فتصدَّى لها الرجل بجسارة بالغة.. وكان جزاؤه أن زُجَّ به فى غياباتِ السجن.. فى ليمان طره. وبلغ الأمر أن الرئيس السادات عرَّض بالشيخ فى خطبة شهيرة قال فيها: "بيتعرض لى أنا شخصيًا وعائلتي.. شيخ أزهرى واخد العالمية والمفروض إنه يعرف الدين الإسلامى وبعدين يدعى أنه داعية إسلامي.. تحدث بعد الصلاة بأنه لا توجد سيادة قانون فى مصر لأن القانون لا يُحترم.. يهاجم المعاهدة وأنها تعتبر سيناء فى حكم المحتلة لأنها ستكون منزوعة السلاح، وأنه من البنود السرية للمعاهدة يعنى أى كذب.. إجرام... سفالة... بذاءة كل ده ميوفيش؛ لأنه لما يقف رجل معمم ومن الأزهر الشريف علشان يقول بنود سرية وهى مش موجودة والله ما هرحمه بالقانون.. أهو مرمى فى السجن زى الكلب". فرغنا من تصوير الحلقات مع الشيخ، وكان قد وصل إلى درجة كبيرة من الإرهاق.. أومأت إلى الزميل مسئول الإنتاج فذهب إلى الشيخ ومعه آلاف الجنيهات لتسليمها إليه فرفض الشيخ، عبثًا حاول الزميل إقناعه بأن هذا عُرف القناة مع جميع الضيوف؛ ولكن الرجل قال إنه لا يتقاضى شيئًا نظير دعوته.. اقترح عليه الزميل أخذ المبلغ والتصدق به على الوجه الذى يحب؛ فقال: يمكنكم أنتم التصدق به بالنيابة عنِّي.. يا إلهي!! إلى هذه الدرجة هانت عليه الدنيا؟! استدعت ذاكرتى أحد الدعاة الذين ملأوا الفضائيات ضجيجًا وظهروا بمظهر النُسَّاك فى حين طَلَبَ من إحدى القنوات أن تعامله كنجم (STAR يعني)!! تذكرت بالأمس هذه الزيارة لمنزل الشيخ عندما علمت بأنه محاصرٌ فى مسجده ووسط محبيه، وكأن الفرنسيس - كما يحب الجبرتى أن يُسمِّيَهم - لم يبرحوا مصر بعد أن ضربوا الأزهر بالمدافع منذ أكثر من مائتى عام.. إن التاريخ سيذكر أن مسجد القائد إبراهيم قد حُوصر من قِبَلِ بعض المسلمين ممن يُسمون أنفسهم ثوارًا.. والحقيقة أن الثائر الوحيد فى هذه الأحداث هو الشيخ المحلاوى الذى تكلم حين صمت الآخرون، ووقف أمام عبد الناصر فى الوقت الذى كان شيخ الأزهر يسمى الرئيس الصلب ب(المُلهَم)، وانتقد السادات فى الوقت الذى كان البعض يسميه ب (الرئيس المؤمن). عزيزى القارئ.. أطَلْتُ عليك كثيرًا.. وفى النهاية أقول: سلامٌ على المحلاوى فى الأولين والآخرين.. [email protected]