ارتبطت الخدمة العسكرية فى ذهنى بصديقى الطفولة "حجاج" الذى ترك التعليم باكرًا لينفق على أسرته، فأراد الهروب من التجنيد " 3 سنوات لمن لا يحملون مؤهلات دراسية" حتى لا ينقطع عن الإنفاق على أسرته، ففكر وفكر، وقرر أن يقطع أحد أصابع قدمه فوضعها تحت القطار، ليخرج "حجاج" من هذه التجربة بساق واحدة ويعيش متسولاً بقية حياته، الصورة الثانية، عندما التحقت أنا بالتجنيد، وبحثت عن وسائط الدنيا كى لا أكون ضابطًا احتياطيًا وأمضى 3 سنوات من عمرى فى خدمة الوطن، وهكذا وجدت كثيرين غيرى .. الصورة الثالثة ارتبطت بظاهرة "التسطيح فوق القطارات" والتى كانت سائدة فى الثمانينيات والتسعينيات هربا من الدفع وكان أبطالها الجنود، فينجو منهم من ينجو، ويموت منهم من يموت .. هذه هى ذكرياتى عن الخدمة العسكرية، وفى الواقع أن العسكرى المصرى، بائس الحال، يحتاج إلى الشفقة، رث الثياب، مشتت الفكر، ينتظر من يتصدق عليه ب "بيضة" أو حتى "سيجارة"، يؤدى الخدمة العسكرية مجبرًا، ويستقبله أهله فى كل مرة زيارة بالزغاريد، ويودعونه ب "الزوادة" والدموع .. وعندما أراد محمد على باشا مؤسس مصر الحديثة إنشاء جيش قوى، فكر فى الإنسان المصرى، وكان أول من أعتمد على المصريين كجنود، وأثبتوا براعتهم فى القتال حتى وصل بهم إلى حدود المكسيك، بعد أن كانت جيوش مصر من المماليك اعتقادًا منهم أن المصريين لا يصلحون إلا للفلاحة فقط .. ولكنهم ابهروا العالم أجمع .. وهكذا، ظل الحال بالجندى المصرى، حتى حكم العسكر مصر، فأهملوا أول لبنة فى الجيش "العسكرى الفرد "، واهتموا فقط بأنفسهم، والنجوم التى تزين الأكتاف فكانت النكسة، ثم جاءت حرب رمضان السادس من أكتوبر، التى أنتصر فيها هؤلاء بفضل الله، ونسبها الجنرالات لأنفسهم، بل سرقها شخص واحد فقط، فتحولت الملحمة الإلهية، لضربة جوية، ولولاه ما كان النصر، مع أنه لم يطر يومها بالطائرة، وكان مفطرًا فى نهار رمضان يتابع ما يحدث من بعيد .. بعيد .. ولكن هكذا صوروا لنا الأمر.. وصدقناه .. إن عملية " نسر" لتطهير سيناء من الإرهابيين والدائرة حاليا، كشفت أن هذا الجندى الذى يتخبط فى الكثبان الرملية نتيجة 40 عامًا استرخاء فى حاجة إلى إعادة تأهيل، فى حاجة إلى أعادة رد اعتبار، بعد سنوات طويلة من القهر والاستذلال، فالجندى هو أول لبنة فى الجيش المصرى، وكثيرًا منهم يدخلون الجندية ويخرجون منها بلا إضافة حقيقية فى حياتهم، بل إن كثيرًا منهم يحاول التهرب والهروب من الخدمة العسكرية، وكثيرًا منهم يدخلها وكأنها عبء يؤخر حياتهم، وكثيرًا منهم يتم المتاجرة بهم وإجبارهم على العمل بالسخرة فى قصور ومزارع وشاليهات الجنرالات الكبار الذين ترهلوا وسمنوا .. وكثيرًا منهم يدخلون الجندية وتجرى لهم عمليات غسل مخ بأن الوطن هو النظام والشعب هو العدو .. فلنعيد للجندى المصرى وضعه وإنسانيته وهيبته، وكرامته ووطنيته، ولنكف عن الكذب عليه بشعارات مستهلكة .. أو المتاجرة به .. ولنحقق مقولة الرسول الأعظم فيه "خير أجناد الأرض" .. [email protected]