خيرى شلبى .."ريس الزوادة" بقلم : محمد الغيطى منذ 1 ساعة 6 دقيقة كان الصيادون فى بلدنا "البرلس" فى أقصى شمال الدلتا يغيبون فى البحر عدة أشهر سواء للصيد فى البحر الكبير "الأبيض المتوسط" أو للسفر فى موسم "الحصيدة" السنوى الذى يستبدلون فيه محاصيل الأرض الرملية البلح و الجوافة .. الخ .. و التى تشتهر بها قرى شمال البحيرة بمحاصيل الأرض الطينية مثل الأرز و القمح ومشتقات الجبن و التى كانت تشتهر بها محاصيل الأرض الطينية جنوب البحيرة . كانت الزوجات والأمهات يجهزن للرجال المسافرين شيئاً يسمى "الزوادة" أى مشنة فيها أوانى الطعام الجاف و الخبز الذى يكفى المسافرين وطبعاً تحتوى الزوادة على خمرة الصياد وهو الشاى و السكر الذى لا غنى عنه فى الرحلة الطويلة ، لذلك إذا أسعدك زمانك وسافرت مع أحد الصيادين أو أصحاب المراكب فجراً فلابد أنك تسمع عبارة "الزوادة" هاتى الزوادة يا ولية ، جبت الزوادة معاك يابنى وهكذا . وإذا حدث ونفذت زوادة أحدهم فى الرحلة فأنه لابد سيجد من تفيض زوادته عن حاجته وغالباً يكون صاحب المركب التى يسافر عليها الصيادون وهم " المعلم أو الريس " وكان يسمى ريس الزوادة ، وهذا هو التعريف الذى كنت أحب أن أطلقه على عمى خيرى . هو ريس زوادة بحق و الزوادة هنا ليست طعام الصياد لكنها تتجاوز مفهوم "المشنة" أو البقجة" إلى الحياة عموماً ، عم خيرى أو أبى خيرى منذ أول لقاء لى معه عام 1988 عندما كنت محرراً وأنا طالب فى جريدة الشعب وأجريت حواراً ضمن سلسلة حلقات فى الصفحة الثقافية تحت عنوان "أدباء الحلقة المفقودة ما بعد نجيب محفوظ" وهو تعبير صكه الناقد الراحل الكبير الدكتور سيد حامد التساج الذى قال أن الأدب المصرى و العربى أعطى كل الاضواء لنجيب محفوظ فى فن الرواية وظلم عدداً من الروائيين الكبار الذين جاءوا بعده ولا يقلون عنه موهبة وعطاء ولذلك نشرت حلقات من هذا الملف مع عدد كبير من هؤلاء الأدباء الذين أطلق عليهم "ما بعد محفوظ" ومنهم عم خيرى الذى فوجئ اننى من كفر الشيخ فى نهاية الحوار وبالمناسبة كانت جلستنا على إحدى مقاهى وسط البلد لانه لم يمنحنى شرف الذهاب "للخن" الذى كان يكتب فيه وسط المقابر من أول مرة . ربما اشفاقاً على وقد كنت وقتها "غرا" دون العشرين وتعددت لقائاتنا فى الامسيات الثقافية وأذكر ان محافظة كفر الشيخ أحتفلت بذكرى شاعرين عظيمين من راحليها وهما صالح الشرنوبى ثم على قنديل وسافرت مع عم خيرى وتصعلكنا سوياً فى ربوع بلطيم ثم قضينا ليلتنا فى كفر الشيخ حتى الصباح وذهبنا لمنطقة تسمى "الحكر" واذا به يحكى لى حكاية الحكر و الغجر الذين قطنوها لانها كانت خارج العمران و المدينة وكنا نحن نمشى فى المنطقة نبحث عن مقهى فيها الجوزة أو الشيشة ليعمر عم خيرى رأسه بحجرين ، وكان معنا فى رحلة البحث عن مقهى الراحل العظيم عفيفى مطر و عبد الدايم الشاذلى ومحمد الشهاوى وحلمى سالم وأمجد ريان وجمال القصاص من مجموعة اضاءة السبعينية ولحق بنا عم سيد صحاب فيما بعد واذكر انه كان معنا موظف من الثقافة فإذا به يطلب ان نترك المنطقة على الفور لان ظابط المباحث حذره ان كلها تجار حشيش فإذا بأحد الشعراء الصعاليك يقول "ده عز الطلب" وخلال دقائق وجدنا سارينة الشرطة ينزل منها عساكر يحاصورننا ويريدون القبض علينا ولم يعصمنا إلا وجود موظف الثقافة الذى قال للضابط اننا ادباء وصحفيين فى جولة سياحية بعد نص الليل ، وعندما أقترح أحد أثرياء المحافظة أن نذهب لفيلته رفض عم خيرى وقال نحن سنذهب لشقة فى منطقة شعبية يملكها شاعر محلى وذهبنا للشقة المتواضعة جداً وسهرنا حتى الفجر ولم ننم لاننا جلسنا نستمع لحكايات عم خيرى ريس الزوادة الذى كان يطلب من العظيم محمد الشهاوى أطال الله عمره أن يقطع سرد الحكايات بقصائده العبقرية هو وعبد الدايم الشاذلى . أول مسلسل (الحصيدة) [ فى مقر مجلة الإذاعة ألفا مية وسبعتاشر على الكورنيش كان يحلو لعم خيرى أن يأتى ليجلس فى حجرة الديسك وكانت تجمعنى مع ياسر الزيات وعم مصطفى مجاهد والد الدكتور أحمد مجاهد ، كان عم خيرى يأتى بسندوتشات الفول و الطعمية ويطلب زجاجة سيفين آب ومعها فنجان القهوة و الماء المثلج . وكان يدعونى لمشاركته بحرارة وكنت ألحظ انه فى لحظات جلوسه الأولى يصمت صمتاً رهيباً حتى اننى كنت أخاف الأقتراب منه أو فتح أى حوار فقط أزيك يا عم خيرى ، حتى تأتى له القهوة فيضع عليها قطرات ماء عرفت فيما بعد انها تسقط الحبيبات الصغيرة للقاع ثم يشرب القهوة ويسألنى عامل أيه ؟ فأقول الحمد لله فيتأملنى وأنا أراجع الموضوعات الصحفية ثم يقول أوعى الصحافة تاكلك ما تهملش الموهبة .. خد الموضوع ده اديه لجلال .. يقصد محمد جلال رئيس التحرير السابق ويمضى وعندما اذيع لى أول مسلسل بالتليفزيون المصرى "الحصيدة" عام 98 قال لى مبروك أنا مطمن انك مش هاتهمل موهبتك ، وعندما أرادنا تطوير صفحات المجلة كان الراحل العظيم يجيد كل فنون الصحافة وأعتقد أنه صاحب السبق و الفضل فى فن صحفى يحتاج أن يدرسه أحد الباحثين ليؤكد ريادة خيرى شلبى فيه وهو فن البورتريه الصحفى ، ويا سعده يا هناه من كتب عنه خيرى شلبى بورتريه ورسمه بقلمه .. كان الفنان الرائع الدكتور خلف طايع يقرأ كلمات عم خيرى و تصويره لمكنون وسرده عنها فينفجر إبداعاً فى رسم ملامحها وأنا لا أبالغ إذا قلت انه لا يوجد فى الصحافة العالمية من يستطيع أن يكتب تقريراً عن شخصية أو يرسم تفاصيلها الخارجية و الداخلية مثل عم خيرى شلبى وراجعوا من كتب عنهم . أما أدب وابداع ريس الزوادة فيكفى اننى عندما سألت نجيب محفوظ وأعتقد أن غيرى سأله نفس السؤال وأجاب ذات الأجابة لماذا لم تكتب عن الريف فقال ماذا أكتب بعد خيرى شلبى . لا يمكن أن يستطيع غيره أن يكتب فاطمة تعلبة أنها جدتى فى بلطيم ، من يكتب عن صالح هيصه من يكتب عن حكايات الطرشجى الحلوجى . من يكتب عن حسن ابو ضب . من يكتب عن منطقة اسمها المماليك بعيون فلاح أسكرته حكايات النسوه عند الترعة أسفل الجميزة أو شجرة أم الشعور وغاص حتى كيعانه فى ورد النيل الطامى عند الفيضان . عم خيرى ريس الزوادة عاش كالأسطورة بل هو ذاته أسطورة .. تركيبة ساحرة مدهشة فيه من معاناه بودلير الشاعر وموتسارت الموسيقار وعذابات أمل دنقل و عبد الحميد الديب وصالح الشرنوبى ونجيب شرور فيه من كل هؤلاء . كان يلعب مع الدنيا لعبة البقاء ، تحدى كل أقنعة قسوتها ، عاش فى القبور فأحيا بين الاموات قصصاً من أرواحهم انبعثت لتروى بمداد قلمه ، وعاشر الصعاليك و الحشاشين و الهوام من البشر باحثاً عما بداخلهم من جواهر مكنونة هؤلاء هم السفلة فى أعين اصحاب الياقات لكنهم خامة الحكاية الذهبية عند الجواهرجى الحكماء عند ريس الزوادة . كان يسخر من البهوات و الباشوات واصحاب المناصب وهو لم يسع لمنصب طوال عمره وكان مثل أبى أحمد الغيطى شجرة نخيل تتحدى العطش . تعلو بهامتها فى السماء وتصارع الأعاصير وبرد الشتاء ومواسم الخماسين واقفة تقول ها أنا وحدى أيها الخنازير الذئاب مصاصى دماء البشر الآكلين على كل الموائد لست منكم ولا أنتمى لعالمكم أنا أنتمى لقلمى وموهبتى فهل من محارب عاش عم خيرى نموذجاً للعامل المخلص لم يكسب قرشاً إلا بعرقه وتعبه وسهر الليالى وانحناءة الظهر . وهى سمة العامل المصرى المساهر الأويمجى والأسطى ذى الضمير اليقظ ، والعمل المتقن وكان عم خيرى يتقن ما يعمله ولا يتركه ناقصاً أبداً وليت الأجيال اللاحقة تتعلم من جيله هذه السمة العظيمة . [ أخر مرة رأيته كنا فى عزاء الراحل سعيد عبد الخالق ووقف بين الربعين وتحرك ليجلس بجوارى وأثنى على أخر مسلسل شاهده لى وقال كلاماً جعلنى أطير فرحاً وأنا أسأله بجد عجبك وإذا به يقول لى أنا عارف ان انا مقصر معاك وكنت شحيح فى كلامى عنك بس أنت طول عمرك صبور وعاجبنى جلدك وعمرك ما خدت حاجة مش حقك . أقسم بالله العظيم اننى ذهبت لزوجتى أطير حبوراً من كلامك يا عم خيرى وأنا أودعه قال لى بنتك وشها مريح قولها جدك خيرى معجب بيكى دى بنت موهوبة ، خد بالك منها وتركنى وقد أخذت شهادة دكتوراة من كلماته كانت أخر مكالمة بيننا فى رمضان عندما أرسلت له رسالة فطلبنى وقال لى انه لا يقرأ الرسائل ولكنه أراد أن يطمئن على . يا الله من يطمئن عل من . لقد كنت خارج القاهرة وعندما سمعت خبر رحيله صرخت فى مكانى . لأ.لأ لا يمكن أستغفر الله العظيم لماذا تصورت ان عم خيرى سيعيش معنا حتى نرحل نحن ويكتب عنا أليس هو ريس الزوادة . الزوادة خلصت يا ريس خيرى من سيطعمنا حكايات بقية الرحلة من ؟ الله يرحمك ..!..