صناديق «الشيوخ» تعيد ترتيب الكراسى    إصلاح الإعلام    صوم العذراء.. موسم روحي مميز    زيارة رعوية مباركة من الأنبا أغاثون إلى قرية بلهاسة بالمنيا    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الأحد 17 أغسطس 2025    أسعار الدواجن اليوم الأحد 17 أغسطس 2025    وزير الزراعة: تمويلات مشروع «البتلو» تجاوزت 10 مليارات جنيه    بوتين وترامب على طاولة إعادة رسم العالم    «التهجير الصامت» للفلسطينيين من غزة    استئناف إدخال شاحنات المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة    احتجاجات واسعة وإضراب في إسرائيل للمطالبة بوقف الحرب    الزمالك يعود للتدريبات الاثنين استعدادًا لمواجهة مودرن سبورت    ترتيب الدوري الاسباني الممتاز قبل مباريات اليوم    طقس اليوم.. الأرصاد: أجواء صيفية معتادة.. ونشاط رياح يساعد على تلطيف الأجواء مساء    مصرع شخصين وإصابة 28 في انقلاب أتوبيس بطريق أسيوط الصحراوي الغربي    طلاب الدور الثاني بالثانوية العامة يؤدون اليوم امتحاني اللغة الأجنبية الثانية والتربية الوطنية    المصيف فى زمن الفلتر    الرئيس السيسي يوجه بوضع خارطة طريق شاملة لتطوير الإعلام المصرى    قرن من الخيانة    جمعية الكاريكاتير تُكرّم الفنان سامى أمين    "بشكركم إنكم كنتم سبب في النجاح".. حمزة نمرة يوجه رسالة لجمهوره    وفاة شاب صعقا بالكهرباء داخل منزله بالأقصر    حظك اليوم وتوقعات الأبراج    قوات الاحتلال تُضرم النار في منزل غربي جنين    السيسي يوجه بزيادة الإنفاق على الحماية الاجتماعية والصحة والتعليم    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 بحسب أجندة رئاسة الجمهورية    عيار 21 الآن.. أسعار الذهب اليوم في مصر الأحد 17 أغسطس 2025 بعد خسارة 1.7% عالميًا    حياة كريمة.. 4 آبار مياه شرب تقضى على ضعفها بقرية الغريزات ونجوعها بسوهاج    خالد الغندور يكشف ردًا مفاجئًا من ناصر ماهر بشأن مركزه في الزمالك    مشيرة إسماعيل تكشف كواليس تعاونها مع عادل إمام: «فنان ملتزم جدًا في عمله»    للتخلص من الملوثات التي لا تستطيع رؤيتها.. استشاري يوضح الطريق الصحيحة لتنظيف الأطعمة    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأحد 17 أغسطس 2025    10 صور لتصرف غريب من حسام عبد المجيد في مباراة الزمالك والمقاولون العرب    خروج يانيك فيريرا من مستشفى الدفاع الجوى بعد إجرائه بعض الفحوصات الطبية    وكيل صحة سوهاج يصرف مكافأة تميز لطبيب وممرضة بوحدة طب الأسرة بروافع القصير    رويترز: المقترح الروسي يمنع أوكرانيا من الانضمام للناتو ويشترط اعتراف أمريكا بالسيادة على القرم    تدق ناقوس الخطر، دراسة تكشف تأثير تناول الباراسيتامول أثناء الحمل على الخلايا العصبية للأطفال    8 ورش فنية في مهرجان القاهرة التجريبي بينها فعاليات بالمحافظات    في تبادل إطلاق النيران.. مصرع تاجر مخدرات بقنا    مصرع شخصين وإصابة ثالث في انقلاب دراجة نارية بأسوان    «مش عايز حب جمهور الزمالك».. تعليق مثير من مدرب الأهلي السابق بشأن سب الجماهير ل زيزو    رابط نتيجة تقليل الاغتراب.. موعد بدء تنسيق المرحلة الثالثة 2025 والكليات والمعاهد المتاحة فور اعتمادها    رئيس جامعة المنيا يبحث التعاون الأكاديمي مع المستشار الثقافي لسفارة البحرين    الداخلية تكشف حقيقة مشاجرة أمام قرية سياحية بمطروح    لأول مرة بجامعة المنيا.. إصدار 20 شهادة معايرة للأجهزة الطبية بمستشفى الكبد والجهاز الهضمي    كيف تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع تعادل الزمالك والمقاولون العرب؟ (كوميك)    المصرية للاتصالات تنجح في إنزال الكابل البحري "كورال بريدج" بطابا لأول مرة لربط مصر والأردن.. صور    تعليق مثير فليك بعد فوز برشلونة على مايوركا    وزيرا خارجية روسيا وتركيا يبحثان هاتفيًا نتائج القمة الروسية الأمريكية في ألاسكا    الأردن يدين بشدة اعتداءات الاحتلال على المسيحيين في القدس    كيف تتعاملين مع الصحة النفسية للطفل ومواجهة مشكلاتها ؟    «زي النهارده».. وفاة البابا كيرلس الخامس 17 أغسطس 1927    "عربي مكسر".. بودكاست على تليفزيون اليوم السابع مع باسم فؤاد.. فيديو    يسري جبر يوضح ضوابط أكل الصيد في ضوء حديث النبي صلى الله عليه وسلم    عاوزه ألبس الحجاب ولكني مترددة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز إخراج الزكاة في بناء المساجد؟.. أمين الفتوى يجيب    وزير الأوقاف: مسابقة "دولة التلاوة" لاكتشاف أصوات ذهبية تبهر العالم بتلاوة القرآن الكريم    الشيخ خالد الجندي: الإسلام دين شامل ينظم شؤون الدنيا والآخرة ولا يترك الإنسان للفوضى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصرى اليوم تنشر رواية «بيت الدكر» للكاتب الصحفى محمود الكردوسى (6)الناس والحجارة.. مُزدَانة عرب الناقة


بين عسكرية وعبدالواسع
كان لابد من كبح نزق همام بزيجة تناسبه، فوقع اختيار العمدة على عسكرية محمود السيوفى، ابنة أحد أعيان أسيوط، كانت صفقة: عسكرية مقابل مهرة، وكان الخاسر الوحيد فرعام البطحجى وابنته ميسم، لكن العمدة كان كريماً وعادلاً وقرر أن يكون عبدالله، الابن السفاح لميسم من ابنه الوحيد همام، جزءًا أصيلاً من سلالة بيت الدكر،
أما صفقة عبدالواسع الغرابلى مع فريدة ابنة العمدة وشقيقة همام فقد قضت بحصوله على نصف حصة زوجها الحاج عمران فزاع بعد وفاته فى ببور الطحين، نظير إدارته للنصف الآخر، لكنها لم تستطع، رغم ذلك، أن تخفى فضيحتها، وشاع أمر علاقتها الآثمة بعبدالواسع بين أهل الشق، واجتمع العمدة وسيدنا لبحث الأمر، فانتهيا إلى حرمان فريدة من دخول السراية مادام العمدة حياً، بينما تركا مصير عبدالواسع للحلفاوى.
استهدى بالله يا عمدة..
ما انت عارف وانا عارف.
عندما جلس عبدالجواد الدكر على مقعد العمدية فى أواخر العشرينيات، كانت الربوة خارجة لتوها من أتون فتنة بين المسلمين والنصارى.. كادت تلتهم الأخضر واليابس. وكان يعرف، مثلما يعرف سيدنا، أن «شيبة الحمد» وجماعته من المساليب.. خميرة فساد، وأن إقحامهم فى شؤون الربوة ضرب من المغامرة، لكنهم فى الوقت نفسه قوة لا يُستهان بها. ولأن أحوال البلد فى ذلك الوقت لم تكن تتحمل تهاوناً أو مماطلة، فقد استجاب عبدالجواد لنصيحة سيدنا وقرر أن يعتمد بصورة أساسية على هذه الشراذم المنبتة، مستفيداً من خبراتها فى أعمال النهب والقتل وتهريب الأسلحة، فضلاً عن تطلعها الدائم إلى الاستقرار.
والحق أن «شيبة الحمد» وجماعته كانوا عند حسن الظن، ولعبوا دورا مهماً فى حسم العديد من الصراعات، سواء بين عائلات الربوة أو بين الربوة وجيرانها من القرى.
وفى المقابل أصبح «شيبة الحمد» وأبناؤه الخمسة: شبندى وقبيصى وقللينى وزمباعى وشلقامى، وكل من يصطفيه ويعيش فى كنفه من المساليب، ضيوفا على بيت الدكر، سواء فى موسم الحصاد أو فى غيره. وزيادة فى الكرم أقطعهم العمدة جزءاً من الحد الغربى للردمة، أقاموا عليه بيوتاً بالطوب الأحمر. كما سمح لبعضهم بممارسة أعمال التجارة، ومصاهرة من يريدون مصاهرته من أهل البلد، حتى تغلغلوا فيها وأصبحوا جزءاً من حلوها ومرها.
حرص عبدالجواد الدكر من البداية على ألا يتدخل فى شؤون المساليب الخاصة، وأن يكون أمرهم شورى بينهم وبين كبيرهم «شيبة الحمد». لكن الأمر لم يخلُ رغم ذلك من محاولات لإحداث وقيعة بين بيت الدكر من ناحية، والمساليب والنصارى من ناحية أخرى.
وساد اعتقاد بين أهل القرية بأن سلطة شيبة الحمد وبنيامين أبوالخير، أصبحت توازى سلطة العمدة، إن لم تكن تتجاوزها، الأمر الذى أشعل غضب الأخير وأضفى على مشكلة «مزدانة» حجماً أكبر بكثير من حجمها.
كانت مزدانة فى ذلك الوقت تقف على عتبة العشرين، وكان موسم الحصاد يقترب من نهايته. ارتفعت أجران القمح فى داير الناحية، وعلا فى الخلاء صرير النوارج وغناء المواويل، بينما تحولت الأرض إلى حصيرة ذهب تهرول قطعان المساليب ودوابهم وراء فتاتها من طلعة الشمس إلى مغيبها. وقبل الغروب يشحن الرجالُ جملاً أو اثنين بحصيلة اليوم ويعودون إلى خيمهم وبيوتهم.
وفى مؤخرة الموكب تتهادى «مزدانة» كغيرها من حريم المساليب، ساحبةً جحشها وراءها وقد امتلأ الخرج بالسنابل: «أنا مزدانة، درة المساليب وزينة بناتهم، أهرول من طلعة الشمس كنواعم العبدة وراء سنبلة قمح!. ألا يجدر بى أن أسكن فى سراية كسراية بيت الدكر، وأمرغ جسمى فى حرير، وبإشارة واحدة من إصبعى أحرك جيشاً من الخدم والعبيد!. ألم يشهد بجمالى كل أهل الربوة!.
ألم يقل سيدنا - وقوله الحق - إننى أنثى من منبت شعرى إلى أخمص قدمى!. أنا، حفيدة عرب الناقة زعيم العربان، وسنادق القبطية، أجمل بنات الوادى، أعمل بلقمتى وأتكوم آخر النهار هكذا مثل قالب زبدة فى خيمة تحوم حولها كلاب السكك!».
عندما تسلل أحد المساليب إلى خيمتها ذات ليلة لم تقاومه. كان جسمها يفور من عزم النشوة، بينما تعلقت روحها فى سقف الخيمة كسحابة بخار، لذا ما إن شعرت بأن يداً تعبث فى براعمها حتى تفتحت برعماً تلو الآخر، وتحول جسمها إلى خرقة. وعندما أفاقت من خدر النشوة كان الرجل قد اختفى.. تاركا إلى جوارها دليل إدانته.
لم تشعر بالأسى أو الخوف أول الأمر، لكنها لاحظت بعد شهرين أن الدورة الشهرية تأخرت. ويوما بعد يوم بدأت تشعر بأعراض غريبة، إذ قل جهدها ولم يعد يستقر فى جوفها طعام وأصبحت تقرف من نفسها ومن كل شىء. وعندما ذهبت إلى سيدنا تطلب تفسيراً أيقن على الفور أن الطبق انكسر.
استعطفته وانحنت تقبل يده، بينما تتطلع إليه بطرف عينها:
■■ استرنى يا سيدنا.. استرنى كرامة لصاحب المقام.
انتهى موسم الحصاد وعادت قطعان المساليب إلى شتاتها، لكن مزدانة ظلت مختبئة فى جبانة المقام حتى وضعت بنتاً سماها سيدنا «كلثوم»، ثم لم يعد ثمة مفر من أن تواجه مصيرها:
■■ شيبة الحمد هيدفنك حية.. خديها من قصيرها وشوفيلك بلد تانى.
ابتسمت ولم ترد.
وقبل أن يسألها سيدنا عن سر ثباتها واطمئنانها تركته يتقلب فى دهشته، وعادت بعد لحظات وفى يدها خرقة تنطوى على خنجر ذى نصل عريض، قصير، محفور على مقبضه اسم «شيبة الحمد».
بهت سيدنا وحوقل وضرب كفاً بكف. وفى الليلة نفسها هرول إلى مندرة بيت الدكر، وطلب من العمدة استدعاء شيبة الحمد على الفور:
■■ إيه لحكاية يا سيدنا؟.. وايه اللى فى إيدك ده؟
حكى سيدنا للعمدة كل شىء وسلمه الخنجر فثارت ثورته، وقرر على الفور ألا يكون لشيبة الحمد أو جماعته عيش فى البلد.. لكن سيدنا طلب منه أن يتريث لحين حضور الرجل وسماع روايته.
وعندما حضر وواجهه الاثنان برواية مزدانة أنكر وانتفضت عروق رقبته، واستكثر على رأسين مثلهما أن يسيئا به الظن. فكل أهل البلد يعرفون أن سمعة مزدانة سيئة، وأنه ليس مضطراً للتورط معها فى مثل هذه المواضيع. ولو أحس للحظة أن زوجته «ضاحية» لم تعد تملأ عينه لتزوج عليها بدلا من شغل الفلاتية. لكن ضاحية لا تستحق ضرة، لأنها بصراحة لم تقصر فى واجب، ولم تطلب يوماً أكثر من حقها:
■■ والخنجر اللى عليه اسمك؟
طأطأ شيبة الحمد رأسه وسكت ثوانى، ثم قال بنبرة لا تخلو من تحدٍ:
■■ وافرض!
لم يسترح العمدة لهذه النبرة، فطلب من شيبة الحمد أن يقتل مزدانة ويلم الموضوع قبل أن تفوح رائحة الفضيحة. لكن شيبة الحمد أوغل فى تحديه:
■■ واشمعنى ما قتلتش ميسم يا عمدة!
تكهرب جو القعدة، فتدخل سيدنا، واقترح على شيبة الحمد أن يبحث فى جماعته عن شخص يمكن أن يقبل بالزواج من مزدانة فوراً وعلى علتها، ولم يكن هناك أنسب من «حسب النبى».. حارس أجران بيت الدكر.
عندما وقف «حسب النبى» بين يدى عبدالجواد الدكر.. أقر على الفور بأنه هو الذى اقتحم خيمة مزدانة، وأبدى استعداداً غير مشروط لقبول المهمة بصرف النظر عن الفاعل الحقيقى، لأن تعليق التهمة فى رقبة كبيرهم سيكسر شوكتهم إلى الأبد.
وفى حين اعتقد حسب النبى أنه خرج من الصفقة فائزاً بلذة الدنيا وثواب الآخرة، واعتبر مزدانة محظوظة إذ وجدت رجلاً يستر عليها، اكتشف أن مزدانة كانت تحلم بالزواج من شيبة الحمد نفسه لتكون سيدة المساليب الأولى:
■■ جات الحزينة تفرح.. ما لقيتش مطرح!
وجدت مزدانة نفسها فى عصمة ديوث، لا بحريه غلة ولا قبليه تبن، مرمية فى سباتة من البوص، تحيط بكهف محفور فى جذع شجرة نبق كثيفة الفروع والأوراق تتوسط ردمة بيت الدكر.. يسمونها «نبقة سنادق»:
■■ مين سنادق دى يا سيدنا؟
كانت سنادق فتاة قبطية من سكان الوادى، أسرها العربان وسلموها لزعيمهم عرب الناقة فوضعها فى كوخ صغير حفرته يد القدر فى جذع النبقة لكى يستأثر بها ويحول بينهم وبينها، إذ كانت شديدة الجمال، طاغية الأنوثة.
وذات يوم هفه الشوق فذهب إلى الكهف لإفراغ حمولته، فوجد عندها ثلاثة من سناجق المماليك الفارين من بطش أمرائهم فى القاهرة، فأمر بذبحهم وتعليقهم فى الصحراء كالخراف، وأجرى على سنادق عرفاً بغيضاً بأن يكافأ صاحب الحصيلة الأوفر من غنائم السطو على الوادى بقضاء ليلة كاملة معها، بشرط أن تقر فى اليوم التالى، وعلى الملأ، بأنه أتقن حرثها.
ويبدو أن سكان الوادى تجاهلوا اسمها الحقيقى بعد ذلك، وأصبحوا ينادونها «سناجق» على سبيل التحقير والمعايرة، ثم قُلِبَت الجيم دالاً على عادة بعضهم. ويقول سيدنا إن سنادق أصيبت فى أخريات أيامها بالجنون، وأصبحت - والعياذ بالله - تبول وتقضى حاجتها فى الزير الذى تشرب منه، ثم شاهدها بأم عينيه ذات يوم وهى تنزع الغطاء عن رأسها وترفع كفيها إلى أعلى هاتفة:
■■ كوك فيك يا حلفاوى!
استسلمت مزدانة وركبها الهم وحرثها وأتخمها بمائه، وظل حولاً كاملاً يخوض فى لجتها، لكنها لم تثمر. انتاب القلق حسب النبى وسرح بها بين الشيوخ والدجالين حتى التأمت الأحجبة عقداً حول رقبتها، لكنه لم يفهم أن العيب فيه وليس فيها، واعتقد أنها تعايره، فبدأ يتصيد لها. وبين الحين والآخر يثخنها بعلقة ساخنة.
ساقت عليه شيبة الحمد فلم يرتدع. اشتكته للعمدة فلم يرتدع. فكرت أن تقتله وتهج من البلد. فكرت أن تدوس على قلبها وترمى كلثوم فى حجر شيبة الحمد وتحرق نفسها.. لكن هاتفاً قمعها:
■■ اتخمدى نامى!
نامت، واستيقظت كعادتها من النجمة. سخنت لكلثوم كوز لبن وحلته، وقمرت ثلاث بتاوات قبضى، فتتها فى اللبن برمادها وتركت البنت تعبث فى الكوز غير عابئة. ثم سلقت لحسب النبى بيضتين وهرستهما فى صحن فول سيحت فيه ملعقة زبدة وغطته بخمس بتاوات، ووضعته مع فحل بصل فى محرمة حمراء ربطتها بإحكام، وسندتها إلى جوار الكانون، ثم دفست كنكة الشاى فى رماد الملالة وتركتها ريثما تضع الخرج على ظهر الحمار.
وضعت صرة الأكل فى فردة الخرج اليمنى وكلثوم فى اليسرى، وسدت فوهة الكنكة بقطعة قماش ليظل الشاى ساخناً، ثم أسدلت اليشمك على وجهها وقصدت باب كريم.
فى الطريق.. مرت على حسب النبى، حيث يبيت إلى جوار الجرن ليحرسه. حطت الأكل وكنكة الشاى أمامه، وجلست قليلاً قبل أن تودعه بعينين دامعتين، تبحثان وراء ظهور الحصادين عن إجابات لأسئلة تتقلب فى جوفها كالطعام الفاسد: كيف تتخلص من هذا المخلوق البائس دون أن يشعر بجريمتها أحد ودون أن تريق نقطة واحدة من دمه؟. كيف تجعله يتطلع إلى الموت فى كل لحظة ليشتهيه؟. كيف يكون عبرة للمجرم الحقيقى؟
فى المساء غلت حلة ماء، ونتفت نسيلة ليف نخل حمراء، ودعكت وجهها وذراعيها وساقيها وما بين نهديها بصابونة نابلسى، ثم حررت شعرها وسوت فرشتها وفردت طولها إلى جوار كلثوم وحاولت أن تنام، لكنها لم تستطع أن تصبر حتى يتنفس الصبح. اشترت نصف دستة شمع وتسللت إلى مقام الحلفاوى.
وضعت الشمع فى طاقة المقام وكمشت تحتها فى انتظار المدد، لكن رأسها ثقل عليها فنامت، فجاءها الأمر بأن تضع فى كل كباية شاى تصبها لحسب النبى.. ثلاث نقاط من دم الحيض. وخلال أقل من سنة واحدة كان السل قد تمكن منه إلى حد لم يعد يستطيع أن يصلب طوله بعد أن كان يخرق الأرض وهو يمشى.
انطفأ النور فى عينيه وأصبح علة على قلبها. وعندما كشف عليه الدكتور الفونس حليم، وكان شيبة الحمد قد أحضره من أسيوط على نفقته الخاصة، أدرك على الفور أن موته مسألة وقت، وطلب من مزدانة أن يكون الاقتراب منه فى أضيق الحدود «لأن السل معدى»، فهتفت فى عبها: «مدد يا حلفاوى»، ولم تعد تقترب منه بالفعل إلا إذا فاحت رائحته النتنة. ثم انتهزت الفرصة وطلبت من عبدالواسع الغرابلى ذات يوم أن يزورها لأمر مهم:
■■ خير يا وش المصايب!
كان الوقت أول الليل. وكانت تدرك أن عبدالواسع لا يفعل شيئا لوجه الله، وليس لديه ما يعطيه لها سوى ما تحتاج إليه بالفعل. ارتدت جلباباً خفيفاً على اللحم بفتحة صدر ساقطة، وراحت تضرب ذات اليمين وذات الشمال، تاركة مفاتنها تترجرج أمام عينيه.
وعندما أيقنت أن النار بدأت تشتعل فى سرواله طلبت منه أن يذهب إلى طهطا ليشترى لها برميلاً فارغاً ويفرده عند أى حداد، لأنها قررت أن تضع حسب النبى فى كهف النبقة، وأن يكون للكهف باب صاج بمغلاق لتحمى كلثوم من العدوى. ويبدو أن عبدالواسع فهم الرسالة قبل أوانها، فهجم عليها، لكنها هربت من بين يديه كما يهرب دهن اللية من بين يدى جائع ملهوف:
■■ يو جاك المرار!.. ما قادرش تستنى لحد ما تركب الباب!
أصبح للكهف باب مقفول على سوءتها، فلم تعد فى حاجة إلى اللهاث وراء الحصادين كغيرها من المساليب، وكل جربوع بعطيته: هذا بقتاية قمح، وذاك بغمر فول، وثالث بقبضة برسيم، إلا عبدالواسع: ما إن يلمسها حتى تشعر بأن روحها فطت من جسمها ورفرفت فى حجره مثل حمامة سرقتها سكين حامية.
لاحظت مزدانة بمرور الوقت أن أهل الشق لم يتدخلوا فى أمرها وكأنهم اتفقوا جميعاً على أن تكون الوعاء الذى يكبون فيه فائض رغباتهم، واستاءت كثيرا عندما وصفها سيدنا بأنها تحولت فى نظر العمدة إلى «كنيف عمومى»، وهو ما يبرر سكوته عليها رغم كراهيته لعبدالواسع. وبدلاً من أن تحمل عصاها وترحل قررت أن تجرب حظها مع العمدة نفسه، أو حتى مع ابنه الوحيد همام رغم حداثة سنه.
استحمت وتكحلت وارتدت جلباباً ضيقاً يبرز مفاتنها، ثم ذهبت إلى العمدة فى المندرة وفى ذهنها أن تطلب منه أربعة جدران تؤويها هى وابنتها بدلا من السباتة التى أصبحت مستباحة ولمت عليها واغش الشق. لكنها كلما اقتربت من دكته فقدت جزءاً من تركيزها:
■■ إيه لِحكاية يا ولية؟
ما إن انتبه العمدة إلى وجودها حتى ارتبكت ولم تستطع أن تنظر فى عينيه، فسترت جسمها وأخفت وجهها بطرف الطرحة وردت بصوت لا يكاد يُسمَع:
■■ مفيش حاجة يا عمدة.. أصل باب الكهف اتخلع وكنت عايزة ألماظ يركبه.
وفى طريق عودتها إلى السباتة قررت أن يكون همام بديلاً لأبيه، خاصة أن له سابقة مع ميسم فرعام البطحجى. صحيح أنه أصغر منها، لكنه نضج قبل أوانه: القوام، بسم الله ما شاء الله، يسند سقفاً، والوجه كإشراقة شمس، وكلما داعبته نسمة هواء والتصق جلبابه بواجهة جسمه خيل إليها أن أشياءه التى تتأرجح بين فخذيه صرة تنعقد على فصوص من أحجار كريمة، فلماذا لا تكون أول من يفكها!
راقبته آناء الليل وأطراف النهار. ظلت تتطلع إليه خلسة من وراء السور الذى يفصل بين الردمة والمندرة حتى تأكدت ذات يوم أنه يجلس وحيداً، فهجمت عليه بكل ما فى جرابها من أسلحة: العينان السوداوان الواسعتان المحفوفتان بالكحل والثديان النافران المتخاصمان، ومثلث السرة المقلوب، والدموع التى تفلق الحجر:
■■ سايق عليك النبى يا خويا تغيتنى!
اعتقد همام فى البداية أنها جنية طلعت عليه من تحت الأرض فانتفض مفزوعاً، لكنها طمأنته وعرفته بنفسها، ثم طلبت منه أن يأتى معها إلى النبقة لأن باب الكهف انخلع، وتحتاج إلى من يساعدها فى تثبيته:
■■ وانت عارف.. الردمة مليانة عفاريت!
انعقد لسان همام لحظات فاقتربت منه، وكلما طال سكوته اقتربت أكثر، حتى التصق فخذها بفخذه. وقبل أن ينطق بكلمة.. بوغت بأن اليد التى تربت على كتفيه مستعطفة، تتحسس جسده، وتسحبه كالتيس إلى إحدى غرف المندرة.
ومع أن همام كان لايزال منتشياً بعملته السوداء مع ميسم.. فإن مزدانة فتحت أمامه عالماً جديداً، مدوخاً، يرفل فيه كالفرس الجامح، بينما تتخبط هى فى هاوية بلا قرار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.