5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصرى اليوم تنشر رواية «بيت الدكر» للكاتب الصحفى محمود الكردوسى (4) الناس والحجارة


خلاصة الأساطير
اشتعلت فتنة بين أقباط الربوة ومسلميها، كلاهما يدعى أن الحلفاوى جده الأعلى، وكلما حمى وطيس الفتنة تدهور المقام وهانت على أهل البلد مكانة صاحبه، هكذا لم تهنأ «الربوة» بما تحقق على يدى شيخ العرب همام بن يوسف سوى بضع سنوات، وظلت قرابة المائة والخمسين عاماً ترتع فى غياهب الفوضى، حتى عاد سيدنا فأعاد هيبة الخلفاوى، وأعاد إلى المقام رونقه، أصبح الرجل آخر الكلام وأول الفعل، آخر الحب وأول الضغينة، آخر المعروف وأول الأذى، أصبح أداة المشيئة وحارس المقام، وبفضل منه انخمدت نار الفتنة، واتفق عمدة البلد عبدالجواد الدكر وعميد أقباطها بنيامين أبوالخير، على أن «الدين لله.. والوطن للجميع».
ميسم فرعام البَطَحجى
الربوة من عينى طائر موت محلق:
حدها الغربى قطعة أرض بائرة يسمونها «داير الناحية»، وحدها الشرقى غرفة مهجورة بسقفٍ عالٍ وباب منخفض يسمونها «عنقورة». ما معنى كلمة عنقورة!. لا أحد يعرف!. يقولون فقط إنها كانت مقراً للبلوكامين، وأصبحت، بسم الله الرحمن الرحيم، مسكونة!. متى كان فى الربوة بلوكامين!. لا أحد يعرف. لكن المؤكد أن العنقورة كانت نقطة حراسة. ومن جبابين المسلمين بحرى البلد ينبثق جسر تراب، يتلوى مثل ثعبان هائل مخترقاً حصيرة خضراء، ثم ينغرس فى كتلة البيوت ليتفرع دروباً وساحات واسعة وشوارع مغلقة تتباعد وتتقارب ثم تلتئم مكونةً نطاقاً قبلياً تتوسطه الكنيسة.
والكنيسة حسب القاموس النورانى لسيدنا أول كائن حى فى الربوة يتحرك على أربعة جدران. وإلى جوارها ترابط سراية بيت أبو الخير، ثم جبابين النصارى على بعد بضع مئات من الأمتار. وفى قلب كتلة البيوت، فى المنطقة المحيطة بوسط الجسر تقريباً، ترتفع سراية بيت الدكر، حيث يلتصق بها جامع صغير تتوسط فناؤه نخلتان ملساوتان، تتقابلان عند الجذر وتتفرعان فى فضاء الشق مثل وسطى وسبابة.
وبين السراية والمندرة الكبيرة كوبرى خشب يستخدمه ضيوف العمدة فى أيام الفيضان، بعد أن يعبروا دهليزاً مسقوفاً يشق السراية إلى جزءين، لكل جزء بوابة مستقلة. أما فى غير أيام الفيضان فإن الضيوف وأهل البلد على حد سواء يستخدمون باباً جانبياً يؤدى إلى فناء المندرة. وثمة ردمة شاسعة تشغل حوالى أربعة أفدنة، يفصلها عن فناء المندرة سور حجرى بعرض ذراعين وارتفاع قامة رجل، وتحيط بها غابة نخيل، تشكل حزام حراسة، ولكل واحدة من نخيلها نسب ومذاق.
نخلة عبد الصالحين: الرجل الذى روضها وتغلب على طولها، فخانته وأسقطته من عليائها، فحلت عليها لعنته.
نخلة سكيكرة (بتسكين السين والكاف الثانية وكسر الكاف الأولى): بلحها أحمر داكن، مقمع، لكنه يلسع الحلق لفرط حلاوته.
نخلة الساقية: إنتاجها غزير، لكن بلحها ناشف يجرح الزور، ورُطَبُه حمضان لأن الكلاب كانت تبول أحياناً فى مياه الساقية نفسها.
نخلة البير: بلحها طويل وفيه لدونة، لكنه صلب، متكرمش ومتقوس مثل ظهر عجوز.
نخلة العمدة: بلحها قليل، لكنه إذا استوى وسقطت منه واحدةٌ على الأرض لم تعد صالحة للأكل، لأنه كالزبدة.
نخلة الدِفِّينة (بكسر الدال والفاء وتشديدهما): بلحها خادعٌ يقرص المعدة.. مبططٌ كرأس الحنش.
وفى الركن الشمالى الشرقى من الردمة، فى غرفة واسعة، سقفها بوص وبابها برميل صاج مفرود، يقيم «فرعام البطحجى» سايس الاسطبل، وهو نصرانى أرمل يقف على مشارف الستين، لديه بنت وحيدة فى السادسة عشرة من عمرها تدعى «ميسم»، تعيش منذ ولادتها فى كنف ناعسة عبد العزيز الناحل، مرت العمدة.
ومثلما تربطه بفرسة العمدة عشرة عمر منذ كانت مهرة فى عامها الأول اشتراها عبد الجواد الدكر من أحد أعيان الشرقية بمعرفة الحاج عمران فزاع، فإن فرعام هو الوحيد الذى يعرف عمر كل نخلة فى الردمة، وهو الذى اختار لها اسمها. لكنه من بين كل نخيل الردمة يفضل تلك التى ترتفع فى صحن غرفته، ويسميها «السفافة».
يقول فرعام إن عمر السفافة من عمر ميسم، لأنه شتلها فى الموضع نفسه الذى دفن فيه حبلها السرى. وقد سماها «سفافة» لأنها عادة ما تفتح زاوية بين جريدتين لمن يريد أن يركبها، فيطلع مطمئناً، فتغافله وتغلقهما، تاركة نفسها للريح تؤرجحها، فتملؤه رعباً. لكن ناعسة تعتقد أن ميسم والنخلة تتشابهان فيما هو أهم: العنفوان والمراوغة.
ما إن تسمع ميسم صوت بِدَويها همام، الابن الوحيد للعمدة، يجلجل فى أنحاء السراية، حتى تفور وتتخلع فى مشيتها متحدية. وعندما يهجم عليها تجرى أمامه، فيترجرج نهداها وردفاها، ويزداد همام هياجاً وغيظاً. وقبل أن يلحق بها تكون قد استدرجته إلى أقرب غرفة، حيث تدقر جسمها فى ظهر الباب، وتقاوم بأقل ما لديها من عزم لتسهل عليه اقتحام الغرفة.
فى ذلك الوقت كان همام يقترب من الثامنة عشرة، وكانت ناعسة قد بدأت تشعر بتقدم العمر بعد أن خلا عليها البيت بزواج ابنتيها فريدة وثريا: فريدة تزوجت من الحاج عمران فزاع، صديق والدها وأحد وجهاء الربوة. وكان له فى تجارة الغلال والقماش والعلف الحيوانى وبعض المواد التموينية باع طويل، ولديه عمارة من أربعة طوابق هى الوحيدة من نوعها فى البلد، لكن المشكلة أنه يكبرها بنحو ثلاثين عاماً.
أما ثريا فقد تزوجت سعد، ابن خالها سفيان عبد العزيز الناحل، وأنجبت حشمت وعاطف وكوثر، ثم توقفت عن الخلفة بإيعاز من زوجها. وكان سعد يرى، على خلاف أهل البلد، أن كثرة العيال تقضى على أنوثة الزوجة، وتحولها مع الوقت إلى مجرد خادمة.
لم يبق لناعسة والعمدة إذن سوى همام. ولأن همام آخر العنقود والوريث الوحيد لبيت الدكر فقد تساهلا فى تنشئته، ولم يتوقفا أمام أخطائه.. فكان لابد من خطيئة.
كانت ميسم قد اعتادت أن تقضى غالبية يومها مع بِدَويتها ناعسة: من ناحية تسليها وتساعدها فى أعمال البيت، ومن ناحية أخرى توفر على فرعام لقمتها وهدمتها. وكان اليوم قائظاً عندما ذهب همام إلى مندرة السراية ليقيل كعادته، ففوجئ بميسم ممددة على كنبة وقد انحسر جلبابها عن كل فخذيها، واستقر ثدياها فوق صدرها كثمرتى رمان ملتهبتين، وراحت فى سبات عميق.
تسمر همام أمام عتبة الباب وجحظت عيناه وتهيأ للهجوم على الفريسة، لكنه اكتشف أن ناعسة تنام على الكنبة المقابلة، فتراجع، واستدار قاصداً المندرة الكبيرة.
لم تكن ميسم قد أدركت بعد أهمية أن تكبح نهديها بحمالة صدر، وأن تضم فخذيها عندما تجلس، وبدا لهمام أن ساعتها اقتربت، لكن المشكلة: أين؟.
فى المندرة؟.. مستحيل.
فى السراية؟.. ستكون فضيحة.
فى الحوش؟.. بهدلة وقلة قيمة:
■ ■ وين يا همام.. وين يا همام!
للجامع بابان: باب على الشارع وآخر جانبى يفتح على غرفة ألماظ العبد، التى تفتح بدورها على دهليز السراية.
بعد صلاة العشاء دق باب الغرفة فرد ألماظ من الداخل:
■ ■ مين؟..
جاءه الصوت خافتاً على غير العادة:
■ ■ افتح.. انا همام.
انتفض ألماظ مفزوعاً وخرج من الغرفة قبل ان يحكم ارتداء سرواله:
■ ■ العمدة عايزك فى المندرة الكبيرة.
عاد ألماظ إلى الغرفة ليرتدى جلبابه. وقبل أن يخرج طلب همام من نواعم، وكان لا يزال واقفاً أمام الباب، أن تصعد إلى المطبخ لتعد له لقمة لأنه يشعر بالجوع، وستها ناعسة نائمة ولا يريد أن يوقظها. وبذلك لم يعد فى غرفة ألماظ إلا طفلاه سعيد وسدس، وكانا بالطبع يأكلان رزاً مع الملائكة.
دخلت ميسم أولاً. وبينما تعبر الغرفة داست على ذراع أحد الطفلين، لأن الضوء كان ضعيفاً. عافرت لتفتح الباب المؤدى إلى الجامع فلم ينفتح.. لأنه نادراً ما كان يستخدم. طال الوقت، فدخل همام، وفتح الباب، ودفع الفريسة أمامه. كان الجامع مظلماً تماماً، حتى إن ميسم حرنت، ولصقت جسمها بجسم همام لشدة خوفها.. فازداد هياجاً وغلى ماء الرغبة فى عروقه. وعندما أحست وجلت وحاولت أن تفلفص، ضغط على كتفيها فبركت واستسلمت:
■ طالبه الحلال ومرهرقة ع الآخر يا سيدنا!.
ولولا نخزة ألم خدرت روحها وأسالت دماً على صفحتى فخذيها لما فزعت ومرغت وجهها فى حصير الجامع واستحلفته أن يستر عرضها، وكان همام قد أفرغ حمولته، فرفسها وتركها تنهج كالذبيحة.
انكسر قلب فرعام وأحس العمدة بالخجل والحيرة: ماذا يفعل، وكيف يسترضى رجلاً ضاع شرف ابنته الوحيدة؟. من الذى ينبغى أن يُعَاقَب على طيشه: ابنة النصرانى أم ابن عمدة البلد؟. ماذا سيقول أهل الشق عندما تفوح رائحة الفضيحة؟. هل سيُمَرِسُون ذراع همام اليمنى لأنه اغتصب نصرانية؟.. أم سيلعنونه لأنه اغتصبها فى بيت من بيوت الله؟!. ثم - وهذا هو الأهم: كيف يواجه نظرات صديقه بنيامين أبو الخير بعد ذلك؟.
مر شهران وأكثر والعمدة فى حيرة، لا يعرف ماذا يفعل!. فجأة لاحظت ناعسة أن البنت تتقيأ كثيراً، فأخذتها إلى إحدى غرف السراية وأغلقت الباب، وطلبت منها أن تخلع كل ثيابها، فاستجابت ميسم وهى لا تفهم شيئاً. ضغطت ناعسة على أحد ثدييها وتحسست بطنها فأدركت على الفور أنها حامل، فأسقط فى يدها، ولم تعرف ماذا تفعل؟. طال الوقت أم قصر سيعرف فرعام. لابد أن يعرف، ولابد أن يكون هناك حل.. أى حل. المهم ألا يتحول الأمر إلى فضيحة، ولا تتعرض ميسم للأذى.
كان الصمت ثقيلاً كغيمة سوداء: فرعام على كنبة بين العمدة وبنيامين وقد تقوس ظهره وثقل جفناه وانعقد لسانه، وعلى الكنبة المقابلة جلس سيدنا صامتاً وقد أغمض عينيه وعقد أصابع يديه عند سرته. لا أحد يستطيع أن يتكلم، لا العمدة ولا بنيامين ولا غيرهما، إلا إذا تكلم سيدنا. وإذا تكلم سيدنا فالكلمة سيف:
■ ميسم تتّاوى فى جبانة المقام لغاية ما تولد، والمولود يتربى فى عز بيت الدكر، وهمام يتلجم.
رحب العمدة باقتراح سيدنا، ووافق بنيامين على مضض. أما ناعسة فقد بدأت تبحث لهمام عن زوجة لا تليق بمقامه فحسب.. بل تشبعه وتحوط عليه.
■ هامش
- الردمة: مكان مرتفع يستخدم كحديقة نخيل أو فاكهة أحياناً، والكلمة مشتقة من فعل «ردم»
- مرهرقة: أصابها هزال وضعف، بسبب عدم تلبية احتياج حسى أو جنسى
- يمرسون: يدلكون ذراع الشخص إعجاباً وتقديراً وتشجيعاً
بخواجى وديع باسيليوس
لم يكن الحاج عمران فزاع فى حاجة إلى أكثر من ساعتين أو ثلاث ليفهم أن بخواجى وديع باسيليوس ليس نصرانياً عادياً. كان قد اختلف مع شقيقه الأصغر «عونى» تاجر المانيفاتورة، على صفقة قماش قطيفة. الحاج عمران يقول إنه طلب لفة واحدة بلون كحلى سادة ذى «بُطَش» واسعة من اللون نفسه، وعونى يشب ويقطع ويقسم بالمسيح الحى أنه طلب ثلاث لفات مضلعة زيتية اللون.
احتكم الاثنان إلى بخواجى، وبقدر ما شعر بالخجل والاستياء من جشع أخيه واتساع ذمته والقسم كذباً بالمسيح الحى، لمجرد أن ريقه جرى على فرق السعر بين السادة والمضلع، ولم يكن يزيد على ثلاثة جنيهات فى الصفقة كلها كان يشعر بأن الحاج عمران على حق: رجل يقترب من الستين لم يترك نجعاً أو قرية أو مدينة فى مديرية جرجا إلا باع فيه أو اشترى. ولفرط أمانته ودماثة خلقه خلع عليه أهل الربوة لقب «حاج»، وهو الذى لم تلمس يداه شباك الحبيب المصطفى، ولم تطأ قدماه أرض الحجاز.
تعاطف بخواجى مع الحاج عمران وأرغم عونى على تلبية طلبه، فقرر الأخير إنهاء كل ما بينهما من معاملات تجارية، وبذلك خسر الحاج عمران واحداً من أكبر وأشهر موردى قماش العائلات المحترمات فى مديرية جرجا، وأهدر الكثير من الوقت والجهد قبل أن يعثر على تاجر جملة آخر، لكنه فى المقابل كسب صداقة بخواجى:
* إيه رأيك يا مقدس.. ما تخش معانا بالتلت؟
كان الاثنان يجلسان على دكة إلى جوار باب ورشة خراطة نجواجى من الخارج، وكان «عزت» الابن البكرى لبخواجى منهمكاً فى عمله عندما لاحظ بطرف عينه أن كحة أبيه طالت زيادة على اللزوم، فتوقف عن العمل وظل يتابعه حتى تخلص من البلغم المنعكب على مراوحه:
* إنتو مين.. وتلت فى إيه؟
انفرجت أسارير الحاج عمران:
* أنا والعمدة نوينا على ببور طحين.
لم يتحمس بخواجى فى بادئ الأمر، ونام المشروع بضعة أشهر قبل أن يعزمه الحاج عمران على الغداء، بحضور شقيقه «محمود» مأذون القرية والعمدة عبدالجواد الدكر، وسعد الناحل، زوج ابنته ثريا، وشيبة الحمد، كبير المساليب، بالإضافة إلى سيدنا. وبينما يتناول الحضور شاى ما بعد الغداء سأل العمدة:
* إيه أخبار الببور يا حاج عمران؟
فابتسم وقال وهو ينظر إلى بخواجى:
* من جهتى أنا جاهز.
استطرد العمدة معقباً:
بس أنا ما ليش فى حكاية البوابير دى.. ولا فاضى لها.
التقط بخواجى الطعم وقال متحدياً:
خلاص.. أنا جاهز بالنص مش بالتلت.
لم يكن سهلاً على هولندة فرج عبدالشهيد، زوجة بخواجى، أن تتخلى عن نمط الحياة، الذى تعودت عليه فى ساحل طهطا، لذا ما إن علمت أن العمدة والحاج عمران طلبا من بخواجى بيع ورشة الخراطة والتفرغ لمشروع الببور، وهو ما يعنى أنه سيضطر للإقامة فى الربوة بصفة نهائية، حتى فزعت وحرنت وشبت على أطرافها، فتراجع بخواجى عن فكرة بيع الورشة، وقرر إسناد مهمة إدارتها لعزت، وكان قد تزوج واستقر فى الساحل، فضلاً عن أنه أكثر دراية بأسلوب عمل الورشة من شقيقه ناروز.
وبما أن شقيقتهما فايزة تزوجت هى الأخرى وأصبحت لها حياتها المستقلة، فإن أمر انتقال هولندة وناروز إلى الربوة لم يعد يقبل المناقشة: هى ترعى نجواجى.. وناروز يساعده فى إدارة الببور، لكن هولندة لم تقتنع ولم تجد بداً من رفع شكواها إلى سلفها عونى.
كان عونى أكثر عنصرية واعتزازاً بمسيحيته من بخواجى، وكانت نصيحته الدائمة لشقيقه الأكبر ألا يعطى أماناً لمسلم، مهما كان كريما أو متسامحاً أو عادلاً، فساعة الجد سيكون المسلم صاحب البيت، وسيكون القبطى «شخة قطة»، وإذا اشتعلت فتنة بين المسلمين والنصارى سيكون بخواجى نفسه أول من يحترق بنارها، لأنه غريب عن البلد، لكن بخواجى تجاهل تحذيرات عونى، وسدد عينيه الجاحظتين فى وجه هولندة وهو يبلغها بأنها ستأتى معه ورجلها فوق رقبتها. وخلال شهر كان ثلاثتهم قد حلوا ضيوفاً على الحاج عمران، لحين تجديد وتأثيث البيت الذى وهبه له العمدة.
أعاد بخواجى بناء وتأثيث البيت بحيث يصبح مهيئاً لإقامة دائمة. الطابق الأرضى أصبح غرفتين مستقلتين بعد أن كان مجرد صحن مهمل وشونة معتمة. الشونة فتح لها نافذة صغيرة تطل على الشارع وسدها بباب من ضلفة خشبية واحدة عريضة وخصصها لخزين البيت، والصحن تحول إلى مندرة لاستقبال الضيوف، تتصدر جدارها المواجه للباب صورة كبيرة ملونة لسيدة شابة ذات ملامح ملائكية ناعمة، يقول إنها «ستنا مريم العذراء»، بينما الطفل الذى يرقد فى حضنها آمناً هو السيد المسيح، أما الغرفتان اللتان تشغلان الطابق العلوى فخصص إحداهما للنوم والأخرى للمعيشة، ودهن جدرانهما بالأبيض السكرى، بينما دهن جدران غرفة المندرة باللون السماوى، وترك غرفة الخزين على الطوب الأحمر.
وزيادة فى الرفاهية فرش أرضية البيت بالأسمنت، وثبت فانوساً صغيراً فى الواجهة، يضاء قبيل الغروب ويُطفأ بعد صلاة العشاء، ولكى يظل فرش المندرة نظيفاً وضع أسفل الفانوس دكة بمسندين ومخدتين صغيرتين وفرشية من صوف الغنم لاستقبال ضيوفه العابرين. ويوماً بعد يوم ازدادت قدماه رسوخاً فى أرض البلد، واعتاد أهله رؤية البرص الذى يتريض حول الفانوس فور إضاءته، ويأبى بخواجى أن يقتله.. بحجة أنه يتغذى على الناموس.
لم يعد بخواجى يشعر بأنه غريب، ولم يعد أهل البلد يشعرون بأنه نصرانى. وزاد العمدة فأرسى تقليداً صارماً بأن يكون الإفطار فى رمضان على صفارة الببور، وليس على آذان المغرب. ولم تكن مندرة بيت الدكر تتلألأ فى ليالى رمضان إلا إذا كان بخواجى حاضراً: بخفة ظله، وسخرياته اللاذعة، ولهجته الطهطاوية الممطوطة.
سأل العمدة حسنين عبدالحق ذات يوم عن سبب إصراره على وضع الفلوس جنب محاشمه فلم يرد، فتطوع بخواجى وقال متهكماً:
* ودى عايزة سؤال برضه يا عمدة!.. عشان تولد طبعاً.
ثم طلب العمدة من بخواجى أن يحكى للرجالة حكاية حسنين مع غبريال العساس فأحس بالحرج، لأنه كان قد حكاها له على انفراد، ولم يكن يقصد من وراءها سخرية، بل ليتدخل قبل أن ينفذ حسنين تهديده ويقتل غبريال بالفعل، لكن عبدالجواد أصر وأقسم بالمسيح الحى أن يحكى وإلا أبلغ ناعسة عن عملته السوداء عندما قرص بخيتة معبد عبدالحق فى فخذها وهى تتلقى طحينها.. وكان بخواجى يحسب لناعسة ألف حساب، ويقف أمامها وهو لا يكاد ينظر فى عينيها.
الحكاية باختصار أن غبريال دفس ذراعه اليمنى من الكف إلى الزند فى حياء جاموسة حسنين ولغوص فى جوفها دقائق، ثم سحب يده مهللاً وبارك عشرها وقبض الحلاوة وانصرف. وفى الموعد المحدد ولدت الجاموسة توأماً، فتصور حسنين أن غبريال هو الذى بارك عشرها وأنه رجل واصل. وبعد بضع سنوات تكرر الأمر مع البقرة، لكنها وضعت عجلاً ميتاً، فذهبت كرامات غبريال أدراج الرياح، وأصر حسنين على أن «شخة القطة» هذا هو الذى خنق العجل فى بطن أمه، ورأسه وألف سيف أن يقتص للعجل من غبريال:
* يخرب بيت دورك يا بخواجى.. دا إنت كاينة!
أخذ الحضور كفايتهم من الضحك فتدخل الشيخ محمود فزاع واستهل فاصلاً من القرآن ليختم الليلة، فلملموا شتاتهم وساد وقار لم يقطعه سوى دخول ألماظ العبد بصينية السحور. وبينما يتناول العمدة شايه ويستعد للنوم شرد وقال كأنما يكلم نفسه:
* قلبى يحدثنى بأن هذا الرجل سيموت قبل الأوان.
استغفرت ناعسة وطلبت منه أن يسحب الغطاء على وجهه، ثم داس سلطان النوم على رأسها وبدأ شخيرها يعلو، بينما بقيت عينا عبدالجواد مفنجلتين وقد راح يبحث فى عتمة الغرفة عن تفسير لإحساسه هذا.
يضطر بخواجى، فى العادة، إلى النزول تحت طبلية واسعة ترتفع مترين على أرضية الببور، وتنتصب فوقها ثلاثة قواديس ضخمة. كل قادوس يتكون من حجرين مستديرين، قطر كل منهما متر ونصف المتر، وسمكه أربعون سنتيمتراً، ويتحركان فوق بعضهما عكسياً فيما يشبه الرحى، ويعملان من خلال مجموعة من التروس تختبئ تحت الطبلية، وتتصل عبر سير طويل من الكاوتش يصل سمكه إلى سنتيمترين وعرضه إلى حوالى ثلاثين سنتيمتراً، بحدافة عملاقة، وهى طارة صلب قطرها أربعة أمتار تقريباً.
وعندما يكون مطلوباً تشغيل قادوس أثناء عمل الببور، ينزل بخواجى تحت الطبلية مصطحباً خلف تكفا، ويلبد الاثنان بين التروس وهى تعمل بضع دقائق. ثم يخرج خلف ويظل ممسكاً بذراع الملاوينا، وهى شريحة طويلة من الصلب تتحكم فى تحريك التروس ويظهر طرفها خارج الطبلية، إلى أن يأتيه صوت بخواجى من الداخل: «ملاوينا»، فيحرك الذراع يميناً أو يساراً فى اتجاه القادوس الذى سيتم تشغيله.. وكان تحريك الذراع قبل صيحة «ملاوينا» يعنى وقوع كارثة.
* هامش
- بطش: «بضم الباء وفتح الطاء».. جمع بطشة، وهى نقشة فى ثوب المرأة بنفس الفتلة واللون.. لكن ملمسها بارز
- سلفها «بكسر السين»: شقيق زوجها
- حياء الجاموسة: مهبلها
- كاينة: أحياناً تعنى «داهية» كما هى هنا، وأحياناً تعنى «عبيط» أو «غشيم»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.