التنمية المحلية: تسليم محطة الفرز الأولى للمخلفات الصلبة بنويبع لمحافظة جنوب سيناء بتكلفة 4 ملايين جنيه    تصدير 859 حاوية مكافئة من ميناء دمياط    شكري ووزراء خارجية 4 دول عربية يجتمعون مع بلينكن لبحث مسار وقف الحرب في غزة    عاجل.. توخيل يتحدى ريال مدريد بتصريحات نارية    مفاجأة.. تغريم نجم الأهلي 100 ألف جنيه لهذا السبب    استمرار حبس عاطل لحيازته مخدر البودر في كرداسة    الصين تشارك بتسعِة أجنحة في معرض أبوظبي الدولي للكتاب ال33    العقاد يدعو لضرورة مشاركة القطاع الخاص فى تقديم الخدمات الطبية ب«التأمين الشامل».. فيديو    عبد الرازق يرفع الجلسة العامة لمجلس الشيوخ    صحتك تهمنا .. حملة توعية ب جامعة عين شمس    وزير النقل يبحث إنشاء مصنعين في برج العرب بالإسكندرية مع ألستوم الفرنسية    تأجيل محاكمة المتهمين في حادث قطار طوخ إلى شهر يونيو للمرافعة    تنظيم ندوة عن أحكام قانون العمل ب مطاحن الأصدقاء في أبنوب    أخبار الفن.. أول ظهور ل أحمد السعدني بعد وفاة والده.. ممثلة لبنانية شهيرة ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان    خالد جلال يعقد اجتماعا لمناقشة خطة الموسم الجديد للبيت الفني للمسرح    دينا الشربيني ضيفة كلمة أخيرة غدًا    النشرة الدينية .. أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة .. "خريجي الأزهر" و"مؤسسة أبو العينين" تكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين    أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة.. سهلة وبسيطة    حصيلة مبدئية.. مق.تل 42 شخصا داخل كينيا في انهيار سد بسبب الأمطار    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل المرحلة الأخيرة    مقترح برلماني بدعم كليات الذكاء الاصطناعي بالجامعات الحكومية -تفاصيل    إيران: وفد كوري شمالي يزور طهران لحضور معرض تجاري    بعد أنباء عن ارتباطها ومصطفى شعبان.. ما لا تعرفه عن هدى الناظر    باركود وتعليمات جديدة.. أسيوط تستعد لامتحانات نهاية العام    وزير التجارة : خطة لزيادة صادرات قطاع الرخام والجرانيت إلى مليار دولار سنوياً    "البحوث الإسلامية" يطلق حملة "فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا" بمناسبة عيد العمال    وزير المالية: نتطلع لقيام بنك ستاندرد تشارترد بجذب المزيد من الاستثمارات إلى مصر    الصين فى طريقها لاستضافة السوبر السعودى    عضو مجلس الزمالك يعلق على إخفاق ألعاب الصالات    رئيس الوزراء الإسباني يعلن الاستمرار في منصبه    أمير الكويت يزور مصر غدًا.. والغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يحتذي به    تجليات الفرح والتراث: مظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم 2024 في مصر    شروط التقديم في رياض الأطفال بالمدارس المصرية اليابانية والأوراق المطلوبة (السن شرط أساسي)    حكم رادع ضد المتهم بتزوير المستندات الرسمية في الشرابية    المشدد 5 سنوات والعزل من الوظيفة لرئيس حي السلام ومهندس بتهمة تلقي «رشوة»    مقترح برلماني بدعم كليات الذكاء الاصطناعي بالجامعات الحكومية    «للمناسبات والاحتفالات».. طريقة عمل كيكة الكوكيز بالشوكولاتة (فيديو)    عامر حسين: الكأس سيقام بنظامه المعتاد.. ولم يتم قبول فكرة "القرعة الموجهة"    إزالة 22 حالة تعديات على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة بالشرقية    بث مباشر.. مؤتمر صحفي ل السيسي ورئيس مجلس رئاسة البوسنة والهِرسِك    «القومي لثقافة الطفل» يقيم حفل توزيع جوائز مسابقة رواية اليافعين    «التضامن»: دعم مادي وتوفير فرص عمل لذوي الاحتياجات من ضعاف السمع    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    "سنوضح للرأي العام".. رئيس الزمالك يخرج عن صمته بعد الصعود لنهائي الكونفدرالية    مركز تدريب "الطاقة الذرية" يتسلم شهادة الأيزو ISO 2100: 2018    السيسي عن دعوته لزيارة البوسنة والهرسك: سألبي الدعوة في أقرب وقت    إصابة عامل بطلق ناري في قنا.. وتكثيف أمني لكشف ملابسات الواقعة    عواد: كنت أمر بفترة من التشويش لعدم تحديد مستقبلي.. وأولويتي هي الزمالك    الأنبا بشارة يشارك في صلاة ليلة الاثنين من البصخة المقدسة بكنيسة أم الرحمة الإلهية بمنهري    بالاسماء ..مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    أسوشيتد برس: وفد إسرائيلي يصل إلى مصر قريبا لإجراء مفاوضات مع حماس    إصابة 3 أطفال في حادث انقلاب تروسيكل بأسيوط    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    لهذا السبب.. ريال مدريد يتخلى عن نجم الفريق    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الاثنين 29-4-2024 بالصاغة بعد الانخفاض    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصرى اليوم تنشر رواية «بيت الدكر» للكاتب الصحفى محمود الكردوسى (8) برزخ

هو حاجز بين شيئين.. وأرض بين بحرين.. ومسافة بين الموت والبعث.. فمن مات فقد دخل فيه  «برزخ»
(1)
ارمى حمولك على صاحب المقام
وعددى.
مزقى قلوبهم بالعديد..
والضمى دموعهم عقد حزون..
يتلألأ على رخام صدرك
عيشى بينهم ميتة
لا تبتسمى ولا تغضبى
لا تقتربى.. فيرونك على حقيقتك
ولا تبتعدى.. فيرمون طوبتك!
أول ما وطأت كلثوم أرض الربوة كانت قد تجاوزت الخامسة والعشرين من عمرها. كان بطنها منتفخاً بثمرة مجهولة، وكان ثدياها متوترين بفعل الحمل، ولم يكن قد بقى من البنت التى هجت من جبروت شيبة الحمد قبل ثمانية أعوام تقريباً، سوى عينين ذليلتين مؤرقتين، وجسد منحول، وآثار خدوش على فخذيها وصفحة صدرها وجانبى رقبتها.
كان سيدنا عائداً من سهرة فى مندرة بيت الدكر عندما وجدها مكومة إلى جوار عتبة المقام. وكانت قد هيأت نفسها للقائه برواية مفبركة خلاصتها أنها تزوجت شاباً يحبها من قرية تسمى «سلام العُدُر». وذات يوم تشاجر زوجها مع عمه، وانتهت المشاجرة بقتل الزوج الشاب، فشهدت بالحق، فقرر أبناء العم قتلها، لكنها طفشت قبل أن ينفذوا قرارهم. وعندما جلست بين يدى سيدنا وركز عينيه فى عينيها أحست أن صوتاً آخر يتسلل من أعماقها، بينما هى عاجزة عن السيطرة عليه.
قالت إنها كانت تشعر بالقرف والحيرة وهى تشاهد كلاب السكك تعبث فى جسم أمها «مزدانة»، لذا ما إن بلغت وانفجرت مفاتنها حتى تملكها إحساس بأن جسدها هذا خُلِقَ للفرجة وليس للمتعة، فقمعته، ولم تسمح لمخلوق أن يلمسه أو ينتهك حرمته حتى كامل. وقالت إن كامل هو الوحيد الذى أحبها وأحبته منذ اندلعت فى قلبيهما شرارة المعرفة، حتى إن ضاحية مرت شيبة الحمد كانت تبتسم وتتمتم كلما شاهدتهما:
■■ عُليقة واتلفت على قمحاية!
واعترفت كلثوم أنها هى التى اقترحت على كامل، بعد علقة الموت التى أكلتها من شيبة الحمد، أن يبلغه بوجود علاقة آثمة بينها وبين أديب أبو الخير، وأن يستأذنه فى قتلها بدلاً منه، ثم يضع جثتها فى جوال أو تابوت ويلقيه بنفسه فى البرهمية، وكانت تلك هى الطريقة الوحيدة للخلاص من جحيم العيش فى كنف هذا الطاغية:
■■ واللى ف بطنك؟
قالت كلثوم إنها ذهبت إلى مولد سيدى الفرغل ظناً منها أن رزق الموالد سهل ووفير. وكانت تريد فى الوقت نفسه أن تختبئ من ماضيها فى زحام الوجوه، لكنها وقعت فى براثن امرأة نافذة تُدعى «ورد النار».. هى فى الحقيقة أقرب إلى زعيمة عصابة رغم ما يبدو عليها من ورع، ورغم حرصها على تأدية فروض الصلاة فى مواعيدها.
وقالت إن كل رواد المولد، رجالاً ونساء، كانوا يهابون هذه المرأة ويحسبون لغضبها ألف حساب. وعندما أبلغتها أنها ستعمل غازية رفضت فى البداية، لكن بائع بخور وكتب سحر يدعى «عبدالراضى» نصحها بالموافقة، وطلب منها ألا تفكر فى الهرب لأن ذراع «ورد النار» طويلة، ورجال عصابتها لا يرحمون. وقد أدركت ورد النار من البداية أنها وقعت على لقية، فكانت تحرص عقب انتهاء مراسم الاحتفال بالمولد على اصطحاب كلثوم وكامل للإقامة معها فى بيتها فى قرية «سلام العُدُر»، جنوبى مدينة أسيوط، لذا كانت تستولى على حصيلة عمل كلثوم أولاً بأول:
■■ برضك ما قلتيليش.. اللى ف بطنك ده من مين!
تمخطت كلثوم وكفكفت دموعها، وقالت إنها قررت ذات يوم أن تنفد بجلدها من هذا الجحيم، واتفقت مع كامل على ذلك، وكان «عبدالراضى» الوحيد الذى يعرف. لكنها فوجئت قبل يومين من انتهاء المولد بثلاثة ملثمين يقتحمون خيمتها قبل صلاة الفجر، ويكممونها، ويوثقون ذراعيها من خلاف، ثم يضعون رأسها فى كيس قماش أسود ويحملونها إلى مكان مجهول. وهناك ظلوا يتناوبون اغتصابها، ويعبثون فى جسدها حتى فقدت الوعى.
وعندما أفاقت وجدت نفسها ممددة فى حقل ذرة وقد تحرر ذراعاها وفمها، ونُزِعَ كيس القماش من حول رأسها، لكن ملابسها كانت ممزقة. لملمت شتاتها وهى ترتعش وحاولت أن تصلب طولها فتناهت إليها أصوات زمجرة، وإذا بها تتوسط قطيعاً من الذئاب يجلس كل منها على عكة ذيله بينما عيناه لا تفارقان عينيها. ولحسن الحظ أنها تذكرت فى تلك اللحظة أن ضاحية مرت شيبة الحمد كانت تقول لها وهى صغيرة إن الذئب لا يهاجم إنساناً إلا إذا شم رائحة خوفه، فتماسكت وظلت ثابتة فى مكانها حتى تبدد الظلام، وتململ الكون من حولها، فانصرف قطيع الذئاب واحداً تلو الآخر.
كان سيدنا قد تركها تحكى، وتسلل إلى ديوان المقام، ولم يكن يفعل ذلك سوى مرتين فى السنة: الأولى بعد حصاد القمح والثانية بعد جمع القطن. كان الديوان مظلماً تماماً، إذ كان دخول سيدنا هذه المرة على غير موعد. خلع حذاءه، وأضاء شمعة، ثم اقترب رويداً رويداً من «السرة»، وهى تخت خشبى مستطيل، ينتصب بارتفاع متر ونصف المتر فى قلب الديوان، وزُينَت حوافه العليا بإطار من منحوتات خشبية صغيرة، بينما حُفِرَت على جوانبه بخط الثلث أربع كلمات، لا تُفهَم إلا إذا قُرِئَت فى عكس اتجاه عقارب الساعة: «سركم.. سريرتى.. وسيرتى.. سريركم».
وقف سيدنا يتمتم خاشعاً، مغمض العينين، أمام سرة الديوان، ثم قرفص وفتح شراعة صغيرة فى أحد جوانبها، ومد يده محاذراً. كانت السرة تمتلئ بالأوراق القديمة: حجج بيوت وعقود قسمة وملكيات وخرائط أرض وأنساب وكشوف مديونيات وإقرارات والتماسات وكمبيالات، وحتى خطابات شخصية. إنما لم يكن فيها سوى كتاب واحد.. هو «كتاب الحزن».
اقترب سيدنا من ضوء الشمعة، وراح يقلب فى صفحات الكتاب حتى عثر على ضالته:
الحكاية أن «سلام العُدُر» نفحة من تاريخ أسيوط. وأسيوط فى قاموس جوتييه تعنى «سيوت»، وهو اسم قبطى قريب من الاسم المصرى القديم «سوات». وفى معجم الحضارة المصرية القديمة «وبواوت»، أى «حارس الطريق». وقد أخطأ علماء الحيوان عندما خلطوا بين «ابن آوى» (الذى ليس له وجود حقيقى فى مصر) وذلك النوع من الكلاب الجائلة المعروف علمياً باسم «كانيس لوباستر»، أى الكلاب الذئبية أو البرية. والأرجح أن الروم أطلقوا على أسيوط «مدينة الذئب» لهذا السبب.
وقد كانت هذه السلالة الأرستقراطية المنبوذة بمثابة الصورة الأرضية لإله أسيوط، أى «حارس الطريق». ولما كان إخوة هذا الحيوان البرى يجولون فى أطراف الهضبة الجافة وفى وادى النيل فقد ساد الاعتقاد بأنه التمثيل الحقيقى ل»أنوبيس»، أى «ابن آوى». والثابت فى الميثولوجيا المصرية أن «ابن آوى» هو الإله الجنائزى، محنط الموتى ومرشدهم، أى الذى كان يحمل الأرواح ويسير بها فى الطريق المؤدية إلى الصحراء. وقد ألبسه الفنان القديم، وكذلك بقية الكلاب الجنائزية الأخرى، أثواباً تشبه «الراتينج الأسود» الذى كان يستعمل فى التحنيط. وهكذا أصبح الأسود لون البعث وليس الحداد.
وعندما عاد سيدنا إلى كلثوم تأملها قليلاً واقترب من وجهها، ثم قمط شعرها بطرحة شيفون سوداء، وطلب منها أن تصبغ كل ملابسها بالأسود، وتدفن مفاتنها فى قطيفة فضفاضة بنقش كحلى خفيف يصعب ملاحظته بالعين المجردة، وقال مبشراً:
■■ مستورة.. مستورة ومصانة ببركة صاحب المقام.
عاشت كلثوم خمسة أعوام تقريباً تحت حماية صاحب المقام وفى كنفه، أنجبت خلالها ولداً سماه سيدنا «عطية الغضب» لأنه كان طفلاً نكدياً كثير البكاء، وأبى إلا أن يعيش عِلة على قلبها لكى لا تنسى. أما كلثوم فقد تمنت له الموت، وضبطت نفسها أكثر من مرة تفكر فى التخلص منه، إلى أن فاجأها سيدنا بحل نهائى لتلك المشكلة.
وضع رأس عزيز فى حجره، ووضع كفه تحت إحدى أذنيه، ثم تمتم بكلام غامض غير مفهوم، وسحب يده وفردها أمام كلثوم فانخلع قلبها، إذ كان كف سيدنا ممتلئاً بدود أخضر برسيمى فى حجم دود المش:
■■ إيه ده يا سيدنا!. ده لو الدود ده فى راس عجل علف كان طرشق!.
أصبحت كلثوم لفرط عزلتها كنبات الظل، وأصبح الحزن شالاً رقيقاً حول وجهها، يضفى عليه جلالاً وغموضاً. كانت ترسم شخابيط بلا معنى، وتطبق الورقة بضع راقات محسوبة بالعدد، ثم تحيك حولها قطعة فى حجم كف اليد من قماش العبك، وتلقى بها من طاقة المقام حجابا نافذاً فى حجر زائر هده اللهف وكدر العيش، فبرك فى الأرض. ومن حين إلى آخر تدندن ب«عدودة» سرعان ما تخبئها فى عبها، حتى تأكد لسيدنا أنها بلغت مرتبة «الشلاية»، أى شاعرة الجنائز، فأغمض عينيه، وحط يسراه على رأسها، وقال ويمناه مفرودة إلى أعلى:
■■ اخرجى إذن على الناس.
(2)
■■ مدد يا حلفاوى.. مدد
كانت الشمس تنحدر نحو الغروب وبدأ صهدها ينحسر، فتشجعت عسكرية، وصعدت إلى سطح السراية لتلم الغسيل. كان بطنها فوق مناخيرها، وكان رفس الجنين فى ذلك اليوم ينذر باقتراب موعد نزوله، إذ كان أشد ضراوة وإلحاحاً من ذى قبل.
لمت عسكرية جزءاً من الغسيل ثم اشتد طلقها، فتركت بقيته لنواعم العبدة وانصرفت قبل أن تضع المولود على السطح. الغسيل على ذراعها وكتفها، وآلام الطلق تتزايد.. لكنها عاندت وواصلت نزولها. بعد أربعة سلالم ثقل عليها جسمها. ندهت على نواعم فلم تسمع، ففرشت الغسيل على بسطة السلم وتسولت مدداً من الحلفاوى وحزقت. مكنت يدها من طرف سيخ حديد يبرز من خرسانة السلم ودقرت قدمها فى الدرابزين وحزقت. فتلت بشكيراً وأطبقت عليه فكيها وعضت وحزقت.
صفت دماغها وكتمت نَفَسَها وعصرت جسمها وعضت ثم حزقت مرة واحدة وغابت عن الوعى فراحت الصور تتلاحق: محمد عبدالوهاب، بوجهه المستدير كالرغيف، وعينيه الرائقتين، وطربوشه المحندق، وبدلته الأنيقة، يناجى فتاة ذات شعر مجعد ورموش طويلة: «القمر يا محلا نوره». حلزونات عملاقة تسير بالكهرباء. فساتين فاضحة وأخرى مقموطة على مفاتن مانيكانات شملا وشيكوريل. بنات وشبان تعانقت أياديهم فى حديقة أسماك الزمالك. فسحة الحنطور بين العصر والمغرب على كورنيش النيل. وقفة عمها حسن بك السيوفى ساعة كاملة أمام المرآة وهو يفتل شاربه. روائح البخور وسبح المجاذيب الطويلة وشباك سيدنا الحسين..
عندما أفاقت كانت على سريرها والمولود إلى جوارها فى طول قالبى طوب وقد راح فى سبات عميق. ندهت على نواعم بصوت مهدود فلم ترد.. كانت قد سبقت الجميع وذهبت إلى المندرة لتزف الخبر إلى سيديها همام والعمدة، هرول همام إلى السراية ونواعم فى عقبيه. اقتحم الغرفة، فوجد عسكرية مسنودة على سور السرير والمولود منكب على ثديها. أطلقت نواعم زغرودة مدوية وهتفت:
■■ ولد يا سيدى.. ولد.
حط همام مقعداً أمام دولاب الهدوم وصعد ومد يده إلى سطح الدولاب وسحب البندقية وهرول إلى سطح السراية وأطلق وابلاً من الرصاص. انقبض قلب عبدالواسع ولف المغزل وصرة الصوف فى قطعة خيش، وضعها فى طاقة صغيرة فى جدار المجاز، وسحب الزقلة من وراء البوابة وخرج قرفاناً لا يلوى على شىء.
كانت فاخرة مقرفصة تحت الجاموسة، تعصر حلماتها الأربع التى تشبه قرون الويكة الشائخة واحدة تلو الأخرى، لتحننها. ورغم أن القرفصة تلهب ركبتى فاخرة بسبب آلام الروماتيزم فإنها مجبرة، لأن الجاموسة لا تسمح لمخلوق آخر أن يلمس ضرعها. وعندما انتهت من الحلب سندت ركوة اللبن بهدوء على كانون مطفأ، ثم ملأت سطلاً صغيراً وطلبت من سمانى أن يوصله إلى هضبة، لأن جاموستها غرزت، أى لم تعد تدر لبناً، إذ كانت فى شهور عشرها الأخيرة، وابنها عبدالطاهر يسب لها الدين على الصبح ويجرسها إذا لم يفطر طبيخ بياض:
■■ خلى مخيمر يوديه.. أنا لا فيا مخ لهضبة ولا لحكاويكم الفاضية.
ردت فاخرة وهى تربط خرقة القماش حول فوهة السطل:
■■ مخيمر هايزقى وبايت فى الغيط. وابوك زى ما شفت.. سمع ضرب النار اتعفرت وطلع يجرى.. وحانز نامت.
ثم وضعت السطل إلى جواره وقالت مؤنبة:
■■ انت يا ولدى ما ليكش عازة. من يوم ما جيت من اسكندرية وانت لا سارحة ولا مروحة!.
كان سمانى قد قضى آخر سنة من خدمته العسكرية فى معسكر قرب العلمين، وخلال هذه الفترة لم يستطع أن يسافر إلى الربوة بسبب ظروف الحرب، إذ كان السفر يحتاج إلى يومين ذهاباً وإياباً، والإجازة لا تتجاوز اثنتين وسبعين ساعة فى أحسن الأحوال، وهكذا أصبح سمانى ضيفاً دائماً على صديقه السكندرى وزميله فى المعسكر إبراهيم توفيق. وبفضل إبراهيم وقع سمانى فى هوى الإسكندرية: بحرها، وبناتها، ومقاهيها، ومطاعمها، وجفصت نفسيته من الربوة، حتى إنه تلقى خبر انتهاء مدة خدمته بخليط من المشاعر الغامضة: فرحة الرجوع، ومرارة الفراق، والخوف من الأيام القادمة.
عندما عاد سمانى إلى الربوة بدا كل شىء غريباً فى عينيه. الوقت بطىء.. بل ميت، والحياة راكدة، خالية من أى متعة. لا بحر ولا مقهى. لا أصدقاء ولا مغامرات ولا بنات يعمن على وش الأرض كالسمك الصاحى. لا شىء سوى صوت عبدالواسع يتسلل من خارج البوابة:
بقرة وتجرى ورا بو
مكبوس م التبن شايح
وايشحال اللى ما له خو
كب الزرد ع الشرايح
احتاج سمانى إلى وقت طويل ليتخلص من إحساسه الخانق بأن كل الأشياء التى تربى عليها وألفها فى الربوة، لم تعد كما كانت. إحساس بالاغتراب والزهق وعدم القدرة أو الرغبة فى التواصل مع ما حوله ومن حوله.
أكثر من خمسة أشهر منذ أنهى خدمته العسكرية والإسكندرية تخايله. أكثر من خمسة أشهر وهو يحاول استعادة توازنه، ويجتر مغامراته خلال فترة التجنيد، وفى كل مرة يرش على وش الحكاية بعض الفلفل الأحمر: البنت التى رآها شبه عارية على شاطئ البحر فى الحكاية الأولى، راودته عن نفسه وصدها فى الحكاية الأخيرة. الضابط الإنجليزى «جاك» الذى هراه تذنيباً وزحفاً أصبح صديقه، ووعده بزيارة الصعيد بعد انتهاء الحرب ليتعرف على آثار الفراعنة. العيال الذين خطفوا طاقيته الميرى من على رأسه وهو يتمشى على الكورنيش، ترك فى جسم كل منهم عاهة مستديمة.
أطنان من الحكايات الملفقة، كأنما يحاول أن يحتمى بتلك اللحظات الجميلة من التورط مرة أخرى فى هذا العفن: رائحة الكنيف تقرف الكلب الجربان. طعم عيش القيضى كطعم التراب إذا كان بارداً، والمقمر منه شبعان رماد. ماء الزير عادم ودافئ كسليقة قافرة، أى بلا لحمة، ويسرح فى قعره الرترات. فاخرة هدها الهم والمرض، وبركت مثل سقف بوص فى شونة معتمة، بينما أصبحت «هضبة».. اسماً على مسمى، إذ تضخم ثدياها وتقببت مؤخرتها وزحف القشف على ظهرى يديها. وإسماعيل ما زال دهلاً، وزاده حمل الأرض وببور الطحين عفناً ودهولة. والكلب أصابه سعار، وأصبح ينبح لسبب ولغير سبب. والجاموسة تتقلب فى لجة روث قطرها ثلاثة أمتار على الأقل.
سيطر اليأس على سمانى وأدرك أنه يحارب طواحين هواء، فعاد إلى حلمه الجميل.. حلمه الذى هون عليه خمسة أعوام من الضرب على القفا، وتنظيف حمامات القشلاق والزحف على البطن، والعيش أبو رملة، والفول أبو سوس، والوقوف ساعات فى عز الصهد والصقيع. خمسة أعوام قضاها يتخيل ويرسم، وفى كل طلعة شمس يضع فى اللوحة خطاً أو لوناً، ثم يتأمل نفسه من بعيد ويتمتم: «يا سلام يا واد يا سمانى».. حتى اكتملت اللوحة: متعهد توريد خضار إلى معسكرات الجيش. عساكر الجيش وهو سيد العارفين، مستهلك مضمون، يأكل الزلط، والفلوس حاضرة على الدوام.
فى الطريق يتزوج بنتاً من بحرى، من الدلتا أو الإسكندرية. بنتا بيضاء، قوامها طرى كالخروف الطايب وكلامها مايص كالسمنة البلدى. وعندما تصبح الفلوس نهراً تحت قدميه يعود إلى الربوة معززاً، مكرماً، مرفوع الرأس، يهرول فى عقبيه موكب نفاق لا يقل أبهة عن موكب سيدنا. يوزع الحسنات ويبنى لهؤلاء الكلاب جامعاً بقبلتين، حتى إذا تخاصموا لم يعطلوا شرع الله. ثم يرفع بيتاً على الجسر، بيتاً من طابقين أو ثلاثة، ذا بوابة حديدية مخيفة، ومجاز مسفلت، يحرسه كلب شرس مربوط فى رجل دكة ذات فرش وثير وشرفة مقوسة فوق الواجهة وتراس فى الخلف يطل على الزرع ونوافذ مدهونة بأخضر غامق وبنى محروق، ثم يختم حياته بالقاضية: يشترى أرض بيت الدكر وينتزع المشيخة ويدخل البرلمان.
سحب عبدالواسع نسيلة صوف وشبكها فى الخيط اللانهائى، الملفوف حول المغزل، ثم برمه بهدوء وقوة، وانتظر حتى انتهت النسيلة، وقال متهكماً:
■■ على مهلك علينا يا ابو المرحوم!
أخذ سمانى سطل اللبن متضرراً. وفى طريق عودته اشترى باكو معسل، وقصد بيت حسنين النق، حيث اعتاد أن يهدر طرفاً من الليل مع ابنه عبدالعال: يشعلان الجوزة ويتبادلان حديثاً فاتراً ومجانياً عن أحوال البلد. لكن عين سمانى اليسرى فى تلك الليلة ظلت ترف حتى عاد إلى البيت:
■■ نص الليل اتقتل وأبوك لسه ما رجعش من بره!.
قال سمانى هازئاً:
■■ تلقاه حود على فريدة عشان يختِّمها على باقى الببور.. أمال يا بت منازع!. ده بدل ما يبنى له بيت عدل!
تمتمت فاخرة وهى تجرجر قدميها عائدةً إلى غرفتها:
■■ احنا يا حبيبى عملنا اللى قدرنا عليه وراضيين باللى عملناه.. الدور والباقى ع اللى عايز يسكن فى سراية!
نامت فاخرة على شكوكها ونام سمانى على أحلامه الوردية، لكن عبدالواسع لم يعد إلى البيت حتى صباح اليوم التالى. قلبوا عليه البلد، ومشطوا أرض الزمام بالقصبة والشبر.
لم يتركوا بشراً أو حجراً إلا سألوه. لم يتركوا شونة أو حوشاً أو خرابة إلا فتشوها. لم يتركوا نجعاً أو كفراً أو نزلة إلا سألوا أهلها.. لكن عبدالواسع فص ملح وذاب.
لم يكن لدى الغرابلية أى دليل على تورط بيت الدكر فى مسألة اختفاء رجلهم، لكن سمانى حسبها على النحو التالى: إذا كان العمدة اكتفى بحرمان فريدة من دخول السراية عقاباً لها على خطيئتها، فهذا يعنى أنه لن يترك عبدالواسع يفلت بعملته، لذا قرر أن يختبره:
■■ أبويا وين يا عمدة؟
بعد يومين كاملين على اختفائه، استيقظ أهل الشق على مشهد مفزع: جثة تتدلى من قعر الكوبرى الخشب الذى يربط بين سراية بيت الدكر ومندرتهم الكبيرة. وقف وكيل النيابة ومساعده الشاب ورهط من كبارات البلد، يضم سيدنا والعمدة والشيخ محمود فزاع وشيبة الحمد وبنيامين أبو الخير، تحت الكوبرى يتطلعون إلى الجثة. كان الرأس ملفوفاً فى كيس بلاستيك معقود بإحكام حول الرقبة، بينما بقية الجثة عارية تماماً. ولم يكن صعبا على أى طفل فى الشق أن يتعرف على صاحبها، لكن أحداً لم يفهم مغزى قطع العضو الذكرى لعبدالواسع ووضعه فى فمه سوى سيدنا:
■■ مدد يا حلفاوى.. مدد!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.