خلاصة ميسم وبخواجى تلتقى ميسم والنخلة السفافة فى صفتين: العنفوان والمراوغة. كانت النخلة تعطى راكبها أماناً وطمأنينة، ثم لا تلبث أن «تسفه»، أى تلتهمه، وكانت ميسم تأبى أن تكبح أنوثتها، حتى كسر همام شوكتها. أما بخواجى - هذا الوافد إلى الربوة من بندر طهطا - فسرعان ما تمكن من قلب العمدة عبدالجواد الدكر، وأصبح واحداً من مجالسيه، لم يعد يشعر أنه غريب عن الربوة، ولم يعد أهل الربوة يشعرون أنه نصرانى، لكن قلب العمدة كان يهجس طوال الوقت بأن هذا الرجل سيموت قبل أوانه. عسكرية محمود السيوفى شوفى: الرجل فى بلدنا بحر والست جسر. لا تضيقى عليه فتختنقى.. ولا ترخى له الحبل فيشنقك. الشطارة أن تمنحيه ولداً يخلده ويشد ظهرك. وغداً.. عندما يختلط الطين بالزلال وتبدعان.. قولى: ناعسة قالت. طلب محمود السيوفى مهرة من سلالة الخيل التى يقتنيها عبد الجواد الدكر، فلم يتردد الأخير فى تلبية طلبه. لكنه فى المقابل طلب يد ابنته، إن كانت لا تزال خالية، لابنه الوحيد همام. فلم يكتفِ محمود السيوفى بالموافقة، بل أصر على قراءة الفاتحة فى التو واللحظة. وبعد أن قرأ الحضور الفاتحة مال عبد الجواد على محمود السيوفى وسأله على استحياء: ■ ■ هى اسميها ايه؟ فمال عليه محمود السيوفى موشوشاً: ■ ■ عسكرية.. ها تبعت المهرة إمتى؟ كان يوم انتزاع المهرة من حضن أمها أسود من قعر الحلة. هاجت الفرسة الأم، وظلت تصهل وتدور فى الإسطبل وتضرب الجدران بأظلافها كالمجنونة. وبعد يومين هدأت، فظن فرعام البطحجى أنها تجاوزت حزنها.. فاقترب منها مواسياً، فغافلته وألقمته رفسة فى محاشمه أفقدته الوعى. وعندما أفاق اكتشف أن خصيتيه تورمتا، وتؤلمانه بشدة، فنصحه سيدنا بأن يشوى بصلة يابسة كل ليلة ويلف الخصيتين بأوراقها قبل أن ينام. وبينما كان يقضى ليله وحيداً، يراوح بين حسرتين: واحدة على ميسم، والأخرى على نفسه.. كانت الربوة تتهيأ لزواج ابن عمدتها وزينة شبابها همام عبد الجواد همام الدكر. وطوال شهرين سبقا دخلة عسكرية على همام لم يكن لأهل الشِق سيرة سوى «كبيرتهم» القادمة: من عتبة إلى مصطبة، ومن جرن إلى مسطاح، ومن مندرة إلى شارع، ومن منبر إلى مذبح، كانت كراماتها تلتئم يوماً بعد يوم: ■ ■ صفتها؟ اسم الله على مقامك: بيضاء كاللبن الحليب.. تشوبها حمرة. وجهها عربى، يكاد يكون مربعاً. كفاها صغيران كعصفورين أليفين، وذراعاها كالكعك النى، وعلى جانبى فمها نغزتان تضاعفان من سحر ابتسامتها. فارعة، ثابتة كالفرس عندما تقف، لكنها تتخلع فى مشيتها كالناقة. الفخذان ملفوفان، مصقولان بغير التصاق، وصفحة الصدر كالرخام، والثديان ناهدان مكوران، بينما الحلمتان بارزتان مصوبتان إلى الأمام كفوهتى بندقيتين. وتقول نواعم العبدة لستها ناعسة وهى تشهق إن كعبيها مفلطحان، وسمانتى ساقيها مخروطتان خرطاً.. يعنى ستكون ولادة، وإذا لم يشكمها مبكراً ستأكل لجامها وتركب حَلَسَه!. ■ ■ وحِطاطها؟ خمس وعشرون تليس قمح، فى كل تليس ثمانى كيلات بسعر تسعة قروش للكيلة. وعشرة خراف طايبة، سعر الواحد يتراوح بين مئة وخمسين قرشاً وجنيهين. واثنا عشر جدياً مخصياً أقلها بخمسة وثلاثين قرشاً. وأربع صفائح سمن بلدى، فى كل صفيحة أربعون رطلاً بسعر سبعة قروش للرطل. وخمسون قمع سكر، كل قمع أقتان إلا ربعاً بسعر خمسة قروش للقمع الواحد. أما الخلطة فكانت ست كيلات فول سودانى وسبعاً وعشرين علبة ملبس وكرتونتى طوفى وكرتونة ملبن أحمر. ■ ■ وعفشها؟ سرير نحاس مسقوف بدانتيل، ودولاب ذو ست ضلفات، ومرآة بعرض الضلفتين الوسطيين، وتسريحة بثلاثة أدراج، ومرآة بلجيكى بيضاوية، وطاقم أنتريه مكون من كنبة وأربعة مقاعد فوتيه خشب صندل، وسفرة بثمانية مقاعد. ■ ■ ومهرها؟ مائة ورقة من فئة العشرة جنيهات الحمراء ذات المئذنة. ■ ■ وشبكتها؟ قلادة عيار أربعة وعشرين، بست محموديات وست هلايل وست سمكات وعدد لا نهائى من السفايف. كردان من العيار نفسه، يحيط به ثعبان برأس ألماظ فى الرقبة، وثعبانان آخران فى المعصمين. وعلى الرأس طاقية صغيرة مثل طاقية الحاخامات يسمونها «صفا»، يتدلى منها ستة عقوص، فى كل عقص ثلاث ضفائر تنسدل على الظهر، مشبوك فى كل ضفيرة ثلاث ظرائف واحدتها فى حجم التعريفة، وفى آخر كل ضفيرة محمودية فى حجم البريزة. ■ ■ وليلتها؟ صوانى متخمة تقابل صوانى فارغة. نساء وأطفال يتصايحون فى دهليز السراية، ويتراشقون بالعيش واللحمة. حرافيش الربوة منكبون على موائدهم، لا أحد يريد أن يشبع أو يتوقف عن الأكل. وفى صالون المندرة يتحلق بنيامين أبو الخير وعدد من أعيان القرى المجاورة حول سفرة حافلة: ثلاثة ديوك رومى بكامل هيئتها. جبل حمام محشو بالفريك والكبد والقوانص. خمس وعشرون طاجن ضانى ملذوذ فى مرق يعوم فى السمن البلدى. أربعة أناجر فتة باللحم المسلوق. حوض صينى بيضاوى الشكل، مفروش بطبقة شعرية عليها صفوف من شرائح لحم بط واحدتها بعرض الكف. شفاشق للمياه وأخرى لليمون ترتعش من البرودة. وفى مدخل الدهليز غرق ألماظ العبد فى طاسة فتة باللحمة، بينما انهمك ابنه سعيد فى توصيل حمير الضيوف وخيلهم إلى الإسطبل، وكتابة اسم كل ضيف على السرج أو البردعة بالقلم الكوبيا. بعد صلاة العشاء كان الأوتومبيل يستقر أمام باب السراية حيث نزل محمود السيوفى وفى عقبيه شابان لا يقلان عنه وسامة وهيبة، هما ولداه مازن مظهر وأبو القاسم، تتوسطهما عسكرية. تسلم همام عروسه فى أجواء أسطورية لم تشهدها الربوة من قبل. دائرة كلوبات يقف العروسان فى مركزها. رائحة بارود وأصوات مزمار بلدى. سحب غبار كثيفة. فجأة.. خرج العمدة على الحضور ممتطياً فرسته، وظل يرقص على أنغام المزمار حتى انحسرت العباءة عن كتفيه. ومن جبانة المقام.. تطلعت ميسم إلى هذا المهرجان ودموع القهر تكوى خديها، ثم التفتت إلى سيدنا وسألته وهى ترتجف: ■ ■ هل يرفع الموت عبء الخطيئة؟ وضع يسراه على بطنها ورفع يمناه فارداً كفه: ■ ■ مدد يا حلفاوى.. مدد! بعد أكثر من ساعة صعد همام والعروس إلى غرفتهما، بينما اصطحب العمدة ضيوفه إلى المندرة الكبيرة عبر دهليز السراية. وعلى مقربة من باب غرفة العروسين، جلس ألماظ العبد على كرسى خيزران يترقب ظهور المنديل حتى أنجز العريس مهمته. ومن وراء الباب نده على ألماظ وأعطاه منديلاً مضمخاً ببقعتى دم طريتين، فهرول ألماظ إلى المندرة حيث كان الجميع فى انتظاره. وما إن وصل إليها حتى اطمأن العمدة فأطلق وابلاً من الرصاص. وبعد أقل من شهر دخل سيدنا على ناعسة والعمدة بأول حفيد: ■ ■ الأمانة! نظر العمدة إلى الأرض وسكت برهة ثم قال دون أن يرفع وجهه: ■ ■ بت ولا ولد؟ قال سيدنا مزهواً: ■ ■ ولد زى الفل. رفع العمدة وجهه متسائلاً: ■ ■ سميته إيه؟ رد سيدنا وهو يتفحص وجه المولود: ■ ■ اسأله! ظن العمدة أن سيدنا يمزح فقرر أن يجاريه، واقترب من الطفل وسأل بصوت خافت: ■ ■ اسميك إيه يا أبو المرحوم؟ ثم قرب أذنه من وجهه فسمع صوتاً يقول: ■ ■ اسمى عبد الله! وقال سيدنا معقباً: ■ ■ اسم ينفع للمسلم والنصرانى. حتى ذلك الوقت كانت واقعة اعتداء همام على ميسم سراً لا يعرفها سوى عبد الجواد وناعسة وسيدنا. أما عسكرية فلم تكن تعرف، كغيرها من أهل البلد، أن لزوجها ولداً سفاحاً من ابنة سايس نصرانى. ومع أن العمدة لا يعتذر عن خطأ ولا يبرر سلوكاً، فقد وجد نفسه مضطراً فى البداية لاسترضاء عسكرية: ■ ■ شوفى يا بتى.. همام حيلتى زى ما انتى عارفة. غلطان ما غلطانش.. خلاص.. وأنا بصراحة ما عايزش مشاكل مع النصارى. وسكت لحظات بدت خلالها عسكرية متماسكة رغم إحساسها بالغدر، فاستطرد بلهجة حاسمة: ■ ■ عبد الله حفيدى.. يعنى ليه كل حقوق وِلد الوِلد. وقبل أن ينصرف ركز عينيه فى وجهها قائلاً: ■ ■ خلى بالك.. كلمة عبد الجواد الدكر قرآن. احتكمت عسكرية إلى صوت العقل وسكتت، إذ تعرف أن موتها بالنسبة لأبيها ولكل عائلة السيوفى أسهل من الطلاق، أما مشاعرها تجاه الطفل فهى حرة فيها. وتقديراً لموقفها هذا أعلنت ناعسة أنها ستتكفل برعاية عبد الله، وتعهدت بأن تضع شمعة فى طاقة المقام كلما مر حول على ولادته. وعندما جاء ذكر المقام غلبها فضولها، فسألت سيدنا عما إذا كانت ميسم حية أم ميتة، فأغمض عينيه وتمتم فى أسى: ■ ■ المسكينة!.. تسعة أشهر وهى تحلق فى فضاءٍ حالكٍ مثل نجمةٍ حائرة. حلقت طويلاً وقد أتخِمَت بذنبها. تهبط برداً فيلفحها هبو الجبانة فتعلو سلاماً، حتى لم يبق منها سوى عبد الله. ولحسن الحظ أن عبد الله كان طفلاً جميلاً، هادئاً، ضحوكاً، حتى أن مشاعر عسكرية بدأت تتبدل، وأصبحت تغافل ناعسة وتنظر إليه أثناء حملها وهو نائم، فتدعو الله أن يكون حظ مولودها من الجمال والعذوبة ربع ما لديه. وعندما أفاقت من خدر الولادة وتبين لها أنها رزقت بأنثى تكدرت قليلاً، واغرورقت عيناها بالدموع، فما كان من ناعسة إلا أن وضعت الولد إلى جوارها وهمست فى أذنها: ■ ■ اعتبريه ولدك. واعتبرته ولدها بالفعل، حتى إن ناعسة سمعته يبكى بحرقة ذات يوم، بينما عسكرية تُرضِع طفلتها «أماثل» غير عابئة، فسألتها عن سبب بكائه، فاعترفت: ■ ■ قلبى قرصنى.. خفت يتحسد.. قرصته فى فخذه. أما سيدنا فكان ينظر ملياً فى وجه عبد الله، ثم فى وجه همام، فلا يرى بين الاثنين شبهاً، فيتمتم: ■ ■ لولا أنه وُلِدَ على يدى لآمنتُ به!. عبد الواسع الغرابلى لا عطا الوحش تليس ولا قصبة فى القبالة يقيس «اللوقة» فى لسان العرب هى الرطب بالزبد أو بالسمن، وتعنى «الزبدة» عند الفراء والكسائى. واللوق: كل شىء لين من طعام وغيره. ولوق الشىء (بفتح اللام وتشديد وفتح الواو): لينه. والألوق: الأحمق فى الكلام. وقد تعارف أهل الربوة على استخدام كلمة «اللوق» لوصف الجزء الأكثر مشقة فى تهيئة الأرض للزراعة، أى تليينها بحصيرة من الطمى بعد انحسار الفيضان. ووصفوا عبد الواسع الغرابلى بأنه رجل «ألوق» لأنه مدب على ما فيه من طيبة، ولأن بطولته الحقيقية كانت تتجلى فى موسم «اللوق». يلوق عبد الواسع فى الموسم الواحد ثلاثة عشر فداناً على الأقل، وهو رقم قياسى لم يسبقه إليه مخلوق. يصحو من النجمة. يتناول إفطاراً خفيفاً: عيش قيضى مفتوت فى لبن غير مُحَلى. يشرب شاياً مُراً، أقرب إلى السواد. يشربه ساخناً، وفى كوب صغير أملس.. لابد أن يكون الكوب صغيراً وأملس. يعقد الجلابية على خصره ويلفح زكيبة القمح فوق كتفه ثم يشبك مقطفه الكاوتش وصرة الغداء فى أداة خشبية على شكل حرف T تسمى «لوح» ويضعه على الزكيبة ويقصد باب كريم. آلاف الأطنان من الطمى الذى يخلفه الفيضان يدفعها عبد الواسع أمامه، إما فى اتجاه الجسر العمومى أو على حافة مصرف، والجزء الذى ينتهى من تمهيده.. يغرقه قمحاً ويحدده بأربع بوصات. ولم تكن مشكلة عبد الواسع فى تقدير كمية الطمى التى كان عليه أن يتركها تتسرب من تحت اللوح ليحافظ على معدل خصوبة الأرض، أو تلك التى ينبغى عليه أن يكشطها ويدفعها أمامه كيلو متراً أحياناً.. بل فى كون هذا الطمى رغاماً، ذا قوامٍ موحل، غير متماسك. «طين ماهى.. لا يسد ولا يمد» كما يقول. وقد اعتقد البعض أن عبد الواسع ممسوس لأنه أوقف حدافة ببور الطحين على سنها، ورفع تليس قمح بيد واحدة. وحتى بعد أن أصبحت لديه حيازة باثنين وعشرين قيراطاً ظل مظهره البدائى سبباً للاعتقاد فى قوته الخارقة أكثر مما هو دليل بخل: ■ ■ ما تآخذنيش فى السؤال يا حاج.. إيه حكاية البَبُور دي؟ بوغت الحاج عمران فزاع فسأله مندهشاً: ■ ■ وانت مالك ومال البوابير يا عبد الواسع؟ كانت الفكرة تدور وتتخمر فى رأس عبد الواسع على النحو الآتي: سيكون أول بَبُور طحين يدخل البلد، وإدارة ببور لا تحتاج إلى بطولة أو مهارات، ولا شىء فى الدنيا مضمون.. لا المال ولا الصحة، لكن الله سيسأله يوم القيامة عما ترك لولديه سمانى ومخيمر، وابنته الوحيدة هضبة: ■ ■ ما ينفعش نخش معاكم شريك! بُهِتَ الحاج عمران. فكل أهل البلد يعرفون أن عبد الواسع لا يحب انتعال الأحذية لأنه يختنق من قدميه، ولا يلبس الكستور لأنه يشوكه، ولا يأكل خبزاً من دقيق القمح لأنه لا يشبعه، ويحتكم بالكاد على فدان ناقص، وجاموسة وراءها شبة اثناوية، أى عمرها عامان، ونعجتين وثلاث معزات، وبيت قديم يطل على سويقة النصارى لا تزيد مساحته على سبعين ذراعاً. ودخوله شريكاً فى الببور بأى نسبة سيكلفه أكثر مما يطيق: ■ ■ ما ينفعش يا ابو سمانى.. لا انت كد البوابير ولا الأسطى بخواجى هيوافق. ازداد عبد الواسع تشبثاً وركبه العناد: ■ ■ يا سيدى ما ليكش صالح.. شا الله حتى نبيع اللى ورايا واللى قدامى.. وبخواجى ليه اللى يخليه يوافق ورجله فوق رقبته.. انت بس قول آمين. كاد الحاج عمران يوافق لولا أن علم عبد الجواد الدكر بالموضوع، فركبته العفاريت، وذهب على الفور إلى الحاج عمران وأقنعه بأن المسألة ستكون «حُك زُنقرة»، أى مسمار جحا، بين الغرابلية وبيت الدكر: ■ ■ العقدة أقدم من ببور الطحين يا حاج عمران!. مرة اقترح عبد الجواد على مخيمر، الابن الأصغر لعبد الواسع، أن يستخدم كلتا يديه فى جنى البلح ليسبق شقيقه الأكبر سمانى، فأخذ بالنصيحة، وكانت النتيجة أنه سقط من فوق النخلة وأصيب بشرخ فى الحوض. ومرة دخل عبد الجواد رهاناً مع بخواجى أمام أهل الشق على أن همام سيغلب سمانى رغم أنه أصغر منه بسنتين على الأقل. ودخل الاثنان باطاً لباط، وكاد سمانى يطرحه أرضاً لولا أن أومأ بخواجى لهمام بأن يغرز سبابته اليمنى بين عظمتى ترقوته فنكعه دُستين كسر بهما شوكته. ابتسم الحاج عمران وقال: ■ ■ بس ده لعب عيال يا عمدة!. طول عمر الغرابلية يعانون من عقدة اضطهاد، ويعتقدون أن لهم فى رقبة سلمان بن عامر عرقاً، لكنه فى نظرهم كان رجلاً ظالماً، فاجراً فى ظلمه. واختلقوا لهذا السبب رواية تقول.. إن سلمان كان لديه ولدان هما قاسم، جذر بيت الدكر، وعطيفى، جذر الغرابلية. كان قاسم كأبيه شرس الطباع، وهو الذى أوحى إليه بقتل غريمه النصرانى بولص بن منقريوص ليستولى على وقف المقام. وبهذه الطريقة تمكن من قلب سلمان فكتب له ثلثى طينته. أما عطيفى فقد كان حيياً مسالماً، يحب الحق ولو على رقبته، لكن مشكلته أنه كان مولعا بالنساء فتزوج أربعاً، أنجب منهن تسعة ذكور، وعاش ومات دون أن يتخلى عن اعتقاده بأن الأبناء فى الغنى والفقر عزوة. والنتيجة أن حيازة بيت الدكر وحدهم مائة وثلاثين فداناً، بينما تتقلب تسعة بيوت تنتمى إلى الغرابلية فى حوالى مائة فدان. وعلى هذه الخلفية بدا دخول عبد الواسع شريكاً فى الببور من وجهة نظر العمدة، تحدياً لبيت الدكر من ناحية، ورد اعتبار للغرابلية من ناحية أخرى. نام الموضوع، وبدا أن عبد الواسع تخلى عن الفكرة، لكن الحاج عمران فاجأ الجميع ومات بلا سابق إنذار، تاركا لفريدة ثلاث علل: رشدى فى الخامسة عشرة وجلال فى الثالثة عشرة ورئيسة فى العاشرة، فى حين لم يكن مشروع الببور أكمل سنته الثالثة. لذا ما إن انتهت من مراسم الأربعين حتى بدأت تخطط للتخلص من حصة المرحوم بأى طريقة. لكن إحساسها بأن الببور فأل سيئ وعدم خبرتها بالأمور المالية لم يكونا دافعها الوحيد للإصرار على البيع: ■ ■ قلت إيه يا أبونعيم.. هاتشترى انت ولا تشوف لى حد! اغرورقت عينا بخواجى، وأبى أن يمد يده فى طبق أكل منه صديق عمره، وعرض عليها بدلا من ذلك أن يدير حصة الحاج عمران بما يرضى الله إلى أن يصبح رشدى قادراً على تحمل المسؤولية. لكن فريدة رفضت عرض بخواجى. ثم لعب الشيطان برأسها، واعتبرت أن فرصتها فى الانتقام من أبيها مواتية، فاستدعت عبدالواسع وعرضت عليه الأمر، فانخلع قلبه فى البداية: ■ ■ ما عادش ينفع يا ست الستات. سألت فريدة: ■ ■ ليه يا أبوسمانى!.. انت مش كنت ناوى تبيع بيت البلد؟ رد عبد الواسع محرضاً: ■ ■ ما دام العمدة حط مناخيره فى الموضوع يبقى ما ينفعش. وبعدين ما تآخذنيش.. آديكى شايفة العيال كبروا، والمرة ما عادش فيها حيل تطلع ولا تنزل، ونفسى نبنى لهم دنشة بيت فى الخلا بدل الحُق اللى قاعدين فيه. لمس عبد الواسع وتراً مشدوداً لدى أرملة تجاوزت الثلاثين بقليل!. هد الروماتيزم زوجته فاخرة بت منازع ولم تعد صالحة للحرث، بينما تجاوز الخمسين ولا يزال فحلاً يحسده الجميع، رجالاً ونساء، على فحولته: ■ ■ يدى الفول للى بلا سنان!. ألح شيطان فريدة من جديد، فعرضت على عبد الواسع أن يتولى إدارة نصيب الحاج عمران فى الببور لأنها لا تثق فى ذمة بخواجى ولا تريد إقحام والدها فى الموضوع. والحقيقة أن الببور لم يكن موضوعها.. بل كانت تريد عبد الواسع نفسه. وعندما وقع المحظور والتقت عيناهما، بينما يحاول عبد الواسع أن يسلت نفسه من اللجة التى بين فخذيها أحس بنشوة تتضاءل إلى جوارها نشوة الشراكة فى ببور طحين: لقد عاشر ابنة أكبر رأس فى البلد.. وهذا يعنى أنه عاشر العمدة نفسه!. فهم عبد الواسع الفولة، ورفض عرض فريدة بإدارة ورثها فى الببور، لكنه استطاع أن يسيطر عليها بوسيلة أخرى. وعندما أدرك أنها لم تعد تستطيع الاستغناء عنه، بدأ يتهرب منها، فعاتبته، فساومها، وتحجج بأن سكة الغلط ليست مضمونة: ■ ■ أبوكى لو شم خبر هيصور قتيل. شُل تفكير فريدة ولم تعرف ماذا تفعل، بل ما الذى فعلته أصلاً!. كانت تعتقد أنها بذلك تنتقم من أبيها لأنه غصب عليها وزوجها رجلاً يكبرها بحوالى ثلاثين عاماً، فإذا بالسحر ينقلب على الساحر: ما ذنب رجل أخلص لها ولم يبخل عليها وكان مثالاً للزوج الحنون، عف اللسان؟. لماذا تعاقبه بذنب أبيها!. وكيف تواجه أبناءها بعد ذلك.. وكانت استفاقتها متأخرة. سألته فريدة عن الترضية التى يمكن أن تكون كافية لشراء سكوته.. لكنها لم تتوقع أن يكون جشعاً وحقيراً إلى ذلك الحد، إذ طلب منها أن تتنازل له عن نصف حصة الحاج عمران فى الببور مقابل إدارته للنصف الآخر. انتفضت غاضبة فى البداية.. لكنها استسلمت أمام تهديده بإفشاء سرهما، فغافلت أباها العمدة وسلفها الشيخ محمود فزاع، وحررت لعبد الواسع عقداً بذلك شهد عليه بهلول الزاهى والد خلف تكفا، وكان عاملاً على البئر، وحسنين عبد الحق الذى عُرِف عنه أنه خرب الذمة، يأكل مال النبى. اغتم قلب العمدة وعقدت الفضيحة لسانه، فاختبأ فى مندرة السراية أسبوعاً كاملاً قبل أن يرسل ألماظ العبد إلى فريدة ويزنقها زنقة الكلاب: ■ ■ بعتى الببور للغرابلى يا فريدة! لم تستطع فريدة أن تنكر. كانت تبكى وتتمخط، وكان فى بكائها عتاب وتشفٍ. وكانت أسئلة العمدة تتقلب ناراً فى رئتيه، وتخرج زفيراً يكاد يحرق وجه سيدنا: ماذا يفعل؟. هل يزوجها لهذا الجربوع ولو ساعة واحدة ليخرس الألسنة ثم يطلقهما!. مستحيل. لا هى من ثوبه ولا هو من ثوبها، وسيعجز عن تبرير هذا الزواج. هل يقتلها ويلغ فى دمها ليواجه أهل البلد نظيفاً طاهرا!. مستحيل. ستتأكد الشائعات ولا ذنب لأبنائها. هل يتبرأ منها ويتركها تتعذب بذنبها بقية عمرها: ■ ■ دبرنى يا سيدنا!. سكت سيدنا لحظات مرت على العمدة دهراً، ثم قال بهدوئه وثباته المعروفين: ■ ■ اكفى على الخبر ماجور.. والناس شهر ولا شهرين وينسوا. تمالك العمدة أعصابه، واكتفى بطلاق بالثلاثة ألا تضع فريدة رجلها فى السراية ما دام حياً، وألا تمشى فى جنازته عندما يموت. أما عبد الواسع فقد تبدلت هيئته، إذ بدأ يلبس صديرياً، وأصبح يضع الفلوس فى محفظة طويلة باثنى عشر جيباً، وطوق اللبدة بملفحة بيضاء منقوعة فى الزهرة، ورمى على كتفيه شالاً من الصوف، وأكمل الأبهة بمركوب تفصيل أُعِدَ خصيصاً فى ورشة حسن السيوطى وتكلف أربعة قروش كاملة. لم يعد يلوق أرضاً، وتكفل ولده الأصغر مخيمر بتلويق فدانه الناقص. ثم استمرأ القعدة: على ميزان الببور حيناً، وعلى المطلع المؤدى إلى مندرة بيت الدكر حيناً آخر، حيث يضع إلى جواره كومة صغيرة من صوف الغنم ويغزل. ومن ريع الأرض وإيراد الببور بنى بيتاً على الجسر من طابق واحد ببوابة متهالكة وسقف جريد وغرفتين معتمتين، وسند جداره الملاصق للزرع بطابيتين عريضتين من الطوب الأحمر حتى لا ينهار بتأثير الفيضان: ■ ■ طاسة شموع فى طاقة المقام.. والمدد للحلفاوى.