التضامن: تركيب مسارات للطلاب المكفوفين وضعاف البصر بجامعة الزقازيق    عيار 21 يسجل 3150 جنيها.. أسعار الذهب فى مصر الجمعة 21 يونيو    غرفة السياحة: لا علاقة لشركات السياحة بتأشيرات الزيارة وحذرنا من أداء حامليها للحج    سعر كيلو السكر في السوق اليوم الجمعة 21-6-2024    الرئاسة الفلسطينية ترحب باعتراف أرمينيا بدولة فلسطين    ميسي يتوهج في حملة الدفاع عن لقب كوبا أمريكا    أحمد سالم يكشف موقف الزمالك من خوض مباراة القمة أمام الأهلي    تعليم البحيرة يرفع درجة الاستعداد لاستئناف امتحانات الثانوية العامة    ضبط عنصر إجرامي بحوزته 371 ألف قرص مخدر في المرج    ابنة تامر حسني تعلق على فيديو طيرانه في حفله الأخير    5 شهداء في قصف إسرائيلى قرب ملعب اليرموك وسط مدينة غزة    في ذكري ميلاد عبد الحليم حافظ.. ناقد فني يوضح أبرز المحطات بحياة العندليب    أمين الفتوى محذرا من ظلم المرأة في المواريث: إثم كبير    كشف ملابسات العثور على جثة شاب بها طلقات نارية في قنا ( تفاصيل)    محافظ أسيوط: تنفيذ 9 حالات إزالة لتعديات على الأراضى الزراعية ومخالفات المباني ببعض المراكز والأحياء    محمد العدل خطيبا.. نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد السيدة نفيسة    ميسي بعد اجتياز عقبة كندا في كوبا أمريكا: الخطوة الأولى    سر اختلاف موعد عيد الأب بمصر عن العالم.. إجازة رسمية في دولة عربية    عمرو يوسف سعيد باعتلاء اولاد رزق 3 قمة الافلام المصرية الاعلى إيرادا عبر التاريخ    سوزوكي: طوكيو وسيئول تبحثان فرض عقوبات على روسيا وكوريا الشمالية    الصحة: فحص 454 ألف مولود ضمن مبادرة رئيس الجمهورية للكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    الحرارة تصل ل47 درجة.. بيان مهم من الأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم الجمعة (تفاصيل)    وزير المالية: ميكنة منظومة مقاصة مستحقات المستثمرين ومديوناتهم لدى الحكومة    وزير الإسكان: جار إنشاء الطريق الإقليمى الشرقى حول مدينة أسوان وتوسعة وتطوير كورنيش النيل الجديد    «أنا سلطان زماني».. رد ناري من شوبير على عدم انضمامه لقناة «mbc مصر»    استشاري نفسي يقدم روشتة للتخلص من اكتئاب الإجازة - فيديو    أسعار البيض اليوم 21 يونيو 2024    الجيش الإسرائيلي يقصف مناطق مختلفة في غزة    إسقاط التهم عن طلاب بجامعة كولومبيا اعتقلوا في احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين    مدير منطقة أثار الكرنك يكشف تفاصيل تعامد الشمس على قدس الأقداس (فيديو)    حسام حبيب: هقدم بلاغ ودي جريمة... تفاصيل    شاهد.. فرقة «أعز الناس» تشعل ستوديو منى الشاذلي بأغنية للعندليب    نماذج استرشادية لامتحان اللغة العربية لطلاب الثانوية العامة 2024    سلوفاكيا تطمع في استغلال محنة أوكرانيا بيورو 2024    عاجل - انهيار جديد لجيش الاحتلال في غزة.. ماذا يحدث الآن؟    سموحة يدخل معسكر مغلق استعدادًا لطلائع الجيش غداً.. وغيابات مؤثرة تضرب صفوف الفريق    صباحك أوروبي.. اعتراف ووكر.. قرار فليك.. ومفاوضات إنتر مع إنزاجي    توجيه سعودي عاجل بشأن رصد 40 حالة تسمم في جازان (تفاصيل)    سيولة وانتظام حركة السيارات في القاهرة والجيزة.. النشرة المرورية    أخبار مصر: رابطة الأندية تصدم الزمالك والأهلي يترقب، اقتحام مقر التليفزيون السوداني بسبب "مذيعة"، والأرصاد تحذر من أيام صعبة    سول تستدعى سفير روسيا للاحتجاج على معاهدة بيونج يانج وموسكو    هآرتس: الجيش الإسرائيلي يريد مغادرة غزة ونتنياهو يخالفه الرأي    عاجل - "قطار بسرعة الصاروخ".. مواعيد وأسعار قطارات تالجو اليوم    طريقة عمل كيكة الشاي بمكونات بسيطة ومذاق لا يقاوم    اليوم.. الأوقاف تفتتح 5 مساجد في المحافظات    حلمي طولان يناشد الخطيب بطلب شخصي بخصوص مصطفى يونس.. تعرف على السبب    موقف الأهلي من المشاركة في بطولة كأس الأفروآسيوية    منظمة الصحة العالمية تحذر من أدوية مغشوشة لمرض السكري    القس دوماديوس.. قصة كاهن أغضب الكنيسة ومنعه البابا من الظهور بالإعلام    بلا مشقة بالغة.. هبة عوف: الاستطاعة الصحية شرط أساسي للحج    تجار البشر.. ضحايا فريضة الحج أنموذجًا    أنت وجنينك في خطر، تحذير شديد اللهجة للحوامل بسبب الموجة الحارة    أسامة قابيل يكشف حقيقة وجود أعمال سحرية على عرفات    مصطفى بكري يكشف موعد إعلان التشكيل الوزاري الجديد    البطريرك يلتقي عميد كلية اللاهوت بالجامعة الكاثوليكية في ليون    الحبس وغرامة مليون جنيه عقوبة الغش والتدليس للحصول على بطاقة ائتمان    القس دوماديوس يرد على الكنيسة القبطية: "ذهابى للدير وسام على صدرى"    تامر أمين عن وفاة الطفل «يحيى» بعد نشر صورته في الحج: «ربنا يكفينا شر العين» (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصرى اليوم تنشر رواية «بيت الدكر» للكاتب الصحفى محمود الكردوسى (11) العاجلة


صراع الكبيرة وأوهام الصغار
تحول عبدالجواد الدكر بين عشية وضحاها إلى طيف من زمن جميل، وباع بنيامين الوفد لينضم إلى «كتلة» مكرم عبيد. ثم ضاع الوفد وضاعت الكتلة وألغت الثورة كل الأحزاب. وبموجب قوانين الإصلاح ركب خلف تكفا وحسنين عبدالحق ومخيمر الغرابلى ومهران الدابى وغيرهم من الهوام أجزاء من أرض بيت الدكر وبيت أبوالخير، بعد أن كانوا يحلمون بالعمل فيها أجراء.
أما همام فقد واصل رسالة العمدة فى بارات القاهرة وملاهيها، بينما عسكرية تختبر متانة القفطان فى عباءة شيخ البلد. لكن سيدنا لم يشعر بالقلق إلا باندلاع الحرب على عرش «الكبيرة» بين عسكرية وعمتها ناعسة، وكانت الجولة الأصعب رغبة عسكرية فى بيع جزء من داير الناحية للمساليب، وهو ما رفضته ناعسة بشدة.
وعلى الجانب الآخر اشتد وطيس الحرب التى أعلنها سمانى عبدالواسع الغرابلى ضد بيت الدكر، وكلما مال عليه أحد ليذكره باستحالة أن يكون الغرابلية نداً لبيت الدكر فى الصيت أو فى الغنى ازداد اقتناعاً بضرورة رفع البيت طابقاً آخر أو طابقين لو أمكن.
 ومع أن البيت ارتفع طابقين بالفعل فقد أحس سمانى بالقرف من أهل الشق لأنهم خذلوه، ولم يقفوا إلى جواره. وعندما جاءت لحظة الحساب، وبدأ شيبة الحمد يلح فى استعادة فلوسه، قرر سمانى أن يفاتح مخيمر فى مسألة تقسيم الورث فلم يعترض، لكنه اشترط ألا يتم ذلك إلا بعد موافقة بقية الورثة، وهما فاخرة وهضبة.
[3]
احسب يا اللى ما تحسب..
اثنان وعشرون قيراطاً فى حوض البو على الجسر العمومى، نُزِع منها قيراط يشغله البيت الجديد (الطابق العلوى خارج نطاق القسمة لأن سمانى هو الذى تكفل ببنائه)، وبيت قديم لا تتعدى مساحته سبعين ذراعاً، ونصف ببور طحين، وجاموسة وراءها شب علف، وثلاث نعجات أمهات وراءها أربعة خراف وشرودة، وستة أرادب ذرة رفيعة، وإردب قمح، وآخر حلبة، وشونة تبن وبوص، وتسعة عشر جنيهاً عثرت عليها فاخرة فى أحد جدران غرفة عبدالواسع بعد أن لاحظت أن هناك قالب طوب غير مثبت، وأن حوافه متسخة كما لو أن يداً اعتادت على خلعه وإعادته إلى مكانه فى الجدار.
لم تستغرق جراحة تمزيق هذا الورث أكثر من مسافة كباية شاى. حضر سيدنا أولاً، وذهب إلى فاخرة ليطمئن عليها، فوجدها منزوية فى غرفتها الرطبة، شبه المعتمة، ذات الشراعة الصغيرة المعلقة قرب السقف، والتى لا تدخلها شمس أو هواء سوى بضع ساعات وسط النهار، حيث اعتادت هى وحانز أن تناما على دكتين ملتصقتين وقد أحيطتا بذلك المزيج الثقيل من الروائح: بقوطة عيش فوق سحارة هدوم، تندلع منها رائحة كالونيا.
بلاليص جبن مسنودة على جدار وقد سُدَت فوهاتها بليف نخل أحمر ملفوف فى خرق قديمة. مواجير لبن وقعابى مرق فارغة منكفئة تحت الدكتين. ورقة شاى فى حُق سكر مزنوق بين المخدة ومسند الدكة وراء رأسها مباشرة. حزم بصل وثوم تتدلى من رأس مسمار مدقوق بزاوية حادة فى منتصف حائط. صومعة دقيق سُدَت فتحتها بحجر جلابية قديمة، وفوق الحجر طبلية بثلاث أرجل، تحسباً لسقوط فئران فى الدقيق.
عندما أبدى سيدنا دهشته من إصرار سمانى على تقسيم الورث، ورضوخهم لرغبته بهذه السهولة، لم تعلق، فخرج من الغرفة ليجد الشيخ محمود فزاع فى انتظاره، وفى يده عقود القسمة. سأل الشيخ محمود عن الشهود، فطلب سمانى من خلف تكفا أن يذهب إلى عبدالعال حسنين ليستعجله. وبعد أن قرأ الشيخ محمود إحدى نسخ العقد الثلاث نظر إلى سمانى ومخيمر، وسأل عم إذا كان قد نسى شيئاً، فقال سمانى متأففاً:
■ ■ ما تفض يا شيخ محمود.. انت هاتقسم فى أبعادية كركور؟!
فتح الشيخ محمود فزاع ختامته وضغط عليها بإبهام عبدالعال ولطع بصمته على كل نسخة، وكذلك فعل مع خلف. وبعد أن نفخ بهدوء فى موضع كل بصمة ليجف الحبر، أعطى كلاً من سمانى ومخيمر نسخة من العقد، وأخذ سيدنا نسخته الثالثة لإيداعها فى خزنة المقام كما جرت العادة. وبموجب هذا العقد آلت إلى سمانى ثمانية قراريط وبضعة أسهم ومثلها لمخيمر.
 لكن مخيمر أصبح يفلح أربعة عشر قيراطاً بعد أن ضم إلى حصته نصيب أمه الشرعى ومقداره السدس، أى حوالى ثلاثة قراريط ونصف، أضيف إليها قيراطان ونصف للالتزامات العائلية، مثل الجنازات، والنقوط، وسهرات رمضان، وغيرها من المناسبات. وقبل أن تنفض القعدة فاجأ خلف الحضور وسأل عن نصيب زوجته هضبة، فتلقفه الشيخ محمود، وكان حاد الطبع سليط اللسان، ورد عليه محتداً:
■ ■ اختشى يا خلف.. ما تفتحش علينا فاتوحة!.
وهكذا خرجت هضبة من هذا المولد بالعشم المتعارف عليه: مقطف عيش قيضى مغطى بطبقة رغفان قمح، ورطل ونصف لحمة وخمسة وسبعين قرشاً من كل أخ على حدة فى العيدين: رمضان والأضحى. وفى المواسم: نصف إردب قيضى أو شامى، وكيلة قمح، وجمل بوص أو حطب، وتليس عضم شامى.
لكن خلف لم يسكت.
سحبها من يدها، وذهبا إلى فاخرة ليسألا عن سر تجاهل بيت البلد فى تقسيم الورث، فأحالتهما إلى سمانى، فأحالهما بدوره إلى مخيمر:
■ ■ خير يا بوز الإخص!
تراجع خلف مفسحاً المجال لهضبة:
■■ عايزة بيت البلد يا مخيمر.. السباتة نحلت وبرنا يا خويا.
فكر مخيمر قليلاً ثم قال بحسم وبغلظة:
■ ■ ماشى.. بس ما ليكيش فى ذمتى عفشاية تانى.. لا ف عيد ولا ف موسم.
ولأن هضبة تحلم باليوم الذى تودع فيه السباتة وتسكن بيتاً مبنياً بالطوب كغيرها من الخلق، فقد قبلت العرض على الفور، ورضخت لشروط شقيقها، وطلبت منه فقط ألا يمنعها من زيارة والدتها والاطمئنان عليها فى أى وقت، فلم يعترض. صحيح أن البيت خانق ومشبع بالرطوبة ورائحة الروث المعتقة وأساسات جدرانه بائشة.. إلا أنه بيت والسلام. وفى حين احتاج تطهيره من الخفافيش والعقارب والثعابين إلى ثلاثة أيام، فإن نزح الكنيف كان يحتاج إلى تضحية. وخلف مستعد للتضحية بولده الوحيد عبدالطاهر دون أن يضحى بمليم أحمر، لذا استكثر على هضبة أصلاً أن تتغوط فى كنيف، ونصحها بأن تقضى حاجتها فى مقلب اللاصة وراء البيت، فدبت على صدرها مفزوعة:
■ ■ جاك المرار!.. عايز مرتك تتعرى قدام اللى سارح واللى مروح!.
فلما أبى واستكبر هددته بأنها ستجرسه، وستجعل كل عيال الشق يزفونه فى الرايحة والجاية بشقفايتين، فاسود وتأذى ونزح الكنيف ورجله فوق رقبته، ثم اشترى ثلاث دكك عمولة ونجد لحافين وأربع مخدات صغيرة وطرطقتين. لكنه طلب من هضبة أن تشد على بطنها حزاماً ريثما يقف على قدميه من جديد ويعوض هذا النزيف. وعندما أعلنت عن رغبتها فى ذبح جدى على عتبة البيت تعبيراً عن فرحتها ودرءاً للحسد.. أخرسها خلف متهكماً:
■ ■ لا..!. وانتى برضه مقامك جدى!. إنتى تدبحى عبدالطاهر وتفرقيه ع الغلابة!.. أمال يا بت عبدالواسع!.
حبست هضبة لسانها فى حلقها، ولحمت دكتين لها ولعبدالطاهر، وبعد انتهائها من أعمال البيت لكلكت بعض الخرق والهلاهيل وتمددت إلى جواره، تاركةً خلف يتمغط بين الغنم والمعيز فى صحن البيت. وفى هويد الليل أحست بحركة غير عادية، فأصاخت السمع، لكنها لم تعرف بالضبط إن كان خلف يلهو أم يتخانق مع المزغودة التى يقال إنه يخاويها، فمصمصت هازئة وواصلت نومها:
■ ■ البيت ضيق والحمار رفاص.
قال خلف مبرراً، فقررت هضبة أن تكشفه:
■ ■ عايزة بت يا خلف!
فى كل مرة ينتفخ بطن هضبة بحمل جديد.. يضع خلف يده على قلبه، ويتعهد بإشعال طاسة شموع نذراً للحلفاوى إذا جاء المولود ذكراً، لأن الجنية تعهدت بقتل أى بنت يخلفها بعد حانز. وعندما رُزِقَ ب«عبدالطاهر» نسى تعهده وجلس إلى جوار هضبة منتشياً بانتصاره على الجنية، وكأنه هو الذى اختار جنس المولود:
■ ■ عايزة بت يا خلف!
«لا محيص».. على رأى الشيخ محمود فزاع!. لم يستطع خلف أن يصمد هذه المرة. أغمض عينيه، وسد أنفه، وحط قطرتين من مائه الدافق على جمرتها فانطفأت. وفى آخر شهور حملها بدت بطولها المفرط وجسدها المنتفخ مثل غيمة سوداء توشك على إفراغ حمولتها. وعندما تحسست بخيتة بت معبد عبدالحق بطنها وضغطت على أحد ثدييها بشرتها بأن فى بطنها توءماً، أحدهما أو كلاهما بنت، فانتفض خلف كأن عقرباً لدغه فى كعب رجله:
■ ■ تفى من بوزك يا مرة يا فقرية. إحنا لا عايزين بنات ولا فينا حيل لرباية البنات.
وصدقت بخيتة: اصطدمت بويضة بحيوان منوى، فأفرخت ولدا وبنتاً متشابهين إلى حد التطابق. وفى حين خفف «خلف الله» من صدمة خلف فى «شربات» وأصبح يتلذذ بمداعبته وتغيير ملابسه وكشط المخاط من تحت أنفه ومسح الخراء من بين إليتيه الصغيرتين ومن حولهما، استحوذت «شربات» على اهتمام هضبة، ومنحها بكاؤها إحساساً بوسع البيت. وكانت تضع القرش على القرش لتشترى لها قماش جلابية جديدة أو «صندل» أو توكة شعر. ولم يكن يمر أسبوع دون أن يضع عواض المسلوب قفص البيض على عتبة بيت خلف تكفا ويجلس فوقه، بينما هضبة تفاصله من داخل العتبة وهى تقلب فى محتويات القفص، وتبذل قصارى جهدها لتغالطه فى الحساب.
[4]
أهذه هولندة!..
تساءل سيدنا بينه وبين نفسه: تلك التى كانت تشب وتقطع ويكاد رأسها يلمس السقف، رافضة ترك حياة البندر فى ساحل طهطا والعيش مع بخواجى فى تلك القرية المقفولة على ناسها وأسرارها كالقمقم؟
لم يترك بخواجى زوجة مخلصة ومقاتلة وعشرية فحسب، بل داهية أيضاً. كان ممكنا أن تتشاءم، وتتخلص من حصة زوجها فى ببور الطحين كما فعلت فريدة، وتعود هى وناروز إلى الساحل. لكنها قررت أن تجلس على الميزان بدلاً منه، وأن تتولى بنفسها متابعة كل كبيرة وصغيرة.. لتعرف بالضبط ما لها وما عليها. لم تضع هولندة اعتباراً لتحذيرات نخبة الشق وعلى رأسهم همام الدكر، من أن شريكها- مخيمر عبدالواسع الغرابلى- ضلالى، يلحس القرش من على الخرية. كما رفضت الاستغناء عن جهود خلف تكفا، رغم اعتقاد بعض أهل الشق بأنه تعمد تحريك ذراع الملاوينا قبل أوانها، ومن ثم فهو المسؤول عن موت بخواجى بهذه الطريقة البشعة.
تجاوزت هولندة أول وأصعب اختبار فى حياتها، واستطاعت أن تكسب ثقة واحترام كل أهل البلد قبل أن تكسب تعاطفهم. وعندما بدأت الفلوس تجرى بين يديها، زارها بخواجى فى المنام وطلب منها أن تذهب إلى شقيقه عونى لتطلب منه يد ابنته مادلين لابنه ناروز، وكان يكبرها بنحو أحد عشر عاماً، فوافق عونى، لكنه اشترط ألا يعيشا فى الربوة. وكادت الزيجة تتعطل، لولا أن فاجأت مادلين والدها وأعلنت بحسم وتحدٍ أنها مستعدة للعيش مع ابن عمها فى أى مكان.. حتى لو كان جهنم الحمراء.
أصبحت إدارة الببور بالنسبة لهولندة مسألة روتينية، وناروز تزوج واستقر، وينتظر طفله الأول.. فلماذا لا تتقدم خطوة أخرى وتوسع نشاطها؟
اشترت من همام الدكر حوشاً صغيراً مهملاً لا تزيد مساحته على عشرين متراً مربعاً ويطل على وسعاية الشق. ثم نظفته، وبلّطته، ودهنت جدرانه بارتفاع مترين بأخضر زرعى، وبأبيض سن فيل حتى السقف، والسِفل بنى محروق، وصدرته برخامة عرضها 80 سنتيمتراً وطولها 210 سنتيمترات، والباب صاج مضلع بالعرض، ويُفتَح طياً من أسفل إلى أعلى، ويتحرك فى مجرى حديد مثبت فى الحلق يتم تشحيمه كل بضعة أشهر.
وبعد أن لفت الجدران من الداخل برفوف وصناديق خشبية وملأتها بكافة أنواع البضائع، اشترت راديو أحدث وأكبر قليلاً من راديو همام الدكر وفصلت له كسوة من قماش البوبلين الزهرى، ووضعته فى رف صغير مستقل فى مواجهة الباب، وطلبت من ناروز أن يتركه مفتوحاً طوال اليوم: بصوت الشيخ محمد رفعت.. أُذِنَ لصلاة العصر حسب التوقيت المحلى لمدينة القاهرة. وعلى السادة المقيمين خارجها مراعاة فروق التوقيت.
انتهى ناروز من رش المياه أمام الدكان، لكنه ظل واقفاً بالصديرى والسروال أبودكة والجردل الفاضى، مزهواً بساقيه اليابستين وصدره المنبعج مثل قعر القروانة، متأملاً تراب الوسعاية وقد انبعثت منه موجة صهد خفيفة، سخنت شرائح الكبدة المتجاورة فى وجه مهران الدابى، بينما وقف عطية الغضب داخل الدكان يقرقش كف حلاوة سمسمية وعيناه مصوبتان إلى هذا الوجه ولسان حاله يتساءل: أين شاهده من قبل! وفى غضون ذلك أعلن مذيع الراديو أنها تقترب من الخامسة.. «وإلى أن يأتى موعد نشرة أخبار الثالثة نستمع إلى أغنية (إحنا الشعب).. من كلمات صلاح جاهين ولحن كمال الطويل وغناء عبدالحليم حافظ».
انفرجت أسارير عطية، ثم امتعض قليلاً عندما اكتشف أن وجه مهران يشبه طاسة العصيدة التى يحبها بعد أن تزغزغها مادلين مرت ناروز بسن الملعقة لتصنع فيها شقوقاً تسمح بوصول السمنة والعسل إلى قعر الطاسة. غير أن هذا التشابه لم يكن عيباً خلقياً فى وجه مهران، بل نتيجة لإصابته فى سن مبكرة بالجذام والإهمال فى علاجه.
كانت سفنجورة بت معبد عبدالحق تعرف قبل زواجهما أن مهران مريض، لكنها لم تعرف أن مرضه معد إلا بعد أن أنجبت منه عزوز وسمرة، وبذلك أضيف إلى الخوف من العدوى سبب آخر لنفور أهل الشق هو رائحته النتنة، الناتجة عن عدم اهتمام سفنجورة بتنظيفه لفترات طويلة.
أصبح مهران يقضى كل ساعات النهار وقسطاً من الليل مكوماً فى الوسعاية، محاطاً بلهو الصبية وثرثرات أهل الشق، مكتفياً بالأغانى والبرامج ونشرات الأخبار التى يبثها راديو ناروز. لكنه لم يسلم رغم حالته المزرية تلك من الحسد، إذ أعلن الدكتور ألفونس أنه سيكون محظوظاً لو لدغه عقرب، لأن سم العقارب أفضل ترياق لعلاج الجذام، فكان خلف تكفا يضرب كفاً بكف ويكاد يخرج من هدومه وهو يرى العقارب تلف وتدور حول مهران، ثم تبتعد لتفرغ سمها فى أى شىء آخر يقابلها:
■ ■ مدد يا حلفاوى!
استدار ناروز بالجردل إلى داخل البيت وقد راح يستعيد صورة هذا الرجل، البارك فى الأرض كالبطيحة، عندما كان يهرول بين جملين عفيين طول النهار، ينقل قمح هذا وتبن ذاك، ويطرقع ظهر البقرة بالفرقلة وهو مجعوص على نورج بيت الدكر، ويضبط العضو الذكرى لشب غبريال العساس على حياء الجاموسة، وإلا طاش ومزق «أم ولادها».. أى رحمها:
■ ■ حتى العقارب العمية قرفانة منك!
يتطلع مهران الدابى إلى خلف تكفا وهو يقلب يديه حسداً واستكثاراً، ويرمقه بعينين دُفِنتا بين شرائح الكبدة ومُلِئتا ألماً وحسرة، ثم يقول فى نفسه: ليك يوم.
كانت الليلة قائظة.
لفح خلف آخر عنقوده «خلف الله»، وكان يقترب من الثانية، وتوجها كعادتهما إلى دكان ناروز، فوجد السجال منصوباً حول رهان يرعاه سيدنا بين كل من عبدالعال حسنين ومخيمر عبدالواسع على النحو التالى: إذا نجح أحدهما فى شرب صفيحة عسل نحل وزنها خمسة أرطال يأخذ ورقة بخمسة جنيهات كاملة، وإذا أخفق الاثنان يدفع كل منهما ثمن صفيحته. وبينما السجال محتدم وضجة الحضور تصم الآذان غافل خلف الله أباه وانفلت من بين يديه، وبدافع الفضول بدأ يحوم حول المكان الذى يجلس فيه مهران. وقبل أن يصل الرهان إلى نتيجة أفاق خلف على صرخة مزقت غلالة قلبه، فهرع مفزوعاً وأخذ خلف الله فى حضنه:
■ ■ يخرب بيت أبوك.. مالك؟
أفسح الحاضرون مكاناً على الدكة، فجلس وهو لا يفهم شيئاً ولا يعرف ماذا يفعل!. ثم تصاعدت حدة بكاء الولد واحتقن وجهه واختلط مخاطه بالزبد الذى يسيل على جانبى فمه. فلما نظر سيدنا إلى كاحله الأيمن أدرك أن عقرباً لدغه، فأخرج منديلاً وربطه بإحكام حول حلقة الساق ليمنع تدفق السم إلى بقية جسمه، ثم طلب من خلف أن يأخذه فوراً إلى الوحدة الصحية.
فك ناروز قيد حمارته، ووضع فوق ظهرها جوالى خيش، ووقف إلى جوارها حتى ركب خلف، ثم ناوله خلف الله وكان صوته قد بُح من كثرة البكاء، لكنه ما زال يبكى. وعندما وصل خلف إلى الوحدة الصحية، قبلى البلد، كان بكاء الولد قد توقف وأصبح جسمه كالخرقة. وما إن نظر عبدالله شادى تومرجى الوحدة إلى وجه الولد، وضغط على معصمه، حتى حوقل واغتم، وسكت ثوانى ثم قال لخلف مشفقاً:
■ ■ الواد مات يا خلف.. عوضك على الله يا ولدى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.