كتبت كثيراً. كتبت أطناناً من الكلام الفارغ والكلام الفارق. كتبت عن نفسى حتى وهى أمارة بالسوء، وكتبت عن آخرين ألعن وأشد بأساً من جحيم سارتر. كتبت عن أشياء لا أعرفها.. فأدركتها، وعن بشر لم أقابلهم.. فأحبونى. كتبت عن كل ما مسنى وهزنى وجرحنى ومغصنى وقرفنى ولم أجد صعوبة، لأن الكتابة لعبتى. الكتابة أجمل وأطول عمراً من المكتوب. الكتابة وحدها تغلب الموت. تهبط بالموت من بروجه المشيدة. تروضه وتهذبه وتغازله وتقصقص ريشه. الكتابة تمسخر الموت وتنومه على فخذها، وتحكى له حكاية ليغفو قليلاً، لكن الحكاية هذه المرة لم تشفع لصاحبتها. «زينب البكرى»، هذه الحكاءة، نفضت جرابها واستأذنت: «أخى العزيز.. كلم أمك.. تعبانة جداً.. على الأقل تسمع صوتك»... كانت تلك رسالة من شقيقتى ظهر السبت قبل الماضى، ثم رسالة من ابنها يوم الإثنين: «تعالى يا خالو فوراً.. النهارده.. تيتة فى خطر شديد.. النبض عندها 20». وبين الرسالتين كلمتها. ■ ■ ■ كانت متماسكة، وكان صوتها دافئاً وواهناً ويائساً فى الوقت نفسه. لم تعاتبنى كعادتها. لم تقل: «عايزة نشوفك قبل ما نموت». كان من عادتها أن تقول هذه الجملة قبل أن تسأل عن أحوالى. كانت تتوسلنى: «يا ولدى ما حدش ضامن الدنيا»، وكنت أعدها فى كل مرة: «سأحاول»، ثم أغلق محمولى، وأعود إلى صغائر الدنيا كأننى كنت أكلم «واحد صاحبى». هذه المرة لم تقلها. زهقت، أو اكتفت بأننى سأمشى وراءها وآخذ عزاءها كما تمنت. ولأنها أم.. غفرت وسامحت واختارت - لا أعرف لماذا! - أن تودعنى برسالة: «عمك أنور قال إن سنى 86 سنة.. خلاص يا وليدى.. أنا أديت رسالتى والبركة فيكم». لم أتصور أن تكون تلك آخر مرة أسمعها، ولا تسألنى عن آخر مرة رأيتها. لم أبك حتى الآن: الآن نفسها مطمئنة أم لأن شعورى بالذنب حجرنى!. لم أكن مقصراً ولا عاقاً ولا جاحداً فحسب، ناهيك عن أننى لم أكن مشغولاً بما يمكن أن يكون أهم. تستطيع فقط أن تقول إن قلبى مات، لأن العيش فى مدينة كالقاهرة لا يحتاج إلى قلوب. *** هل يستحق الواحد أن يكون ابناً لمثل هذه السيدة؟ ستة وثمانون عاماً صرتها - بحلوها ومرها - فى طرحتها الشيفون السوداء. أعطت أخى حذر الفقير وطيبة قلبه وثبات قدميه فى الغربة، وأعطت شقيقاتى بياض بشرتها وهوسها بالخصوبة وعمار البيوت، أما أنا فلم تعطنى سوى عشق الحكى وصنعة الكتابة. هل كانت تعرف أن الحياة لن تعجبنى ولن أقدر عليها إلا بالكتابة؟.. هل كانت تشفق علىّ من هذا العشق؟.. هل كانت تدرك أن الكتابة صخرة وأننى «سيزيف»؟. كانت تشعر أننى سأكون مهضوماً وصوفياً والناس مقتلى، فكان دعاؤها: «ربنا يحبب فيك القريب والغريب والنصرانى أبوصليب». ■ ■ ■ الثلاثاء 19 مايو: «أمك توفت.. البقاء لله». هل جربت أن تكون ممزوعاً بين الإحساس بالندم والإحساس بالغيظ من نفسك؟.. يظل الواحد مطمئناً لوجود أحبائه، ويظل يماطل ويبخل عليهم بالسؤال ويضحى ولو بخمس دقائق من وقته المهدر أصلاً. فجأة.. يلتفت إلى الوراء فلا يجدهم. تسرقه السكين، ويعتقد لوهلة أن غيابهم لن يطول. أمى ماتت؟.. أعرف، لكنها ستخرج من غرفتها لتأخذ مكانها بين حريم الجنازة. ستسألنى: هل أكلت؟.. متى تسافر؟.. ما أخبار بيسان ويارا؟.. الحقيقة أننا لا نعرف معنى أن يموت شخص: معناه أنك لن تراه إلا إذا مت، لكن المشكلة أن «معرفة» الموت أضعف من أن تنسيك شخصاً «عاش» معك، فما بالك إذا كان هذا الشخص أمك!. أمى ماتت، ولن أراها إذن إلا إذا ذهبت إليها، وإلى أن تأتى ساعتى وأذهب إليها.. سيظل ظهرى عارياً ورأسى عارياً ولحمى عارياً وروحى معلقة بين الأسى والخوف، ولو كان الأمر بيدى لرسمتها خلية إلى جوار خلية، فكتابة الأم بعد موتها.. هى الموت بعينه.