لم أكن أتصور أن حديث الوجوه التي في الذاكرة سيطول الي هذا الحد, وأنني سأشغل به فريقا كبيرا من القراء يريد أن يتعرف علي الوجه الذي كتبت عنه. وكثير منهم كان يلجأ الي التخمين, ويلتقط من سياق الكلام ما يمكن أن يشير إليه, حتي لو كانت الإشارة بعيدة وغير مباشرة. لكن فضول المعرفة يظل أقوي من كل شيء آخر. وكان الذين من حولي أكثر الناس اهتماما بمعرفة هذه الوجوه, وكانوا يوفقون في بعض الحالات الي بغيتهم, وأحيانا كثيرة لا يهتدون. وكان هناك من يسألني: هل هي وجوه في الذاكرة أم هي وجوه من الذاكرة؟ وكنت أجيب بأنها في الذاكرة, والفرق كبير بين الأمرين. ذلك أنها وجوه تعيش في الذاكرة, ولا تفارقها, وأنها بقيت واستقرت فيها لسبب أو لآخر. من هنا احتفظت هذه الوجوه بصورتها القديمة في نفسي, لم تتغير ولم تتبدل, بالرغم من أن كثيرا منها ينتمي الي مراحل الصبا المبكر, والشباب اليافع المتطلع. وأحسب أن ما دفعني الي الكتابة عن كثير من هذه الوجوه, هو ما أحمله لها في أعماقي من دين أردت أن أنجح في سداد بعضه. فالمحبة دين, والصداقة دين, ورفقة العمر دين, والأمومة والأبوة والأخوة ديون كثيرة متراكمة. ولقد حاولت في أوقات كثيرة أن أبكي أحباء وأعزاء وأصدقاء في أوقات غيابهم, فعجزت عن البكاء, وهأنذا بعد سنوات طوال أسطر بكائياتي علي الورق, بعد أن هدأت عواصف الأسي والشجن, وطامنت المشاعر والعواطف من عنفوانها, وأحسست أن بوسعي أن ألتقط خيطا واحدا, أو بعض خيوط, تقودني الي مبتغاي. وهناك وجوه, كان وجودها في ذاكرتي عبئا ثقيلا, لأنها تمثل بالنسبة لي خروجا علي المألوف مما هو متوقع من البشر الأسوياء, وجنوحا الي التدني والإسفاف والابتذال, وقدرة علي لوك عبارات الشرف والكرامة والكبرياء وهي منها براء, وإنما هي أقنعة هذا العصر, تضعها وجوه شائهة, قبل أن تتسلل الي الخوض في الزحام, ولكن هناك دوما من يكشفها ويتأمل عوارها, ويرثي لما تجسده من صغار وهوان, وقد أراحتني الكتابة عنها, وأراحني أكثر, أن هناك من تعرف عليها وفطن إليها, فأدركت أن الرسالة قد وصلت. ولم أكن أتصور أن محاولتي للخروج علي المألوف في الكتابة, كتابة المقال علي الأقل, محاولا الاهتمام بأدبية المقال, ولغته وبنائه, بعد أن أصبح كثير من الكتابات ثرثرة بائسة, أو تداعيات حرة قد تصلح للسياق القصصي والروائي, وأصبح بعض القراء وأنا منهم يفضلون قراءة الخواتيم, لأن السطور الأخيرة, أو المقطع الأخير في الكلام يغني عن جهد كبير وزمن طويل, في متابعة كلام مرسل, لا ضابط له ولا رابط, ولا مساحة من فكر أو تأمل, ولا مخاطبة لهامش معرفي يضيف الي القاريء ما يثريه أو يضيف إليه. وأحسب أن كثيرا من هذه الكتابات, هو في طعم السوائل التي انعدم تركيزها, وكلما كثرت الثرثرة وطالت, امحي التركيز وزال الطعم والقيمة. ومن بين الرغبة في الخروج علي المألوف في كتابة هذه الوجوه بالذات كان الإيقاع الذي فاجأني في لوحاتها الأولي, ثم حرصت عليه في بقيتها, بعد أن أحسست بأن اقتران ما هو سردي بما هو شعري, قد يحقق صيغة جديرة بالتأمل والمناقشة. وقد يكون طريقا أخر بين العالمين, أو طريقا يقيد من جوهر ما في العالمين: السردي والشعري, ويعيدها الي الجوهر المشترك, الذي يعطي لكل منهما قيمته ومعناه. وأنا أستخدم كلمة لوحات في وصف ما كتبته عن هذه الوجوه, مستعيدا مصطلح اللوحات القلمية الذي برع فيه المبدع العظيم يحيي حقي, والذي أضافت إليه كثيرا إبداعات الروائي الكبير خيري شلبي, لكني أستأذن في وصف ما كتبته بأنه لوحات شعرية قد تكون علي مسافة قريبة أو بعيدة من لوحات أخري عديدة. ولقد تطهرت شخصيا بكتابة بعض هذه اللوحات, لأن وجوهها رحلت من ذاكرتي بعد كتابتها, ولا أظنها ستعود, كما أسعدتني كل السعادة لوحات كنت أظن أني أكتبها لنفسي, وليس للآخرين, فإذا بهؤلاء الآخرين يلتفتون الي وجوهها الغائبة بالتذكر الجميل, والافتقاد المصحوب بالشجن, فأحس أن أصحابها كان كل منهم بالفعل قامة وقيمة, وكانت وجوههم في سماء حياتي وفضائها كواكب هادية, وإيناسا للقلب والعقل, ومصفاة شديدة النقاء لأوجاع الزمن وآثامه وأوضاره. أما الذين حكم علينا بأن نحيا ونتقلب بين ظهرانيهم وهم علي ما هم عليه مما تعافه النفوس وتمجه العقول فسيبقون دوما صرعي أحقادهم ومرارات خذلانهم, وطقوس نفاقهم وريائهم, شفاهم الله! المزيد من مقالات فاروق شوشة