بدء حجز وحدات المصريين بالخارج غدا في 5 مدن.. «الوطن» تنشر كراسة الشروط    طارق فهمي: خلافات بين إسرائيل وأمريكا بشأن العملية العسكرية في رفح الفلسطينية    «وفقًا للائحة».. إنبي يُعلن تأهله رسميًا إلى بطولة الكونفدرالية    ضبط مصنع تعبئة زيوت غير صالحة ومعاد استخدامها في الإسكندرية    ماذا قال عصام صاصا بعد الإفراج عنه عقب تسببه في وفاة شخص صدمه بسيارته ؟    «الأزهر للفتوى الإلكترونية»: الأشهر الحرم فيها نفحات وبركات    "السلع التموينية" تعلن ممارسة لاستيراد 40 ألف زيت خام مستورد    زراعة عين شمس تستضيف الملتقى التعريفي لتحالف مشاريع البيوتكنولوجي    تخفيض الحد الأدنى للفاتورة الإلكترونية إلى 25 ألف جنيها من أغسطس    محافظ الغربية يتابع استمرار الأعمال بمستشفيي طنطا العام والأورام    فرنسا تعرب عن «قلقها» إزاء الهجوم الإسرائيلي على رفح    الفريق أول محمد زكى يلتقى قائد القيادة المركزية الأمريكية    «عبدالمنعم» يتمسك بالإحتراف.. وإدارة الأهلي تنوي رفع قيمة عقده    أماني ضرغام: تكريمي اليوم اهديه لكل إمراة مصرية| فيديو    سفير مصر ببوليڤيا يحضر قداس عيد القيامة بكاتدرائية السيدة العذراء بسانتا كروس|صور    بصور من كواليس "بدون مقابل".. منة فضالي تكشف عن تعاون سينمائي جديد يجمعها ب خالد سليم    تعرف على موعد حفل نانسي عجرم ب باريس    صور ترصد استعدادات الامتحانات في 4274 مدرسة بالجيزة (تفاصيل)    بالفيديو.. خالد الجندي: الحكمة تقتضى علم المرء حدود قدراته وأبعاد أى قرار فى حياته    نائب رئيس جامعة الأزهر السابق: تعليم وتعلم اللغات أمر شرعي    مراقبة الأغذية بالدقهلية تكثف حملاتها بالمرور على 174 منشأة خلال أسبوع    في اليوم العالمي للربو.. مخاطر المرض وسبل الوقاية والعلاج    وصفة تايلاندية.. طريقة عمل سلطة الباذنجان    البورصات الخليجية تغلق على تراجع شبه جماعي مع تصاعد التوتر بالشرق الأوسط    وفد النادي الدولي للإعلام الرياضي يزور معهد الصحافة والعلوم الإخبارية في تونس    أمير منطقة المدينة المنورة يستقبل الرئيس التنفيذي لجمعية "لأجلهم"    جامعة القاهرة تعلن انطلاق فعاليات مهرجان المسرح الجامعي للعروض الطويلة    إصابة 4 أشخاص في حادث سقوط سيارة داخل ترعة في قنا    محافظ أسوان: تقديم الرعاية العلاجية ل 1140 مواطنا بنصر النوبة    البرلمان العربي: الهجوم الإسرائيلي على رفح الفلسطينية يقوض جهود التوصل لهدنة    وضع حجر أساس شاطئ النادي البحري لهيئة النيابة الإدارية ببيانكي غرب الإسكندرية    وائل كفوري ونوال الزغبي يحييان حفلًا غنائيًا بأمريكا في هذا الموعد (تفاصيل)    وزير الدفاع البريطاني يطلع البرلمان على الهجوم السيبراني على قاعدة بيانات أفراد القوات المسلحة    الرئاسة الفلسطينية تحمل واشنطن تبعات الاجتياح الإسرائيلي لرفح    بدء تطبيق نظام رقمنة أعمال شهادات الإيداع الدولية «GDR»    9 أيام إجازة متواصلة.. موعد عيد الأضحى 2024    انطلاق الأعمال التحضيرية للدورة ال32 من اللجنة العليا المشتركة المصرية الأردنية    انطلاق فعاليات المؤتمر السادس للبحوث الطلابية والإبداع بجامعة قناة السويس    ضبط متهم بالاستيلاء على بيانات بطاقات الدفع الإلكتروني الخاصة بأهالي المنيا    نصائح مهمة لطلاب ثانوي قبل دخول الامتحان.. «التابلت مش هيفصل أبدا»    الأمم المتحدة: العمليات العسكرية المكثفة ستجلب مزيدا من الموت واليأس ل 700 ألف امرأة وفتاة في رفح    المشاكل بيونايتد كبيرة.. تن هاج يعلق على مستوى فريقه بعد الهزيمة القاسية بالدوري    أسامة جلال يخضع لعملية جراحية ويغيب عن بيراميدز 3 أسابيع    بعد الإنجاز الأخير.. سام مرسي يتحدث عن مستقبله مع منتخب مصر    3 ظواهر جوية تضرب البلاد.. الأرصاد تكشف حالة الطقس على المحافظات    9 عروض مسرحية مجانية لقصور الثقافة بالغربية والبحيرة    بكتيريا وتسمم ونزلة معوية حادة.. «الصحة» تحذر من أضرار الفسيخ والرنجة وتوجه رسالة مهمة للمواطنين (تفاصيل)    15 صورة ترصد أسوأ إطلالات المشاهير على السجادة الحمراء في حفل Met Gala 2024    صدقي صخر يكشف مواصفات فتاة أحلامه.. وسبب لجوئه لطبيب نفسي    الجدول الزمني لانتخابات مجالس إدارات وعموميات الصحف القومية    عادات وتقاليد.. أهل الطفلة جانيت يكشفون سر طباعة صورتها على تيشرتات (فيديو)    ضبط نصف طن أسماك مملحة ولحوم ودواجن فاسدة بالمنيا    تفاصيل نارية.. تدخل الكبار لحل أزمة أفشة ومارسيل كولر    كيفية صلاة الصبح لمن فاته الفجر وحكم أدائها بعد شروق الشمس    عبد الجليل: استمرارية الانتصارات مهمة للزمالك في الموسم الحالي    زعيم المعارضة الإسرائيلي: على نتنياهو إنجاز صفقة التبادل.. وسأضمن له منع انهيار حكومته    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    هجوم ناري من الزمالك ضد التحكيم بسبب مباراة سموحة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالناصر قال لي: لو أخذني الناس إلي ميدان التحرير وشنقوني فيه لما اعترضت عليهم
نشر في القاهرة يوم 08 - 06 - 2010

في نهاية ساعات مأساوية وحزينة من يوم الخميس 8 يونية 1967 لم يكن أمام «جمال عبدالناصر» غير أن يتصل بالسيد «محمود رياض» وزير الحربية يطلب إليه أن يتصل بالسفير «القوني» بنيويورك ليبلغه أن الجمهورية العربية المتحدة توافق علي وقف إطلاق النار بدون أن تربط هذه الموافقة بضرورة انسحاب القوات الإسرائيلية إلي المواقع التي كانت فيها قبل أن ينشب القتال. وكانت تلك هي اللحظة التي اتصل فيها السيد «شمس بدران» بالرئيس «جمال عبدالناصر» يرجوه في المجيء إلي مقر القيادة العليا لأن «المشير مصمم علي الانتحار» وذهب «جمال عبدالناصر» لكي يرجو «عبدالحكيم عامر» في صوت مجروح «ألا يضيف الفضيحة إلي المصيبة».
كان المشهد الذي وجده «جمال عبدالناصر» في مكتب «عبدالحكيم عامر» حينما دخل إليه أشبه ما يكون بمشهد منتزع من إحدي قصص «كافكا» الروائي التشيكي المشهور بكآبة صوره وسوادها وثقلها إلي درجة الكابوس الجاثم.
كان واضحا أن «عبدالحكيم عامر» قد ضيع أعصابه تماما، وراحت أحواله النفسية تتأرجح من النقيض إلي النقيض، فقد راح يتحدث عن خيانات حوله، ثم يقفز إلي الاعتراف بمسئوليته ثم ينتقل مرة ثالثة إلي أن الموقف ليس ميئوسا منه بعد وأنه يفكر في خطة جديدة لمواصلة القتال، ثم يعاوده خاطر الانتحار ويروح يلوم الذين منعوه من تنفيذ محاولته.
كان «جمال عبدالناصر» قد توصل إلي اقتناع مؤداه أن النظام كله قد «انتهي» وهكذا فإن أول ما قاله ل «عبدالحكيم عامر» بعد ملاحظته الأولي عن الفضيحة والمصيبة هو قوله «إن أي نظام يعجز عن حماية حدود وطنه يفقد شرعيته وأنه مهما كانت أحزاننا الآن فإن علينا أن نعرف أن دورنا قد انتهي نهاية مأساوية ولم يبق أمامنا إلا مهمة أخيرة هي ترتيب «أوضاع البلد» بما يمكن معه تحقيق انتقال إلي ظروف تختلف اختلافا بينا عما هي الآن» واعترت «عبدالحكيم عامر» نوبة هياج فراح يقول «إن كل شيء لم يضع بعد» وسأله «جمال عبدالناصر» بأسي: «ما الذي بقي لم يضع؟» ورد «عبدالحكيم عامر»: «المقاومة الشعبية». ثم راح يتحدث عن توزيع السلاح علي الشعب لكي يقاوم، وأنه سبق أن سلم المقاومة الشعبية آلافا من البنادق، وهناك آلاف أخري يمكن تسليمها لها وهي تحت قيادة «زكريا محيي الدين».
وانضم إليه «شمس بدران» في الدعوة إلي المقاومة الشعبية وكان «زكريا محيي الدين» الذي دخل القاعة في ذلك الوقت يسمع ما يجري مذهولا وفي هذه اللحظة دخل أحد ضباط الارتباط بتقرير من الجبهة، وتوجه «جمال عبدالناصر» بسؤال إلي «شمس بدران» قال فيه: «ما هو الموقف في بورفؤاد؟» ولم تكن لدي أحد إجابة محددة، والتفت «جمال عبدالناصر» إلي السيد «زكريا محيي الدين» وطلب إليه أن تقوم المقاومة الشعبية بتعزيز الموقف في بور فؤاد بكل ثمن.
وكان «عبدالحكيم عامر» يتابع كل ذلك وعيناه مليئتان بنوع مخيف من الفراغ. والتفت إليه «جمال عبدالناصر» وطلب إليه أن يصحبه إلي الغرفة الملحقة بمكتبه لكي يتحدثا للمرة الأخيرة حديث رجال يقدرون مسئولية الظروف.
وفي هذا اللقاء المنفرد المتوتر بين الاثنين قال «جمال عبدالناصر» ل «عبدالحكيم عامر» إنه أصبح مقتنعا بضرورة اعتزاله للحياة العامة. فقد انتهي دوره وانتهت في رأيه ثورة 23 يوليو. وما بقي منها من مبادئ أو منجزات أصبح في أيدي الناس، وليس لنا أن نعطل طريقهم في تدبير أمورهم علي النحو الذي يرونه عندما تخف حدة الظرف العصيب الذي تواجهه الأمة الآن. ثم استدرك بملاحظة بدا أن تفكيره انتقل إليها وهي مشاعر القوات العائدة من سيناء بعد توقف القتال. واحتمال وقوع مشاكل بينها وبين جماهير الشعب التي انقضت عليها نتائج المعارك بطريقة قد تكون قابلة للاشتعال والانفجار.
ثم كان اقتراح «جمال عبدالناصر» بعد ذلك أنه سوف يقدم استقالته للأمة، وسوف يقترح في نفس الوقت أن يكون السيد «شمس بدران» رئيسا مؤقتا للجمهورية ريثما يمكن ترتيب الأمور. وكان ظنه في هذا الوقت أن وجود «شمس بدران» علي رأس الدولة وهو وزير الحربية قد يكون عاملا قادرا علي تفادي احتمال التصادم بين الجيش والجماهير.
وبدا «عبدالحكيم عامر» موافقا علي هذا الاقترح. ثم انضم إلي الاثنين كل من السيد «زكريا محيي الدين» والسيد «أنور السادات» والسيد «شمس بدران».
في الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم الخميس 8 يونية اتصل بي الرئيس «جمال عبدالناصر» بالتليفون في مكتبي بالأهرام وكنت أتابع منه مجري الحوادث في مصر وأصداءها خارجها. وبدا صوته لأول وهلة علي التليفون مثقلا بهموم الدنيا كلها. وقد سألني ما الذي اقترح عمله، وكان رأيي أنه لم يبق أمامه غير الاستقالة. وكان رده بالحرف: «غريبة.. هذا ما فكرت فيه تماما». وكان ردي أنه ليس هناك خيار آخر. وكان تعليقه بالموافقة.
وانتقل بالحديث إلي بعض التفاصيل مما جري قبل دقائق في مكتب «عبدالحكيم عامر» ابتداء من اعتزامه الانتحار إلي الاتفاق علي اختيار السيد «شمس بدران» رئيسا مؤقتا للجمهورية بعد إعلان استقالته. وكان كل تفصيل من تفصيلات ما قاله جرحا يصيب القلب والعقل معا!
ثم سألني في نهاية الحديث عما إذا كنت أستطيع - وكجهد أخير - أن أكتب خطاب استقالته للأمة بحيث يلقيه في اليوم التالي «الجمعة 9 يونية» وقلت «سوف أسهر عليه طول الليل، وهي مهمة لم أكن أتمني في حياتي أن يعهد بها إلي، ولكني أقبلها عارفا بمسئولية الظروف». ودار حوارنا لبعض الوقت عن النقط الرئيسية في الخطاب المطلوب. ثم اتفقنا علي أن يكون لقاؤنا في بيته في الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي.
في الساعة السادسة والنصف صباحا توجهت إلي بيت الرئيس «جمال عبدالناصر» ومعي مشروع الخطاب الذي طلب مني إعداده متضمنا إعلان استقالته للأمة. وكان قد كلفني بهذه المهمة في حديثه التليفوني مساء يوم الخميس وكانت تلك تجربة في الكتابة من أقسي ما عانيت في حياتي. وقد ظللت معها ليلة كاملة دون نوم تحت وطأة هم الكلمات وقبلها هموم الحوادث. وعندما ركبت السيارة في الطريق إلي بيت «جمال عبدالناصر» كان معي ملف فيه مشروع الخطاب الذي أرهقتني سطوره أكثر من أي شيء آخر كتبته من قبل.. وظننت أنني حفظت العبارات والألفاظ من كثرة ما راجعتها وغيرت فيها وبدلت وتركتها بجانبي، وأمسكت بنسخة من عدد «الأهرام» الصادر في ذلك اليوم والذي لم أكن قد شاركت في إعداده لأني كنت مأخوذا بالكامل بعيدا عنه كانت عناوين الصفة الأولي تتحدث عن معارك رهيبة بالمدرعات في سيناء، تلحق بها عناوين أخري تتحدث عن «مدد الطائرات الذي لا ينقطع عن العدو» وعن بيان للملك «حسين» يقول فيه «إن العدو كان معززا بقوات جوية تخرج عن نطاق إمكاناته» وعن «اتصالات مستمرة طوال يوم أمس بين كل الملوك والرؤساء العرب للوصول إلي موقف موحد يساعد عل دعم معركة الأمة العربية».
وبدت لي هذه العناوين كلها وغيرها بقايا مرحلة مضت وتوشك أن تلحقها اليوم مرحلة لا أظنها خطرت ببال أحد فمحتويات الخطاب الملقي بجانبي علي مقاعد السيارة كفيلة بأن تفتح عالما آخر مجهولا وموحشا توشك الأمة العربية أن تخطو إلي عتباته وتركت عدد «الأهرام» ورحت أتطلع إلي شوارع القاهرة والسيارة تمرق فيها في هذه الساعة المبكرة من الصباح كانت العاصمة ما زالت شبه نائمة، وبدت لي رقيقة وجميلة وحزينة لا تعرف ما تخبئه لها المقادير.. لقد عاشت أياما مرهقة شدت أعصابها علي الآخر، وهي الآن مقبلة علي يوم لم تتهيأ له، وهو يوم قد يكون فاصلا في حياتها، ومصائرها بعده معلقة بميزان دقيق.
ولأن الطريق كان خاليا، فقد وجدت سيارتي أمام بيت الرئيس «جمال عبدالناصر» في الساعة السابعة إلا عشر دقائق. وعرفت أنه كان في غرفة مكتبه منذ ساعات، وتوجهت إليه مباشرة وكان ممسكا بسماعة تليفون يناقش طرفا آخر.
ووقفت أمامه لثوان وعرفت من مسار الحديث أن الطرف الآخر هو «عبدالحكيم عامر» ثم فهمت بعد لحظات من متابعة النقاش أن «عبدالحكيم عامر» يبلغه بأن القوات الإسرائيلية تضغط بالغارات الجوية علي القوات غربي القناة، وأن هناك معلومات عن جسور منقولة علي حاملات ضخمة وكل التقديرات ترجح أنها محاولة إسرائيلية لعبور القناة إلي الضفة الغربية. كان «جمال عبدالناصر» يناقش هذه المعلومات وبدا لي الموضوع من أساسه في حاجة إلي تدقيق ويظهر أنني هززت رأسي بإشارة تحمل هذا المعني. وقال «جمال عبدالناصر» ل «عبدالحكيم عامر» علي التليفون إنني واقف أمامه ولدي ما أريد أن أقوله وأزاح سماعة التليفون و«عبدالحكيم عامر» معه علي الناحية الأخري من الخط، وتطلع نحوي منتظرا ما أقول. وأبديت رأيا مفاده أنني أستبعد تماما أن تكون هذه المعلومات صحيحة. أو أن تكون التقديرات المبنية عليها دقيقة. وأضفت أن إسرائيل حققت أكثر مما تريد، وعبورها للضفة الغربية من قناة السويس فوق ما تحتمله الموازين الدولية. وأيضا فوق ما تحتمله قواتها المشدودة الآن علي آخرها فقد وصلت هذه القوات بعد زحف طويل إلي الضفة الشرقية، وعبورها إلي الضفة الغربية معناه أن تجد نفسها داخلة في نوع من المعارك ليست مستعدة له خصوصا بعد زحفها الطويل، وهو معارك المدن. فالجيش الإسرائيلي لا يستطيع أن يواجه عملا أو حركة وسط التجمعات السكانية في منطقة القناة لأن ذلك سوف يعرضه إلي ما كان يتجنبه باستمرار. قلت ذلك باختصار، وأعاد «جمال عبدالناصر» سماعة التليفون إلي وضع الحديث الطبيعي وقال ل «عبدالحكيم عامر»: «إن هيكل له رأي وتقدير مختلف..» ثم لخص له وجهة نظري وطلب إليه أن يظل علي اتصال به إذا ما جد جديد.
وترك «جمال عبدالناصر» كرسي مكتبه، وجلس في مواجهتي علي مقعد آخر في الناحية الأخري من مكتبه. ولأول مرة كان في استطاعتي أن أري ملامح وجهه لقد كانت آخر مرة رأيته فيها قبل ذلك منذ ثمان وأربعين ساعة، وإن كانت اتصالات التليفون بيننا لم تنقطع. وهو الآن بعد 48 ساعة فقط يبدو وكأنه أضاف إلي عمره عشر سنوات علي الأقل.. كان مرهقا بشكل يصعب وصفه. وكانت في عينيه سحابة حزن لم أرها من قبل رغم أنني رأيته كثيرا في خضم أزمات عاتية سبقت.
وكانت ملاحظته الأولي بعد أن جلس هي ملاحظة «أن عبدالحكيم عامر ضيع أعصابه تماما» ثم تنهد وقال «وقد ضيع جيشه من قبلها». ثم استدرك قائلا «ولكنني المسئول. لا أستطيع أن ألوم أحدا إلا نفسي. والواقع أنني غاضب من نفسي بأكثر مما يتصور أحد». ثم تردد قبل أن تغلبه مشاعره، وانتقل إلي موضوع آخر فسألني عما فعلت. وأخرجت مشروع الخطاب من الظرف الذي وضعته فيه وقلت له« إنني أعددت مشروعا، ولكن لدي ملاحظة قبل أن أقرأه عليك»، وكانت ملاحظتي هي أنه قال لي بالأمس ونحن نتحدث عن تفاصيل النقاط التي يشملها الخطاب أنه قرر أن يكون السيد «شمس بدران» هو رئيس الجمهورية المؤقت بعد استقالته هو وأضفت «إنني حاولت أن أقنع نفسي بكتابة اسمه في سياق الخطاب ولم أستطع رغم كل المحاولات» وسألني بصوت متعب عن السبب وقلت «إنني أنا الذي أريد أن أسأله عن السبب، لماذا شمس بدران؟» وكان رده أنه شرح لي السبب بالأمس وهو أنه يخشي من احتكاك بين الجيش العائد جريحا من سيناء والجماهير الغاضبة بمفاجأة الهزيمة هنا «في البلد» وقلت له إنني لم أفهم هذه النقطة، وما فهمته منها أقنعني بعكسها وظل صامتا ينتظر مني إيضاحا لرأيي، واستطردت أقول «أولا فإن شمس بدران أحد المسئولين عما جري. وثانيا إن هذه المجموعة من أولها إلي آخرها لم يعد لها أي رصيد من ثقة الناس. ثم إن هناك في الأمر - وهذا هو السبب الثالث - محظورا لا يجب السماح بوقوعه ولا حتي بسوء الفهم ذلك أن معني تعيين وزير الحربية وهو مسئول ولو جزئيا عن الهزيمة بحجة تجنب احتمال صدام بين الجيش والشعب - يعني في المحصلة النهائية رخصة للقادة المهزومين بحق لهم فوق مشاعر الناس فالشعب سوف يغضب بلا جدال وهؤلاء القادة المهزومون ليس عندهم ما يدافعون به عن أنفسهم غير السلطة فإذا أصبح الرجل الذي كان وزيرا للحربية قبل الهزيمة رئيسا للجمهورية بعدها - إذن فالصدام قادم لا محالة ولا أظن أن ظروف البلد تحتمله الآن أو غدا».
وأحسست أن ما قلت لمس وترا حساسا في فكره، فقد كان تعليق «جمال عبدالناصر» عليه بعد لحظات من التأمل «أن ذلك آخر ما يفكر فيه» وعاد مرة أخري إلي تأمله الصامت، ثم استطرد: «ولكنني اتفقت مع عبدالحكيم عامر علي هذا الموضوع أمس»، وكان ردي هو أنه «إذا أذن لي فإنه هو وعبدالحكيم بالأمس كانا يفكران في غرفة مغلقة وفي إطار علاقة محدودة، بينما الأمور الآن أكبر بكثير من هذا الحيز وهذه الحدود، فهو الآن مصير بلد بجيشه وشعبه» ثم واصلت كلامي قائلا: «إنه وقد قرر الاستقالة وهو قرار سليم لا بديل له، فإن المنطق الطبيعي بعده أن تعود الأمور بالكامل للناس، فيكون هناك رئيس مؤقت مقبول منهم يشرف علي لم أجزاء الموقف وشظاياه، ثم يجري بعد ذلك استفتاء عاما للناس علي أساس جديد ودستور جديد، وبرنامج يلبي مطالب مرحلة مختلفة».
واستوقفه تعبير «شظايا» وأمن عليه قائلا: «إن مرحلة لم الشظايا المتناثرة هي الموضوع الذي يضغط علي أعصابه الآن ضغطا هائلا، فما جري جري، والمهم الآن إعادة نوع التماسك إلي البلد» ثم انتقل ليقول:« إنني أتمني أن يكون تحليلك لنوايا إسرائيل صحيحا لأنني أريد أن يكون في استطاعتي تثبيت وقف إطلاق النار قبل أن يسمع الناس هذا الكلام». قالها وأشار بيده إلي مشروع الخطاب الذي كانت أوراقه أمامنا علي المائدة. ثم سألني «إذا لم يكن شمس بدران فمن؟» وفكرت لثوان ثم سألته «من هو الأقدم بين الأعضاء الباقين من مجلس قيادة الثورة؟».. وفكر لحظة ثم رد: «زكريا محيي الدين».
وأبديت ما يفيد معني الارتياح، وقال هو «إن زكريا محيي الدين رجل عاقل، وهو ذكي» ثم سكت ثانية وراح بعض الوقت مع تأملاته. ولم أشأ مقاطعته وعاد هو للحديث وكأنه يخاطب نفسه قائلا: «إن زكريا فيه ميزات كبيرة، والمشكلة ماذا يكون رد الفعل عند القوات المسلحة وعند الاتحاد الاشتراكي؟» وعقبت قائلا: «إن أكثر ما يهم القوات المسلحة أن تجد في القيادة السياسية الآن رجلا عاقلا وذكيا وأما الاتحاد الاشتراكي فأسباب خلافي الطويل معه في شأنه لم تتغير. وما زلت حتي الآن غير مؤمن بفاعليته».
وعاد مرة أخري كمن يفكر بصوت عال يقول وكأنه ما زال يخاطب نفسه: «إن زكريا يمكن أن يكون مقبولا دوليا، وهو بالتأكيد قادر علي الحوار مع الأمريكيين. وهي ضرورة حتمية الآن، السوفييت قد لا يعجبهم اختياره بانطباعاتهم السطحية عنه». ثم مضي يقول: «لاحظ أن موضوع السوفييت موضوع مهم جدا، فالأمور كما هي الآن لا يمكن أن تقود إلي شيء، ولا يمكن أن يجيء شيء يمكن قبوله إلا بعد قتال يحصل فيه تصحيح الموازين كما هي أمامنا الآن. إذا كنا سنقبل بما هو قائم الآن فليس أمامنا إلا الاستسلام وإذا كنا نريد حلا حقيقيا فلن نستطيع الوصول إليه قبل معركة أخري. وهنا أهمية السوفييت».
كان لا يزال يواصل كلامه لنفسه كما أحسست قائلا: «قد يظهر لك أنني أتكلم بالخيال، ففي هذه الصورة التي نراها أمامنا الآن لا يمكن أن يتحدث عن القتال شخص عاقل. ومع ذلك فأنا لا أري أن أمامنا خيارا آخر. نحتاج إلي وقت. نحتاج إلي وقت قد يطول ولكن لابد لنا أن نعرف أن البديل الوحيد للاستسلام هو العودة مرة أخري إلي ميدان القتال. أنا لا أستبعد أن نحاول سياسيا بكل ما نستطيع ولكني لا أري أملا تحققه السياسة إذا لم تكن معتمدة علي واقع آخر غير واقعنا اليوم».
ثم عاد يناقش فكرة اختيار «زكريا محيي الدين» وأحسست أنه يقترب منها أكثر ثم طلب إلي أن أعيد عرض أسبابي في الاعتراض علي «شمس بدران» وفي الارتياح إلي «زكريا محيي الدين» وأن أحاول تفصيلها أكثر مما ذكرته في المرة الأول وفعلت ذلك ورحت أتحدث لعدة دقائق بغير مقاطعة من جانبه.
ثم سأل «هل أتحدث مع زكريا؟» ورد بنفسه علي سؤاله قائلا «لا فلو تحدثت إليه فمن المؤكد أنه سيعتذر».
واستطرد «الحقيقة أنه حمل ثقيل.. وكئيب أيضا والرجل لا ذنب له فيه..»
وكان واضحا أن اقتناعه باختيار «زكريا محيي الدين» يتزايد لحظة بعد أخري وطلب أن أقرأ عليه نص ما أعددت وكان يصغي صامتا حتي وصلت في سياق مشروع الخطاب إلي عبارة جاء فيها بالنص «وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي في الأزمة، فإنني علي استعداد لتحمل نصيبي من المسئولية...» وعندها قاطعني قائلا «إنه يعترض علي هذه الجملة لأنه يتحمل المسئولية كاملة ولا يري مجالا لتجزئتها بأن يتحمل «نصيبا منها» بينما هو يري أنه يتحمل المسئولية كلها». ولم أختلف معه فيما قال، وأعدت صياغة العبارة علي الفور فجعلتها كالآتي: «وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي في الأزمة فإنني علي استعداد لتحمل المسئولية كلها» وكان تعليقه علي هذه الصياغة الجديدة «أن تلك هي الحقيقة وهذا أدق وأكرم».
ونظر في ساعته وكانت الساعة قد أصبحت الثامنة والثلث وأبدي أنه يقدر لإلقاء خطابه الساعة السادسة أو السابعة بعد الظهر واقترح أن أذهب بمشروع الخطاب إلي مكتب السيد «سامي شرف» علي الناحية الأخري من الشارع في مقابة بيته لكي «يبدءوا» في طبعه علي الآلة الكاتبة حتي نستطيع أن نراجعه في صورته النهائية مرة ومرات قبل إعلانه وقال لي إنه سوف يظل في المكتب وهو يريدني أن أعود إليه بعد أن أعطي مشروع الخطاب للسيد «سامي شرف» وأتأكد من «أنهم» استطاعوا فك رموز خطي وكان دائما مصرا علي استحالة فك هذه الرموز قائلا إنه يعرف من السيد «سامي شرف» أن في مكتبه الآن خبيرا متخصصا في حل طلاسمه. وحملت مشروع الخطاب وسرت علي قدمي في اتجاه باب البيت وعبرت الشارع إلي مكتب السيد «سامي شرف».
كان «سامي شرف» في حالة من العصبية البالغة ويبدو أنه لم يكن في صورة آخر التطورات وعندما أعطيته نص مشروع الخطاب راح يقلب صفحاته بسرعة ويستقرئ ما يستطيع استقراءه من السطور والكلمات ووصل عند الفقرة التي يعلن فيها «جمال عبدالناصر» قراره ب «النتحي تماما ونهائيا عن أي منصب رسمي وأي دور رسمي» وأصابته حالة من الهستيريا فراح يصرخ بصوت عال بأن «هذا مستحيل.. ثم إنه حرام.. والله حرام.. وإنها مصيبة لا تقل عن المصيبة العسكرية». وبينما هو في حالة الهياج التي انتابته دق جرس التليفون الذي يصل بينه وبين «جمال عبدالناصر» فقد خطر للرئيس فيما يبدو أن يطلب منه شيئا. ويظهر أن «جمال عبدالناصر» فوجئ بحالة الهياج التي أصابت «سامي شرف» فطلب إليه أن يعطيني سماعة التليفون وسألني «جمال عبدالناصر» عن هذا الصراخ الذي سمعه وشرحت له بسرعة رد فعل «سامي شرف» وكان تعليقه عليه أنه «لا يريد أعصابا فلتانة الآن». وقلت له إنني سوف أتأكد من أن كل شيء يسير علي ما يرام، وأعود إليه في المكتب بأسرع ما يمكن واحتاجت تهدئة أعصاب «سامي شرف» إلي وقت حتي اقتنع بأن يطلب الموظف المختص في مكتبه بقراءة خطي ويعطيه مشروع الخطاب ويطلب إليه أن يجيء بآلته الكاتبة وأن يجلس أمامه في حجرته ليطبع ما هو مطلوب منه حفاظا علي السرية الكاملة.
وجاء الموظف المختص وهو السيد «عبدالرحمن سالم» ووقفت بجانبه حتي يقرأ نص الخطاب قبل أن يبدأ في طباعته فإذا ما استعصت عليه قراءة كلمة ساعدته علي فك رموزها. وعندما وصل السيد «عبدالرحمن سالم» إلي النقطة التي أثارت غضب السيد «سامي شرف» قبله لم ينفعل بالغضب وإنما انفعل بالبكاء فإذا هو يجهش به ودموعه تتساقط علي الورق.
وعاد الهياج العصبي مرة أخري إلي «سامي شرف» الذي قام من وراء مكتبه وهجم علي السيد «عبدالرحمن سالم» محاولا ضربه قائلا له بأعلي صوته: «كيف تطاوعك نفسك علي أن تكتب هذا الكلام؟!». وفوجئت بالسيد «عبدالرحمن سالم» المستسلم تماما للبكاء يقول إنه «لا يقدر ولا يستطيع أن يكتب هذا الكلام». واندفع خارجا من المكتب.
ووجدتني مضطرا إلي أن أقوم بمحاولة لتهدئة السيد «سامي شرف» نفسه. وكان مدخلي إليها من النقطة الحساسة التي أعرف أنها تؤثر عليه أكثر من غيرها وهي الولاء. وهكذا رحت أقول له: «سامي.. إن الرجل في محنة وليس أمامه إلا ما اختاره. ونحن نملك إحدي وسيلتين: إما أن نسهل له قراره ونساعده علي اجتياز المحنة بأقل قدر من الخسائر، وإما أن نضغط عليه وندفع بأعصابه إلي حد الانهيار - وهو شيء لا يليق بتاريخه ولا بالمكانة التي أعطتها له الأمة، وأعرف أن ذلك آخر ما يمكن أن يكون في قصدك الآن». وكانت عدوي البكاء قد انتقلت إلي السيد «سامي شرف».
وقضيت في مكتب «سامي شرف» قرابة الساعة حتي تأكدت من أن السيد «عبدالرحمن سالم» قد استطاع أخيرا أن يمسك بنص مشروع الخطاب، وأن يجلس أمام آلته الكاتبة ويبدأ في طبعه.
وبينما أنا أتهيأ للعودة لمكتب «جمال عبدالناصر» كان هو يدق التليفون في استعجالي، وقلت إنني في الطريق، ومرة أخري عبرت الشارع عائدًا من باب البيت إلي مكتب «جمال عبدالناصر»، وكانت آخر الأخبار لديه أن وقف إطلاق النار يتماسك، وأن المعلومات التي أبلغت إليه عن خطة إسرائيلية لعبور قناة السويس إلي الغرب لم تكن دقيقة. والواقع أن الدولة كانت تبدو في تلك الساعات الحرجة وكأنها كيان أصيب بالشلل. واستأذنت «جمال عبدالناصر» في أن أتصل من عنده بمكتبي في «الأهرام» لأعرف آخر ما حملته وكالات الأنباء، وكانت أهم الأخبار فيما تلقيته هي أصداء موقف سوفيتي قوي تجاه عملية اليوم الأخير ضد سوريا. وكان تعليق «جمال عبدالناصر» علي ما سمعه مني عن موقف السوفيت هو قوله بمرارة «لقد تأخروا كثيرًا لكي يظهروا هذا الحزم ويعلنوه»! ثم أضاف «علي أي حال فأنا لا أستطيع أن ألومهم». ثم أردف بها قوله «إنني لا أستطيع أن أتصور ما سيفعله الناس. والله لو أنهم أخذوني إلي ميدان التحرير وشنقوني فيه لما اعترضت عليهم.. لهم الحق». وأبديت ملاحظة مؤداها «أنه ليست هناك ضرورة لأن يدفع مشاعره إلي هذه الدرجة. فما حدث له شيء حدث من قبل كثيرًا في التاريخ واعتقادي أن البلد واجه نكسة، ولكنه قادر علي القيام منها بقواه الذاتية، فهي أمة أصيلة وقلبها عامر بموارد إنسانية قد لا نستطيع اكتشافها في الأوقات العادية ولكن المحن وحدها تبرز معدن الأمم». وهز رأسه بما يعني فهمه لما قلت، ثم قالت «إن فهمه للقوي الكامنة في الشعب المصري هو الذي سهل عليه قراره بالاستقالة». ثم أضاف إنه «شعر أن وجوده قد يكون عبئًا علي الأمة في محاولة تضميد الجراح والعودة مرة أخري إلي ساحة الصراع. فالأمور تقتضي ضرورة نوع من التعامل مع الولايات المتحدة. وهو لا يشعر أنه قادر عليه لأن قلبه مليء بالمرارة منهم، وهذا شعور خطر في العمل السياسي، فنحن في العمل السياسي لا نستطيع أن نحكم عوامل الحب والكره، وإنما لابد من تحكيم عامل المصلحة. كذلك فإنه في اعماق قلبه يشعر بعتب شديد علي السوفيت. لكن هذا أيضًا شعور خاطئ، ففي السياسة لا يوجد مجال للعتاب،. وإذا كان ضروريا أن نعود مرة أخري إلي ميدان القتال فإن صفحة جديدة لابد من فتحها مع السوفيت، لأننا سوف نكون في حاجة إليهم لإعادة قواتنا مرة أخري».
وسكت قليلاً ثم عاد يستعرض تفاصيل الأزمة منذ بدايتها والعوامل التي حكمت إدارته لها. وكان تقدير «أنهم» تمكنوا من «اصطيادنا» وأن «جونسون» حقق ما كان يريد، ولكن هذا لن ينفعه لأن العالم العربي كله سوف يستطيع في يوم آخر أن يستعيد الأمور في يده.
ثم كرر تعبير «الاصطياد» مضيفًا إليه هذه المرة أن «الصورة كانت واضحة ومع ذلك فإننا لم نستطع تجنب الفخ، وكان تجنبه صعبًا، فلو أننا لم نتحرك لتأييد سوريا لانفرط العالم العربي باليأس وتراجعت الفكرة كلها».
ثم هز رأسه غير مصدق وقائلاً «إنه حتي هذه اللحظة لا يستطيع أن يتصور أن «الجيش راح بهذه الطريقة من يد «عبدالحكيم».
وكان واضحًا أن بعض مشاهد الأزمة مازالت تحيره ولم يصل في شأنها إلي جواب. وكان من بين هذه المشاهد اقتراح «يوثانت» بشأن إعلان «موراتوريوم» علي كل التصرفات في خليج العقبة لمدة أسبوعين، وما الذي حدث بشأن هذه الفكرة بالضبط في واشنطن.
كذلك كانت حيرته بادية تجاه ما حدث بالضبط علي الجبهة الأردنية وعلي الجبهة السورية، وفي مواقف عدد من الأطراف العربية الأخري، وفي المقدمة منهم الملك «فيصل». ويظهر أن حديث الألغاز قاده مرة أخري إلي «زكريا محيي الدين» فقال إنه «يتمني أن يستطيع زكريا حل كل هذه الألغاز بخبرته كمدير مخابرات ووزير داخلية سابق». ثم راحل يحلل المسئوليات والخيارات التي تنتظر «زكريا محيي الدين»، فقال «إن أمامنا أربعة خيارات نظرية: إما أن نتفق مع اليهود وهذا مستحيل، وإما أن نتفق مع الأمريكان وهذا أيضًا مستحيل لأنهم لا يضمرون لنا خيرًا والفخ الذي نصبوه لنا سوف يساعدهم أكثر علي الشر نحونا، وإما أن نتفق مع السوفيت وهذا بدوره مستحيل أيضًا، لأن علاقتنا مع السوفيت تعاون ولا يمكن دفعها إلي ما هو أبعد وإلا أصبحنا مثل دول أوروبا الشرقية. وهذا يدخلنا في الاستقطاب الدولي. يبقي الحل الرابع وهو أن نتفق مع أنفسنا، وهذا هو الممكن الوحيد رغم أنني أجد الطريق إليه صعبًا». ثم أضاف «إن زكريا «نبيه» ومناور من الدرجة الأولي، وسوف يستطيع مواجهة الضرورات».ثم انتقل ليلاحظ أنه لم يتصور في يوم من الأيام أن «زكريا محيي الدين» هو الذي سيخلفه. وكان يتصور باستمرار أن يخلفه «عبدالحكيم عامر»، فقد كان «أول عضو تمكنت من ضمه إلي تنظيم الضباط الأحرار، وفي السودان كان معي ليل نهار، وبعد الثورة تركت له التنظيم في القوات المسلحة. قربه مني كان مشكلة المشاكل في مجلس الثورة. كانت «الخناقة» في المجلس باستمرار علي موقع الرجل الثاني، وقد وقفت معه معتقدًا بأن معدن «فلاح الصعيد» فيه سليم، وأنه يمكن أن يكون المؤتمن علي الثورة».
ثم استطرد وكلامه مازال عن «عبدالحكيم عامر»: «إنه تغير، وكان لازما أن أري أنه تغير كثيرًا بعد «سوريا»... عندما رجع بعد الانفصال كان مكسورًا وأراد أن يعوض، وتسامحت معه كثيرًا لأني قدرت أنه يريد أن يعوض. يظهر أنني أخطأت التسامح معه أضره أكثر مما أفاده وأفاد البلد. تغير أكثر في السنة الأخيرة، وكنت ألاحظ ولا أربط بشكل كاف. لاحظت أن قمصانه وربطات عنقه تحسنت فجأة. وملابسه كلها. ولفتت نظري مرات كلمات غريبة علي قاموسه يرددها. ونغمة يسار بالألفاظ تزيد أكثر علي لسانه. وكان يجب أن أعرف أن مؤثرات أخري دخلت حياته ولم تتركه كما كنت أعرف.
«ظننته الضعف الإنساني لرجل خام واجه الغواية لأول مرة ولكنه كان الغرق!». واستأذنته في دقائق أذهب فيها إلي مكتب «سامي شرف» لأري إلي أي مدي وصلوا في كتابة خطابه.
وعدت إليه بعد قرابة نصف ساعة بنسخة كاملة من الخطاب، وراحت عيناه تجريان علي سطورها في صمت.
ثم طرأ له خاطر عبر عنه بقوله «إنه يتصور أن الناس بعد مفاجأة استقالته سوف يطالبون معرفة الحقيقة فيما حدث، وهو حقهم، ولست أعرف السبيل إلي تحقيق هذا الطلب، فهو ضروري لمستقبل العمل، ولكني أخشي أن يتصور أحد أنني بأي شيء أقوله أحاول إشراك غيري في المسئولية، والله يعلم أنني لا أفكر في شيء من ذلك، فأنا نازل عند حكمة الله في قضائه، ولكن الحقيقة يجب أن تكون واضحة للناس».
وأكمل خاطره قائلاً: «وزكريا له الحق في أن يعرف أشياء كثيرة مادام كتب عليه أن «يشيل» العبء. هناك أشياءكثيرة يعرفها، وهناك أشياء لا بد له أن يعرفها، وهو ليس متأكدًا كيف ومتي تتاح له هذه الفرصة».
ثم طلب «جمال عبدالناصر» مني أن أقرأ عليه نص الخطاب بصوت مسموع حتي يتعود عليه ولا ينفعل أثناء إلقائه. وقرأت عليه، وحاول أن يقيس الفترة اللازمة لإلقائه، وقدرها بثلث ساعة. وكان ظنه أنها فترة طويلة ومؤلمة عليه وعلي الناس، وكان تعليقي أنه يصعب اختصار شيء منها، وأنها في ظني أقصر ما يمكن أن يقال في مثل هذا الظرف.
وطرأ علي باله «أن عبدالحكيم عامر عندما يسمع الخطاب سوف يفاجأ باسم زكريا محيي الدين في الوقت الذي كان يتوقع فيه اسم شمس بدران. وسوف يكون أول ما يخطر علي باله بالحالة النفسية التي هو عليها الآن أنني خدعته وكنت أعرف طول الوقت أنني اخترت زكريا محيي الدين ولكنني ذكرت اسم شمس بدران لكي أخدره».
ثم قال «إنه مقتنع أكثر باختيار زكريا محيي الدين، وأنه يتمني أن يتصرف عبدالحكيم للمرة الأخيرة كرجل مسئول وألا يخلق المشاكل لزكريا بأي حماقات من «شلته». وإذا حدث ذلك فسوف يتصدي هو له حتي ولو كان ذلك آخر ما يفعله في هذه الدنيا، لأن الرجل الذي سيحمل هذه «الشيلة» ليس في حاجة إلي مشاكل جديدة توضع أمامه».
وانتقل إلي محاولة لتصور الأوضاع في المرحلة المقبلة، وكان تقديره أن الظروف سوف تستوجب مؤتمر قمة عربية، وأن الكل يجب أن يشارك في المرحلة المقبلة.
وأضاف «كانت حجتهم دائمًا هي جمال عبدالناصر.. هو الذي يثير المتاعب لهم ولأصدقائهم. جونسون كان يقول ذلك. وفيصل كان يقولها أيضًا. وكثيرون قالوها. سوف تبطل هذه الحجة وعلي الكل أن يواجه الحقيقة، فإما أننا أمة واحدة، وإما أننا نتحدث عن وهم. إما أن تقدر هذه الأمة في يوم من الأيام علي تحقيق ما تريد، وإما أن تقبل بالاستسلام لإسرائيل ومن وراءها».
كانت الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر، وأحسست أنه ربما يريد أن يستريح بعض الوقت قبل أن يحين موعد إلقاء خطابه. واستأذنته أن أنصرف، وطلب أن أبقي معه إذا لم يكن لدي شيء عاجل. وأنكرت عليه أن يخطر بباله أن هناك شئًا آخر يعادل في أهميته أن أكون معه في هذه الساعة. وبدا عليه التأثر ثم تمالك نفسه بسرعة قائلاً إنه يريد أن يتجنب أي انفعال عاطفي زائد قبل أن يظهر أمام الناس.
وعدنا إلي الحديث عن الناس، وعن آمال هذا الجيل ومعاركه ومقاديره. وعندما بلغت الساعة الخامسة وخمس دقائق نظر في ساعته وسألني فجأة: «ألا تريد أن تجئ معي إلي القبة وتحضر إلقاء الخطاب؟». وقلت له إنني أرجوه أن يعفيني من هذه التجربة، فهي أكثر مما أستطيع احتماله، وكل ما أدعو الله به أن يوقفه في هذا الموقف الذي سيقف فيه أمام الأمة.
وفاضت مشاعره وقال إنني كنت معه أكثر من أخ، وهو لا يعلم هذه اللحظة ماذا سوف يحدث غدًا، وإذا كنا سنلتقي مرة أخري في يوم من الأيام أو أنه اللقاء الأخير.
ثم تحدث بطريقة حميمة عن الصداقة التي جمعت بيننا وقال في النهاية «إن علي أن أعرف إلي آخر العمر أن لي أخًا..».
وقاطعته قائلاً: «إننا بهذا النوع من الحديث نقع فيما كنا ننهي أنفسنا عنه ونسلمها للانفعالات قبل أن يلقي خطابه، وإنني في كل الأحوال سعيد بما أديته إلي جانبه من دور، وقد خدمت فيه بلدي بآخر ما أستطيع من جهد»، وقال كلمات رقيقة أخري، ثم قطع كلامه فجأة وقال: «إن خدمتك للبلد لم تنته بعد. مازالت أمامك خدمة أخري أرجو أن تؤديها». ونظرت إليه متسائلاً وقال: «إنه بعد أن يعود من إلقاء خطابه سوف يدخل إلي غرفته ويعزل نفسه تمامًا عن الناس والعالم. وهو يعرف أنه قد تثور مشاكل ومضاعفات، وكل ما يطلبه مني أن أكون هذه الليلة مسئولاً عن أي شيء يذاع أو يقال باسمه أو نيابة عنه حتي يتمكن زكريا غدًا من حلف اليمين أمام مجلس الأمة ويتسلم مسئوليته. إنني سوف أعطي التعليمات بذلك إلي شعراوي جمعة وإلي سامي شرف وإلي محمد فايق حتي لا تذاع أو تقال كلمة إلا بعد الرجوع إليك».
ثم أضاف «جمال عبدالناصر» قائلاً: «إنت تعرف كل تفاصيل الأوضاع وتتفهم دواعيها، ثم إنك تستطيع أن تقف في وجه الكل... المهم ألا تقال كلمة طائشة، أو يفلت شيء يصعب تداركه..».
ثم كان سؤاله الأخير عن علاقتي ب «زكريا محيي الدين» قائلاً إنه يعرف أنها طيبة. وقلت له «إنني لا أنوي أن أكرر دوري بجانبه مع أي رجل آخر، ولكني سأقبل تكليفه عارفًا بدقة الظروف حتي يتمكن زكريا محيي الدين من تسلم مسئولياته».
ونهضت من مقعدي ونهض.
ومد يده مسلمًا ومددت يدي.
ولمحت دمعة في عينيه لأول مرة في حياتي. واستدرت خارجًا من غرفة مكتبه، فلم أكن أريده أن يري دمعة أخري في عيني!
«عن كتاب: الانفجار 1967»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.