تعرضنا في الحلقات السابقة إلي خطاب ليونيد برجنيف الزعيم السوفيتي أمام الحزب الشيوعي السوفيتي عن حرب 1967 التي مكنت إسرائيل من احتلال أراضي ثلاث دول عربية هي مصر وسوريا والأردن، والقي باللائمة علي القيادات العربية وخاصة مصر بسبب الخطوات المتسرعة وغير المدروسة التي سبقت الحرب وأعطت إسرائيل الحجة لشن عدوانها وحتي بعد العدوان كانت القياداة المصرية بالذات متذبذبة في مواقفها. كنت في تلك الفترة أعمل في مكتب وزير الخارجية محمود رياض وهو من أفضل وزراء الخارجية المصريين ذو حس وطني وكان عسكريا سابقا وشارك في مفاوضات الهدنة مع إسرائيل بعد حرب 1948 وخدم سفيرا لمصر في سوريا وكان مقربا من عبدالناصر بالذات ومحل ثقته، ولكن علي حد تقديري المتواضع - ولست متأكدا مائة في المائة فإن كثيرا من القرارات التي اتخذها جمال عبدالناصر لم تتم فيها استشارة محمود رياض بدرجة كافية أو يطلب منه دراستها من الناحية السياسية من قبل وزارة الخارجية أو التمهيد لها، وإنما كانت - كالعادة - تتخذ ويطلب من الخارجية تنفيذها و«لملمة» الأمر. عاصرنا النصف الثاني من شهر مايو قبل الحرب وكنا كلنا متحمسين للغاية مثل بقية الشعب المصري والشعوب العربية بضرورة الوقوف ضد إسرائيل وإذا كنا كدبلوماسيين اعتقدنا أن بعض الخطوات لم يمهد لها بطريقة مناسبة مثل إغلاق خليج العقبة وسحب قوات الأممالمتحدة، إلا أننا من فرط حماسنا رأينا أنها تدخل في إطار المواجهة الشاملة مع إسرائيل من أجل استعادة حقوق شعب فلسطين وكلنا كنا علي ثقة مطلقة في قدرة قواتنا المسلحة علي إلحاق هزيمة ساحقة بإسرائيل. كنا ندرس احتمالات تداعي الموقف وكان الاتجاه هو ضرورة العمل علي عدم دفع واشنطون لتأييد إسرائيل عسكريا علي الأقل لم ننتبه بالدرجة الكافية إلي انحياز الرئيس الأمريكي ليندون جونسون المطلق لإسرائيل بل وحثه لها لمواجهة عبدالناصر، كانت العلاقات بين القاهرة وواشنطون متوترة ليست فقط بسبب النزاع مع إسرائيل بل بسبب موضوعات أخري اتخذت فيها القاهرة موقفا معارضا لواشنطون مثل أزمة الكونجو واتجاه الصحافة ووسائل الإعلام المصرية إلي شن حملات ضد السياسة الأمريكية بكل شدة، كما ساهم عبدالناصر في خطاباته أمام الجماهير في لوم الولاياتالمتحدة علي مواقفها داعيا الجماهير العربية للتعبئة ضدها هذا فضلا عن أن اللوبي الإسرائيلي اليهودي في الولاياتالمتحدة مارس ضغطا، الرئيس جونسون الذي لم يكن في حاجة إلي مثل هذا الضغط بل كان متجاوبا معه إلي حد كبير ومقتنعا بضرورة ما سماه تأديب عبدالناصر. في الأيام الأولي للحرب لم نصدق الأنباء التي ظهرت في الخارج عن تدمير سلاح الطيران المصري وتقدم القوات الإسرائيلية في سيناء وسوريا والضفة الغربية وحتي يوم 8 يونيو كنا علي ثقة من صمود الجيش المصري، صحيح يدور قتال داخل سيناء ولم تدخل قواتنا إسرائيل، إلا أن الأخيرة في موقف دفاعي. في مساء هذا اليوم سلمني الوزير محمود رياض برقية لارسالها إلي وفدنا بنيويورك لقبول قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، كان الأمر بمثابة الصاعقة لنا وخاصة الدبلوماسيين الشبان ومن فرط انفعالنا ناقشنا الوزير محمود رياض بأن ذلك يمثل تنازلات مصرية كبيرة لا داعي لها، ولكن من نظرات عينيه ادركنا أن الأمور سيئة أكثر مما نتصور وأرسلنا البرقية مكرهين إلي نيويورك. بالرغم من العلاقات «المتميزة» بين موسكووالقاهرة فإن السفير السوفيتي فينوجرادوف وهو من أفضل سفراء الاتحاد السوفيتي بالقاهرة ورأس فيما بعد جمعية الصداقة المصرية السوفيتية، لم يكن يتردد في هذه الأيام كعادته علي مكتب وزير الخارجية كما كان يفعل قبل الحرب وكانت كل اتصالاته مباشرة مع الرئيس عبدالناصر نفسه في المرات القليلة التي شاهدناه فيها كان حزينا جدا إذ اعتبر أن الهزيمة هي لبلاده نفسها الاتحاد السوفيتي ولكن لم يوجه أي كلمة لوم إلي مصر أو القيادة المصرية سواء السياسية أو العسكرية وإنما كان يردد بكل قوة البيانات الرسمية لحكومته ضد إسرائيل وأعتقد أنه كان مخلصا في شعوره بإدانة إسرائيل وأنها عملية واشنطون التي كانت في صراع مع الاتحاد السوفيتي نفسه، وإنها مجرد مخلب قط لتنفيذ السياسة الأمريكية. هذه مجرد بعض الانطباعات الشخصية، ونعود في الحلقة القادمة إلي التعرض إلي خطاب برجنيف أمام الحزب الشيوعي السوفيتي وخاصة التطورات في مجلس الأمن. أمين عام الجمعية الأفريقية