تعرضنا في حلقتين سابقتين إلي الخطاب الذي ألقاه الزعيم السوفيتي ليونيد برجنيف سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفيتي والحاكم الفعلي في اجتماع اللجنة المركزية للحزب بعد عدوان إسرائيل علي مصر وسوريا والضفة الغربية في يونيو 1967، الخطاب ظل سريا ولم نسمع به إلا من وثيقة بولندية داخل حلف وارسو الذي كان يضم كل الدول ذات التوجه الشيوعي في شرق أوروبا إلي جانب الاتحاد السوفيتي، وكان من ضمن الوثائق التي حصلت عليها الولاياتالمتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. كان برجنيف قد لام مصر والرئيس عبدالناصر بالتسبب في نشوب الحرب نتيجة إجراءات غير مدروسة لم تتم استشارة موسكو فيها مثل اغلاق خليج العقبة فجأة أمام الملاحة الإسرائيلية وطلب سحب القوات الدولية عن الحدود بين مصر وإسرائيل، وهو الأمر الذي ورط الاتحاد السوفيتي نفسه الذي يعتبر أن البلدين حليفين وصديقين. أشار برجنيف إلي التطورات التي سبقت الحرب وخاصة تلك التي حدثت في النصف الثاني من مايو 1967 «أي قبل ثلاثة أسابيع من الحرب» فقال إنه علي ضوء ذلك فإن الأسلوب الوحيد أمام موسكو كان هو اتخاذ إجراءات من أجل افشال الخطط الإسرائيلية العدوانية وتوجب علي المصريين والسوريين أن يعملا بحرص ويتفاديا أي عمليات استفزازية تدفع إسرائيل إلي شن حرب. أكد برجنيف في خطابه أن الاتحاد السوفيتي ساهم بكل الوسائل في مساعدة الدول العربية في اتباع السياسة المناسبة وحذر العرب بأن خطاباتهم العدائية والدعوة إلي إبادة إسرائيل ستؤدي إلي اشعال الحرب. وخلال اجتماع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي «طلبنا من الرئيس السوري الاتاسي «لم يكن حافظ الأسد بعد قد استولي علي السلطة وأصبح رئيسا للجمهورية في دمشق» الذي كان في زيارة لموسكو أن يكون أكثر حذرًا من المؤامرات الامبريالية وفي نفس الوقت أن يتجنب اتخاذ أي إجراءات قد تستخدم كذريعة للحرب من جانب الدوائر العسكرية الموالية للامبرالية في إسرائيل إذ إن نشوب أي نزاع مسلح سيضر بالدول العربية». لم تقصر موسكو تحذيراتها لسوريا فقد بعثت يوم 20 مايو 1967 «بعد يوم واحد من إعلان القاهرة إغلاق خليج العقبة وسحب قوات الأممالمتحدة» بخطاب إلي الرئيس عبدالناصر أكدت فيه الحاجة الماسة لفعل كل ما يمكن من أجل تفادي الحرب مع إسرائيل، بعد قراءة عبدالناصر للخطاب أكد عبدالناصر للسفير السوفيتي بالقاهرة أنه يشارك بالكامل وجهة النظر السوفيتية وأن مصر لن تكون هي البادئة بشن الحرب، وخلال زيارة وزير الحربية المصري شمس بدران لموسكو أكد أن مصر لا تعتزم شن الحرب ضد إسرائيل وأنها مستعدة للتعامل مع موضوع حرية الملاحة في خليج العقبة. أود أن أعلق علي هذه النقطة من جانبي فأقول لعلنا نتذكر ما رافق زيارة شمس بدران لموسكو وما تردد من أنه فسر قول القيادة السوفيتية له قبل مغادرته أن موسكو مع مصر، بأن الاتحاد السوفيتي علي استعداد لتأييد القاهرة إلي أقصي حد بأن ذلك يعني أن موسكو ستساعد مصر حتي في حالة نشوب الحرب، وأن ذلك هو ما نقل إلي الرئيس عبدالناصر ودفع القاهرة إلي اتخاذ سياسة متشددة. هذه مجرد شائعات لم تثبت في أي وثائق حتي الآن، وعلي العموم فإن عبدالناصر كان مصمما في البداية علي موقفه ولم يستطع التراجع بعد أن أيقن أن مصر في مأزق وعندما حاول كان الوقت متأخرًا لأن إسرائيل كانت قد وضعت بالفعل خطط الحرب بتأييد من الرئيس الأمريكي جونسون الذي كان مواليا جدًا لإسرائيل ولم يكن علي علاقة طيبة مع عبدالناصر. تعرض برجنيف في خطابه إلي الحرب الخاطفة التي شنتها إسرائيل وقال إنه علي الصعيد العسكري فإن النتائج لم تكن مواتية لكل من مصر وسوريا والأردن خاصة بسبب فقد مصر وسوريا للجزء الأكبر من سلاحهما الجوي ففي ضربة جوية واحدة تم فقد 270 طائرة وهي جاثمة علي الأرض وبذلك أصبحت القوات البرية دون أي غطاء جوي وأصبحت الفرق المدرعة والمشاة مكشوفة أمام سلاح الطيران الإسرائيلي. وخلال ستة أيام تمكنت إسرائيل من الحد كثيرًا من قدرة مصر العسكرية وأن تدمر الجيش الأردني بالكامل وتعرضت سوريا كذلك إلي خسائر فادحة، وبذلك يمكن القول إن القيادات العسكرية في مصر وسوريا أخفقت في اتخاذ إجراءات مناسبة لردع الهجوم الإسرائيلي. عدد برجنيف التسلح العربي عند نشوب الحرب أمام اجتماع الحزب الشيوعي السوفيتي فقال إن القوات المسلحة لكل من مصر وسوريا والجزائر والعراق كانت مائة في المائة لديها أسلحة حديثة قدمت من جانب الاتحاد السوفيتي والدول «الاشتراكية» وطائرات بأسعار مخفضة إلي جانب الأسلحة المضادة للطائرات وصواريخ أرض/ جو وسفن حربية، وتدرب عدد كبير من العرب في المعاهد العسكرية السوفيتية وبذلك يمكن القول إن الدول العربية كانت تتفوق علي إسرائيل عسكريا سواء في الأسلحة أو الجنود بما يفوق علي الأقل المرة والنصف مما كان يمكنها أن تتعامل بكفاءة مع أي هجوم إسرائيلي وأن تلحق به هزيمة ساحقة، ولكن اليومين الأولين من الحرب أثبتا أن قدرة العرب القتالية وحتي معنويات الجيوش العربية كانت منخفضة للغاية. وبذلك يكون الاتحاد السوفيتي قد لام القيادات السياسية العربية والقيادات العسكرية علي السواء بأنها مسئولة عن الهزيمة الضخمة التي لحقت بالدول العربية. في الحلقة القادمة سيروي لنا برجنيف كيف تعاملت موسكو مع عبدالناصر خلال الأيام الأولي من الحرب وكيف أن عبدالناصر كان متفائلاً في تقديره للعمليات العسكرية!