تعرضنا في حلقات سابقة إلي تذبذب العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتي بالرغم من كل مظاهر التعاون بينهما من تزويد القاهرة بمعدات عسكرية متطورة لم يكن في استطاعة مصر الحصول عليها من أي مصدر آخر بعد أن أوقفت واشنطن وبريطانيا وفرنسا تزويد مصر بأي أسلحة منذ فترة طويلة، كذلك مساهمة موسكو بقوة في إنشاء السد العالي وعملية التصنيع في مصر. صحيح أن الاتحاد السوفيتي استفاد من مصر في منافسته للولايات المتحدة والكتلة الغربية وخاصة تزعم مصر إنشاء حركة عدم الانحياز التي ضمت عشرات من الدول النامية التي استقلت حديثا أو تلك التي كانت مستقلة وكانت محسوبة ضمن النفوذ الغربي. المشكلة بين البلدين هي أن موسكو لم تنظر إلي عبدالناصر باعتباره زعيما وطنيا إلا أنه ليس تقدميا في نفس الوقت وبدرجة كافية لأنه قمع الحركة الشيوعية في مصر وساعد علي قمعها في العالم العربي. في عام 1967 فوجئت موسكو بالتطورات السريعة خلال شهر مايو من نفس العام والتي انتهت بحرب يونيو 1967 واعتبرت أن القاهرة قامت بخطوات متسرعة وغير محسوبة العواقب وأنها مسئولة عن تدهور الموقف وورطت الاتحاد السوفيتي في نتائج هزيمة 1967. كان علي برجينيف أن يتعامل بالتوضيح والشرح بل وتبرير علاقة موسكو مع مصر خلال وقبل هذه الفترة، ولذلك ألقي خطابا أمام الحزب الشيوعي السوفيتي كان في مجمله تحميل لمصر وعبدالناصر بالذات لأن الرأي العام الروسي كان يتساءل لماذا غدقت موسكو كل هذه الكميات من الأسلحة والقروض علي دولة انتهت في آخر الأمر بتوريط بلدهم دون استشارتها؟ نتعرض الآن إلي الباقي في خطاب ليونيد برجنيف سكرتير الحزب وأهم قادة الاتحاد السوفيتي، ويتضح فيه أنه بعد أن صدم الاتحاد السوفيتي من الهزيمة المروعة لحلفائه وصل إلي استنتاج سريع مع ذلك بأنه يتوجب عليه مساعدة القاهرة بأسرع وقت عسكريا وسياسيا والأفضل دبلوماسيا في المدي القصير، لأنه أدرك أن واشنطن التي أيدت في عهد الرئيس الأمريكي جونسون إسرائيل علي طول الخط ستستغل هزيمة حلفاء الاتحاد السوفيتي، في الشرق الأوسط في إطار المنافسة العالمية بين الكتلتين الأعظم الأولي تحت رعاية موسكو والثانية تحت زعامة واشنطن، هذا الخطاب الذي نشر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينيات من القرن الماضي كان ضمن وثائق حلف وارسو ولم تقم موسكو نفسها بنشره في حينه. روي بريجينيف اتصالات عبدالناصر مع سفير الاتحاد السوفيتي بالقاهرة وطلب تدخل الاتحاد السوفيتي فقال إنه في صباح 8 يونيو 1967 أي بعد ثلاثة أيام من الحرب طلبت موسكو من بعثتها لدي الأممالمتحدة أن تقدم مشروع قرار إلي مجلس الأمن ينص علي الوقف الفوري للعمليات العسكرية وانسحاب القوات الإسرائيلية إلي خطوط هدنة 1949 التي توصلت إليها مصر في مفاوضات رودس بعد حرب فلسطين عام 1948، وبعد ظهر نفس اليوم تقدم عبدالناصر بطلب مماثل إلي موسكو التي تلقت هذا الطلب بعد أن كانت قد بعثت بالفعل بتعليماتها إلي سفيرها لدي الأممالمتحدة. أضاف بريجنيف أنه كما هو معلوم فإن قادة دول شرق أوروبا «أي الدول الشيوعية الأعضاء في حلف وارسو الذي أنشئ لمقابلة حلف الأطنطلي الغربي» كانوا قد اجتمعوا يوم 9 يونيو 1967 أصدروا في ختامه بيانا بتأييد الدول العربية ضد العدوان الإسرائيلي مع طلب الوقف الفوري للعمليات العسكرية الإسرائيلية وانسحابها، وقال إن هذا الموقف «الحازم» كانت له تأثيراته علي الأحداث التالية مما يدل علي أن عملية منسقة من جانب الدول الاشتراكية «كما كان يطلق علي الدول الشيوعية في ذلك الوقت» يعد عاملا قويا لتحجيم الدوائر العدوانية للامبريالية العالمية. وأعرب بريجنيف عن أسفه لعدم توقيع قادة رومانيا الذين شاركوا في الاجتماع علي البيان الختامي، ومعروف أن رومانيا تحت قيادة شاوسسكو كانت لها علاقات قوية مع إسرائيل من وراء الستار علي الأقل وهاجر عشرات الألوف من اليهود فيها إلي إسرائيل كانوا بمثابة رأس حربة ليس لصالح رومانيا في إسرائيل ولكن كرأس حربية لصالح إسرائيل في رومانيا. أشار بريجينيف إلي أنه حتي قبل الاجتماع قامت موسكو بعدة خطوات عملية ضد العدوان الإسرائيلي. ففي الساعة الثامنة من صباح يوم 9 يونيو طلب من مندوب الاتحاد السوفيتي في الأممالمتحدة أن يتقدم بطلب لمجلس الأمن لاتخاذ خطوات أكثر فاعلية تضمن استجابة إسرائيل للقرار الذي يدعو إلي وقف العمليات العسكرية ضد سوريا، ولكن إسرائيل سبق لها تجاهل قرار مجلس الأمن واستمرت في عدوانها ضد سوريا، ثم صدر قرار ثالث من مجلس الأمن ولكن دون فائدة وذلك ظهر يوم 10 يونيو فاحتلت إسرائيل مدينة القنطرة في الجولان ومركز الجيش السوري علي الطريق نحو دمشق. في العاشرة والنصف صباحا أبلغ وزير الخارجية السوري موسكو أن الدبابات الإسرائيلية مدعومة بالطائرات متجهة في اتجاه دمشق نفسها طالبا مساعدتها في وقف ذلك وهو ما مثل لحظة حاسمة في نزاع الشرق الأوسط. تحرك الاتحاد السوفيتي علي الفور فأمر إحدي سفنه الحربية المزودة بالصواريخ وعدد من غواصاته المتواجدة في البحر المتوسط أن تتجه نحو الشاطئ السوري، وبعد ظهر يوم 10 يونيو تم توجيه مذكرة رسمية إلي الحكومة الإسرائيلية أعلن فيها أنها مسئولة عن أي انتهاك لقرارات مجلس الأمن وهدد بفرض عقوبات عليها من قبل الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية إذا لم يتوقف العدوان علي الفور، وفي نفس اليوم ارسلت موسكو رسالة إلي الرئيس الأمريكي جونسون قالت فيها: «الآن هي اللحظة الحاسمة التي تجبرنا علي اتخاذ قراراتنا إذا لم تتوقف العمليات العسكرية علي الفور خلال الساعات القليلة المقبلة ونحن علي استعداد، وهذه الإجراءات ستؤدي إلي نشوب نزاع بيننا «أي موسكووواشنطن». قد يؤدي إلي نتائج كارثية، ونحن نطالبك بأن تحث إسرائيل علي إنهاء هجومها خلال الساعات القليلة المقبلة. ونحن من جهتنا سنحذر إسرائيل بأنها إذا استمرت في القتال، فإن الإجراءات الضرورية بما فيها العسكرية ستتخذ ضدها». بعد مرور ساعة وربع الساعة كما يقول بريجينيف تلقي رسالة من جونسون تقول إن وزير خارجيته دين راسك قد أرسل رسالة عاجلة تقول إن الإدارة الأمريكية تعتبر أنه في غاية الأهمية أن تعبر إسرائيل بالأفعال بأنها ستوقف العمليات العسكرية، وطبقا لما قاله جونسون في رسالته فإن إسرائيل أعربت عن استعدادها لوقف فعلي لإطلاق النار. وأنهي بريجينيف خطابه قائلا: «أيها الرفاق ترون أن تحذيراتنا إلي الولاياتالمتحدة وإسرائيل قد أدت إلي تحقيق النتائج المرجوة فيها حيث إن الهجوم الإسرائيلي علي سوريا انتهي في مساء يوم 10 يونيو». في الحلقة المقبلة نقيم الخطوات السوفيتية وهل أدت بالفعل إلي وقف إسرائيل لعدوانها. أمين عام الجمعية الأفريقية