تعد مزاعم ظهور السيدة مريم العذراء عليها السلام من الظواهر المثيرة والمؤثرة في مجتمعنا. كنت في أيام طفولتي في نهاية الستينات أتابع بشغف وخيال الطفل أخبار ظهورها الأول. وكان الكثيرون من معارفنا مسيحيين ومسلمين قد ذهبوا إلي كنيسة الزيتون لمشاهدة الحدث الفريد وجاء غالبيتهم بكلام غير محدد أو قاطع حول حقيقة ظهورها من عدمه. كانت نفس الأقاويل تتردد من حين لآخر وفي كنائس وأديرة مختلفة لكن في أزمنة متباعدة.. وفي فترات ارتبطت بأزمات خانقة عاشها الوطن والمواطن تماما مثلما ارتبط حادث ظهورها الأول بفترة أعقبت هزيمتنا المريرة في 1967 . من الغريب أن أحدا لم يتطرق لهذا الحدث الغريب والبالغ الدلالة في أعمالنا الدرامية. ربما كانت الحساسية المفرطة تجاه أمور تخص إخواننا الأقباط هي السبب الرئيسي في هذا. وربما كان ذلك لتجنب الخوض في مناقشة أمور الغيبيات التي تثير غضب المتشددين الرجعيين من المسلمين والمسيحيين. ولكن الفيلم الفرنسي القطري "العذراء والأقباط وأنا" للمصري نمير عبد المسيح يأتي ليعوض هذا الغياب الطويل بقوة وشجاعة لافتة، فيخترق الممنوع وبرؤية تغلفها روح من السخرية الجميلة وبمعالجة فنية شديدة الحساسية. حسنة الإسماعيلية وإذا كنا مصرين علي تصيد أخطاء مهرجان الإسماعيلية وإختزال كل الجهود المبذولة فيه، فيما يراه البعض عيوبا قاتلة في التنظيم فإن عرض هذا الفيلم المهم وحصده لجوائز الأفضل في المهرجان ومسابقة التسجيليين والنقاد يعد حسنة كبيرة. كما أنه الفرصة الحقيقية للقاء الفيلم بجمهوره الحقيقي في مصر كعمل يعبر ببلاغة عن جانب من صميم مشكلاتها, بعد أن سبق عرضه في مهرجان الدوحة في أكتوبر 2011 وكذلك في بانوراما برلين الماضي. والحقيقة أيضا أنه جاءني للمشاركة في مهرجان الإسكندرية. ولم يكن أمامي أي اختيار رغم إعجابي به سوي رفضه وذلك للحفاظ علي هوية المهرجان الروائية. والحقيقة أيضا أن الفيلم رغم إنتمائه الصريح للسينما التسجيلية إلا أنه لا يخلو من جانب درامي سوف نتطرق إليه لاحقا. وهو في هذا شأنه كفنون ما بعد الحداثة التي تمتزج فيها الأنواع. وهو أيضا يسير علي درب مخرجنا الراحل المبدع علاء كريم الذي وظف في فيلمه رشيد المشاهد الدرامية كأحد رواد الدوكيودراما.. ولكن الفارق أن علاء يستخدم المشاهد التمثيلية في بداية الفيلم بينما يختتم نمير بها أحداثه ويصنع بها ذروته الفنية . أربعة اختيارات من البداية يحدثك نمير ومن خلال سرده الذي لا ينقطع إلا ربما لتظهر صورته. إنه يصارحك ويشركك معه في رحلته لصنع فيلمه ويكشف لك عن معارضة والديه لفكرة أن يخوض الرحلة من باريس إلي قريته في صعيد مصر لصنع هذا الفيلم بموضوعه الشائك. فمن بين شخصيات عديدة سوف يقابلها ويحدثها سيستقر الأمر علي أربعة اختيارات. فهناك من يؤمنون يقينا بالمعجزة وهناك من يستنكرون الأمر برمته.. وهناك من يرونها خطة مدبرة من أولي الأمر لشغل المواطن بالغيبيات عن حقائق الواقع وأخطاء الساسة التي أدت للهزائم وتدهور الأوضاع.. وهناك من يحيل المسألة إلي عوامل نفسية ترتبط باحتياج الشعوب إلي تصديق مسألة مشاركة الأنبياء والصالحين الراحلين همومهم وتطمينهم في فترات يفقدون فيها الأمل ويضعف اليقين.. وهي مسألة يتفق فيها مع مسيحيينا مسلمونا الذين يتبركون بآل البيت، بل والذين يبعثون برسائل إلي السيدة زينب إلي الآ ن بوصفها رئيسة الديوان الذي يعتقدون أنه مازال ينعقد حتي يومنا هذا. وقد يكون اللجوء إلي هؤلاء هو ناتج عن يأس المواطن من الوصول إلي أي مسئول أو الحصول علي الإنصاف في أي مظلمة. ولكن نمير يبدأ من المنظور القبطي ومن المواجهة الصريحة بأن الأقباط يشعرون بالظلم في مصر ويتبادلون الكراهية مع المسلمين . وهي مسألة رغم ما بها من مبالغة وتعميم مخل إلا أنها في غاية الأهمية وجديرة بالمناقشة في مرحلة نتعشم فيها أن ننتقل بدولتنا للمدنية بعد رئاسة إسلامية بأغلبية ضعيفة.. وفي أمر بالغ الخطورة والحساسية ولا يمكن السكوت عنه وتجدر مناقشته بمنتهي الجدية والوضوح والشفافية والنظر في صحته وفي كيفية تعديله أو تصحيح مفهومه لو كان خاطئا. وهكذا لا شك أن قصة ظهور السيدة العذراء هي مجرد مدخل للولوج إلي عالم الأقباط في مصر ومعرفة مشاعرهم وطبيعة علاقتهم بالمسلمين والنظرة المتبادلة بينهم بعد ركام من سنوات الوقيعة والتجاهل وغباء النظام السياسي المباركي البائد في التعامل والتلاعب بهذا الأمر الجلل. مشرط الجراح يعكس الفيلم خبرة مخرجه كعمل ثالث بعد فيلمين تسجيليين أحدهما قصير والآخر طويل.كما يؤكد موهبة صانعه وفهمه لطبيعة الفيلم التسجيلي الذي يحمل رؤية ويعبر بالصورة والكلمة غير المباشرة لكن بقدرة وتمكن علي النفاذ إلي المعني من أقصر الطرق. ولكن مشكلة نمير في رأيي هي نفسها التي تتكرر مع موهوبين كثيرين يشعرون بالضعف أمام مادة صوروها وأحبوها ولا يملكون الشجاعة الكافية وقدرة الجراح البارد علي استئصال ما يعوق من لقطاتهم ومشاهدهم حركة فيلمهم أو يخرج عن إطار الفكرة وجوهرها. ولا أقصد بهذا بالطبع أن يلتزم الفيلم فقط بحكاية ظهور العذراء التي تبدو كمدخل لمناقشة أفكار كثيرة ترتبط بها كفكرة محورية. ولكني أقصد بألا تختلط فكرته الموضوعية المحددة عن أهالي القرية البسطاء وعلاقتهم ببعضهم مسلمين ومسيحيين وبحالة التجذر التي تنشأ عن إيمان كل جانب منهم بغيبياته. ولكن المشكلة تكمن في هذا الجانب الذاتي الذي يتعلق ببحث البطل عن هويته وجذوره وذكرياته الشخصية. وهي مسألة تشغل مساحة كبيرة وتخرج بالفيلم عن موضوعه تماما إلي فيلم آخر يستحق أن يقدمه نمير منفصلا وبإخلاص أكبر. وعلي الرغم من حرص نمير علي أن يملأ فيلمه بالبشر البسطاء وكلامهم وحكاياتهم إلا أنه لا يغفل الجانب التوثيقي ويضمن فيلمه وثائق وملفات في غاية الأهمية ومنها بيان البابا عن صحة الظهور وتفسيره له بأنه جاء احتجاجاً علي احتلال اليهود للقدس بعد هزيمة 1967 . ولكن أجمل ما يحققه نمير هي قدرته علي استنطاق أهالي قريته وإظهارهم وهم يتحدثون بعفوية ويبوحون بما في نفوسهم بصراحة وصدق. ويأتي الجزء الروائي من الفيلم ليضيف له مزيدا من السخونة والقوة في هذه المحاولات الدؤوبة لتمثيل حدث ظهور العذراء بالاتفاق مع أهل القرية. ولكن الأجمل من كل هذا هو تلك النهاية الرائعة التي يصدق فيها الناس الأكذوبة التي صنعوها بأنفسهم لنصل إلي ذروة المأساة والتناقض في هذه القدرة علي تضليل الذات من أجل الوصول إلي يقين يثقون يقينا بكذبه ولكنه يحقق لهم نوعا من الارتياح. فيمنحهم الغيب القدرة علي الصبر بما ابتلاهم به الواقع. ذكاء فطري وعلي جانب آخر لا يغفل الفيلم بسطاء أذكياء بالفطرة قادرين علي السخرية من المتشددين ويدركون خطورة الأساطير والغيبيات علي مجتمع يترجع فيه مستوي التعليم وتنعدم فيد درجات الثقافة والاستنارة لتتزايد سطوة ونفوذ التجار بالدين والساعين لتكميم الأفواه والذين يغلقون أي سبيل للتفكير العلمي أو إعمال الذهن من أجل الوصول إلي نتائج عملية ومنطقية، وكما ترصد كاميرا نمير جمال البشر وذكاء العقول النقية تعكس أيضا جمال الطبيعة وهي تستعرض اغتيالها المستمر. وربما يغرق الفيلم في نوستالجيا الماضي الجميل في علاقة الأقباط والمسلمين الذي لا أعتقد أنه كان بهذا القدر من الجمال. لكن من المؤكد أن واقع العلاقة ازداد سوءا وأن أوان المصارحة والمصالحة قد جاء. وهذا ما يلوح من وجهة نظر المخرج العائد لبلاده بعد غياب خمسة عشر عام وهي الأسوأ في عهد مبارك وربما في تاريخ مصر الحديث إجمالا. يجيد المخرج توظيف الملمح الكوميدي الساخر والتقاطه من تعبيرات شخصياته التي يختارها بعناية ومن بينها أقاربه الذين ينجح في إظهارهم كوجوه إنسانية حقيقية .. ويتصاعد الحس الساخر بأسلوب تدريجي ويصل إلي قمته في المشاهد التي يجري فيها التدريب علي تمثيل الحادثة والتي يستغل فيها خبرته في توجيه ممثليه فيظهرها علي الشاشة بجمالها وبساطتها. فتش عن الصدق في إحدي لجان التحكيم الدولية التي شاركت بها كان هناك فيلم أردني تحمس له أعضاء اللجنة الأوروبيين بينما كنت أنا وزميلي من دول العالم الثالث لا نري أي ضرورة لمجرد ترشيحه لجائزة كبري. كنا نري موضوعه ليس ذا أهمية فهو ينشغل طوال أحداثه بمسألة صدق أو كذب بطلته. ولكن رئيس اللجنة كان مصرا علي أن قيمة الصدق هي القيمة الأهم وهي الأساس الذي تبني عليه الشعوب حضاراتها. واقتنعنا بوجهة النظر الأخري بعد نقاش طويل.. وهأنا الآن بعد تأملي لفيلم أنا والأقباط والعذراء أراه ليس فيلما عن علاقة الأقباط والمسلمين وليس بحثا حول الغيبيات وتأثيرها في المجتمع. ولكنه تفتيش عن قيمة الصدق ومدي وجوده بيننا. وعن هذا الخلط الغريب الذي أصبحنا نعيش فيه والذي جعلنا لا نستطيع أن نميز ما نراه بأعيننا وألا نصدق ما اقترفناه بأيدينا.. بل وأن نصدق الكذبة أو التمثيلية التي صنعناها بأنفسنا.. في فيلم العذراء والأقباط وأنا نحن مع لقاء نادر مع فيلم تسجيلي يلعب الدور التنويري للفن بمنتهي الذكاء والإحساس والمهارة. وبقدرة فنان يستطيع أن يجذبك من أول لقطة لآخر لقطة حتي لو خرج عن السياق وذلك بفضل سخونة لقطاته وصدق وجوهه وامتلاكه للرؤية الناقدة والساخرة والساعية بحب حقيقي علي تنمية الوعي في هذا الوطن مهما كان نقدها لاذعا.