سيبقي أدب "نجيب محفوظ" (19112006م) إلي الزمن الذي تحكي فيه قصصه، وروايته، دون أن تنسب إليه، وستتناولها العقول كما تتناول الأساطير، ذات المؤلف المجهول، وعندما يسأل عن مؤلفها؟ ستنسب إلي الوجدان الشعبي، فقد عبر "نجيب محفوظ" عن الوجدان الشعبي الخالص، فكتاباته تحمل وصفاً للواقع بشخوصه، وأماكنه، وأحداثه، كما أنها تتنبأ بالمستقبل، وان لم يعايشه، فهاهوفي قصته القصيرة "ذاكرة الجيران" يتنبأ بعد موته أثناء وجوده في الحياة البرزخية، بما سيواجهه المجتمع بسنوات عقب ثورة يناير2011، وكأنه يؤرخ لأحداث عاينها، وان لم يعايشها، فهويحلل الوضع ملخصاً له برؤية ثاقبة، فثورة يناير بدلا من أن تؤمن الديمقراطية لأبناء الشعب خلقت فراغاً منفجراً، قد يدفع الحمقي، ومحترفي إثارة الفتن إلي تقسيم وحدة البناء السياسي، ثم يمتد إلي قلقلة السلام بين جيران المجتمع، كل هذا الصراع علي السلطة، منذ قديم الزمن بين رجال المعرفة الدينية "الفقهاء"، وبين رجال السلطة الحاكمة، يدفع ثمنه أبناء الحارة من عنف، وإراقة للدماء، وتقدير في الأرزاق، كما يضع الحل وهوفي قبره بالتسامح بين أبناء المجتمع، وإدراك أن أسباب الخلاف المعاصرة تعود لأسباب تاريخية لم تعد قائمة في الوقت الحاضر، ويجب التخلص منها، والعودة إلي حياة الجيران الهادئة. خناقة ما بعد الثورة؟! "في ليلة وقفة رمضان، لعام من الأعوام البعيدة الماضية قامت خناقة، مالها إلا النبي بين أسرتي برغوث وعميرة، وكالمألوف في تلك الظروف اضطراب استقرار الحارة فأغلقت الدكاكين، وصوتت النساء وزاطت الصبية، ووقف إمام الزاوية وهويصيح بأعلي صوته : وحدوا الله .. ما هكذا يستقبل الشهر الفضيل"، يفتتح"نجيب محفوظ" قصته بالبعد الزمني للأحداث، ويربطه بالحدث الجلل الذي يمثل "وقفة" في تاريخنا، كوقفة رمضان، ويصف الوقائع في صورة خناقة، وان الخلاف بين فصيلين يمثلان عائلتين في المجتمع هما بين عائلة"برغوث"، و"عميرة" ف"برغوث" هي العائلة الرمز للفكر الرجعي الذي يميل إلي استجلاب الماضي، والعيش فيه، وعائلة"عميرة" رمز التمدن والمدنية، وان الخلاف الذي بين التيار السلفي، والتيار الليبرالي في المجتمع، بلغ مما أحدثه من شقاق وتقسيم للمجتمع، حد الحاجة إلي "نبي"، معه رسالة سماوية، يتمكن عبرها بتصحيح المفاهيم، والتفويق بين العائلتين، وان هذا الخلاف بين أنصار الدولة الدينية، والدولة المدنية قد اثر علي المجتمع، بان "أغلقت الدكاكين"، فتوقفت التجارة والنموالاقتصادي، و"صوتت النساء، وزاطت الصبية"، وكأن "نجيب محفوظ" يتنبأ في قصته القصيرة هذه بحالة الانفلات الامني الذي يحدث في المجتمع نتيجة انقسام المجتمع حول شكل الدولة؟ أوكأنه يتحدث عن الخلاف بين ميدان التحرير، وميدان العباسية، وكان موقف "إمام الزاوية" الذي يرمز إلي التراث الثقافي الشعبي، لديه المرجعية لحسم هذا الخلاف، بما يملكه من فطرة التوحيد التي جبل عليها منذ زمن، والتي تتعارض مع كون هذا الخلاف باسم الدين. العداوة المتوارثة! "لكن لم يتمكن أهل الخير من التخليص بين الأسرتين، قبل أن يصاب منهما رجلان مهمان هما : محمود البرغوثي والناصح عميرة، وساءت حالتهما وتدهورت، ففارقا الحياة في يومين متعاقبين، وهلّ رمضان في جومن الوجوم والأسي، وقال الناس إن هذا لا يرضي الله ولا خلقه ، وانه يجب وضع حد لتلك العداوة المتوارثة، خاصة بعد أن اندفع تيارها في مجري جديد لم يعد يقنع بالجرحي، ولكنه سجل أول ضحيتين له من الموتي"، يرسم "نجيب محفوظ" الواقع الذي نمر فيه اليوم من ارتفاع درجة العنف بين أنصار الدولة المدنية، والدولة الدينية، والذي نتج عنه مقتل رمزين الأول من رموز أنصار الدولة الدينية وهو"محمود البرغوثي"، والثاني رمز الدولة المدنية وهو"الناصح عميرة"، وهوبهذا يعبر عن رأيه في المذهبين، فالأول"محمود"، والثاني"ناصح"، فأنصار الدولة الدينية أهدافهم محمودة، ولكن أنصار الدولة المدنية أهدافهم أكثر نصاحة، وهذه الخلافات بين مفاهيم الحكم الدينية والمدنية تعد من أهم الخلافات التي سيطرت علي الأحزاب السياسية في الانتخابات البرلمانية الحالية، وفي شكل صياغة الدستور المنتظر. البحث عن صاحب نفوذ في الحارة "وقالوا انه علي صاحب نفوذ أن يتدخل، وأن يبذل ما يملك من قوة لإقرار الصلح بين المتخاصمين منذ الزمن السحيق، وبناء علي بلاغة إمام الزاوية وضغوط الأهالي قرر شيخ الحارة أن يتحرك، دعا إلي دكانه كبيري الأسرتين:علي برغوث وخليل عميرة،وقدم لهما القهوة وطلب منهما أن يقرآ الفاتحة ويصليا علي النبي، لنطرد الشيطان عن مجلسنا .. وقلب عينيه بين الرجلين ثم قال: ما بينكما قديم، وضحاياه من الجرحي لا يحصون علي المدي الطويل، لكن بالأمس القريب مات رجلان ولا كل الرجال، والموت يدفع إلي الموت والمسألة لم تعد محتملة والجميع يريدون لها أن تنتهي، فلنحتكم إلي العقل والدين لنصفي الحساب القديم ونبدأ حياة جديدة .. فتواري كل منهما وراء صمته وعكست الأعين صلابة وضيقا ، فقال الشيخ : لنطرح أسباب الخصام أمامنا، وان لزمت دية دفعت أوكانت خطيئة كفر عنها ..لا داء بلا علاج.. ولا بد للشر من نهاية، ولما أنس منها رفضا وعنادا راح يصارحهما بأن أسرتيهما صارتا تسلية الماجنين من أهل حارتنا ، يضربون بهما المثل فيقولون لبرغوث وعميرة كما يقال عن القط والفأر، يتقابل الكهلان الوقوران منكم فيتبادلان الشتائم ، تتراءي المرأتان فيدور الردح والتشليق، أما لقاء الشباب فالعنف والدم". يتنبأ "نجيب محفوظ" بالصراع الحالي بعد الثورة بين الدولة الدينية لعائلة "برغوث"، والدولة المدنية لعائلة"عميرة"، وإنهم "قالوا: علي صاحب نفوذ أن يتدخل"؟ ربما كان صاحب النفوذ الذي أورده علي سبيل التنكير هواليوم المجلس العسكري، وهوالذي يقع علي عاتقه عبء التدخل لحسم الخلاف بين عائلتي"برغوث"، و"عميرة"، وانه الوحيد القادر علي "أن يبذل ما يملكه من قوة لإقرار الصلح بين المتخاصمين منذ الزمن السحيق"، وكأن "نجيب محفوظ" يري أن المجلس العسكري اليوم يواجه أزمة تاريخية، أكثر من كونها أزمة شعب بعد ثورة مباغتة، وقام "محفوظ" برصد أطراف الصراع الحالي بين صاحب النفوذ الذي يملك القوة، وإمام الزاوية البليغ، بما يحمله من سلطة رجال الدين الرسمية في الدولة من شيوخ الأزهر، ورجال الكنيسة، أما شيخ الحارة، فهوالسلطة الرسمية في الحكومة الانتقالية المعروفة بمجلس الوزراء، وأهل الحارة، فهم شباب الثورة، بينما تمثل أنصار الدولة الدنية بكل طوائفهم في عائلة"برغوث"، وأنصار الدولة المدنية بكل أحزابهم وحركاتهم في عائلة "عميرة"، وان العنف يولد العنف، ويجب الاحتكام إلي العقل والدين، إلا انه تنبأ بعدم موافقة أنصار الدولة الدينية، بالرضوخ إلي العقل، وأنصار الدولة المدنية، بالرضوخ إلي الدين، فعلي أنصار الدولة الدينية أن يقيموا مقاماً للعقل، وعلي أنصار الدولة المدنية أن يعتبروا بالقيم الدينية وتأثيرها علي المجتمع، من أجل طرح أسباب الخلاف، فتقر عائلة "برغوث" بحق أهل الحارة في صياغة قوانين الحارة بمعرفتهم، وان تراعي عائلة"عميرة" الوازع الديني في سلوك أفرادها، من اجل حل المشاكل القديمة. صبر أيوب "ومن عجب أنني لم أعثر علي شخص في حارتنا يعرف لخصومتكما سببا، أكان زواجا أوطلاقا أوصفقة خاسرة أوجريمة ؟ الظاهر أن السبب ذب في مخزن التاريخ، وبقيت العداوة وحدها .. ولكنكما كبيرا الأسرتين ولابد أنكما تعرفان السر، فلنطرح السبب بيننا، وان لزمت دية دفعت، أوكانت خطيئة كفر عنها، ظل جدار الصمت قائما بينهما وبينه فهدهد غيظه وتساءل: يا معلم علي.. ماذا تريد لترضي ، وأنت يا معلم خليل .. ماذا تريد لترضي؟ وبإزاء الصمت المستمر هتف:" يا صبر أيوب ".. ثم وجه خطابه لهما : اكشفا لي عن سبب الخصام. ثم بعد فترة يسيرة قال برجاء : حلفتكما بالحسين أن تتكلما. لكنهما لم ينبسا بكلمة، وفي الوقت نفسه قلقت نظرة حيرة في أعينهما، فاسترد نبرته الحازمة وقال: لا بد من الكلام ، وإلا دعوت الشرطة والنيابة للتدخل في الشئون التي تعودنا أن نعالجها بأنفسنا. ولما قرأ الإعياء في وجهيهما فض الاجتماع وهويتمتم:"لنا عودة". هنا يري"نجيب محفوظ" انه لواستمر الصراع علي هذا النحوبين أنصار الدولة المدنية، والدولة الدينية، وتمسك أنصار كل نظام حكم بطلبه فان ذلك سيدفع إلي تدخل جهات أخري لا تنتمي للنسيج المصري، للتدخل لحسم الخلاف بين العائلتين، فالشرطة والنيابة هما وسيلتا الحاكم لكي يقيم دولة القانون بالقوة، أوربما تماهي الرمز إلي تدخل دول أجنبية لمناصرة عائلة "برغوث"، أوعائلة"عميرة"، وفي الحالتين ستكون الحارة قد انقسمت. فضيحة برغوث وعميرة ومرت بشيخ الحارة فترة بحث وتقصًّ فسأل الكثيرون من أفراد الأسرتين عن سبب الخصام ولكنه لم يظفر بجواب، بل وضح له أنهم يجهلون السبب تماما، وكما قال لإمام الزاوية فإنهم يذكرون العداوة جيدا ولكنهم لا يعرفون علة لها. وركبه التصميم فقرر أن يزور الدفتر خانة ثم دعا إلي دكانه كبيري الأسرتين: علي برغوث وخليل عميرة. وقال لهما بثقة هذه المرة : لا أحد يعرف السبب سواكما، وان كنتما تجهلانه كالآخرين فاني علي أتم الاستعداد لكشفه لكما ..فسأله المعلم علي بحدة: من أين لك تلك المعرفة ؟ فأجاب بهدوء الواثق: فتشت عن ذلك في دفاتر شيوخ الحارة المعاصرين للأجداد وقرأت في دفتر أحدهما «.. ووقع نزاع فاضح بين برغوث وعميرة"، إن الخلاف بين مفاهيم الحكم بين أنصار الدولة المدنية، وأنصار الدولة الدينية يراه"نجيب محفوظ" في صورة"نزاع فاضح"، لا مبرر له في الوقت الحاضر، فهو نزاع نتيجة خلافات قديمة تاريخية، لا يعرف عنها شيئاً أنصار كل مذهب، وإنما هم يعرفون أن هناك خلافاً فقط، ودون معرفة أسبابة، وان البحث عن أسبابه يتطلب إعادة قراءة التاريخ وذلك بالبحث في"دفاتر شيوخ الحارة المعاصرين للأجداد"، ربما يعود تاريخ هذه الدفاتر إلي عصر الدولة الأموية، عندما بدأ النزاع بين رجال المعرفة الدينية، ورجال السلطة السياسية، وبداية استخراج الأدلة الشرعية من القرآن والسنة علي هوي السلطان، ثم أحكمت هذه التأويلات وباتت هي التفاسير المعتمدة للنص المقدس، ومع غلق باب الاجتهاد، تجمدت التخريجات، بينما المجتمعات تتحرك فعندئذ ولد الخلاف بين عائلة"برغوث" التي تبحث عن السلطة من منطلق ما تملكه من قدرة علي السيطرة الجماهيرية باسم الدين، وبين عائلة"عميرة" بما لديها من دوافع تسلطية للتحرر من سلطة النصوص للاستبداد بالحكم في مواجهة رجال العلم الشرعي عبر الفضاء الجماهيري. برغوث وعميرة؟! "عند ذاك صرخ المعلم خليل :كفي، فسكت شيخ الحارة قليلاً ثم قال: لم يكن الأمر فاضحا بهذه الدرجة في الزمن القديم، لكن جري الزمن وتغيرت القيم فأصبح سبب النزاع مما يوجب الستر، فأجمع المتخاصمون علي إغفاله حتي نسي، وبقيت الخصومة وحدها تتوارثها الأجيال، وابتسم في وجهيهما ليخفف من وقع حديثه وقال برقة : معذرة .. إن هدفي الوحيد هوالكف عن الأذي والعودة إلي حياة الجيران"، الذي تجنب المكاشفة بالسر في النزاع هونصير الدولة المدنية"خليل عميرة" لأنه يعلم حقيقة أصل النزاع، في كونه مجرد نزاع لنصرة رجال الدين، أمام رجال السلطة، معتمدين علي عموم الشعب، بينما مندوب عائلة الدولة الدينية"علي برغوث" لم ينزعج من المكاشفة بالسر، لان اي مكاشفة ستكون في صالحه، فهويعتمد علي النزعة الدينية المتأصلة في أبناء الحارة، إلا أن رجال الدين المستنيرين في صورة"شيخ الحارة" يجدون في هذا السبب أمراً حتمياً عند تاريخ اندلاعه ومبرراً، حيث لم يكن الحاكم يتم انتخابه بالوسائل الديمقراطية، ومع تطور الزمن واتخاذ سبل الحكم عن طريق مشاركة أفراد الشعب في اختيار حاكمهم بطريقة الانتخاب المباشر، "تغيرت القيم"، ولم يعد هناك مبرر للتنازع علي شكل الحكم هل هوديني أم مدني؟ وإنما يتم تجاوزه ب"ستره، وإغفاله، ونسيانه"، والحل الذي يراه"نجيب محفوظ" لهذا التعايش السلمي، هو"الكف عن الأذي" بوقف أعمال العنف، وإثارة الاضطرابات بين أبناء الحارة، وإشعال الفتن، وذلك عبر مفاهيم المواطنة التي تمنح الجميع الحق في الانتماء إلي الحارة، سواء كانوا أقلية أم أغلبية، كنموذج ل"حياة الجيران"، ويبقي الرأي الخاص لصاحب الخناقة"نجيب محفوظ" وموقفه المتنبئ بنتائج الصراع بين أنصار الدولة الدينية، وأنصار الدولة المدنية، والمختزل في اسم العائلتين، فمنح عائلة الدولة الدينية اسم "برغوث"، بما تحمله دلالة البراغيث من الصغر، والقدرة علي الإزعاج، وسهولة القضاء عليها، وفي المقابل منح عائلة الدولة المدنية اسم"عميرة" بما يحمله الاسم من معاني العمران والتطور الحضاري والبناء والبقاء.