في وقت لم تساعد فيه الظروف الأمنية والمالية في استكمال العديد من المشروعات في قطاعات الدولة المختلفة، إلا أن هناك بعض المشاريع التي مازال العمل مستمرا بها والتي من ضمنها قطاعات الآثار المختلفة، بل ومنها ما تم انجازه، وفي هذا التحقيق نستعرض العمل في أحد مشروعات قطاع الآثار الإسلامية والقبطية والذي بدأ العمل به منذ سنوات.. ويستكمل الآن العمل فيه حيث قارب علي الانتهاء ويتوقع افتتاحه قريبا وهو ترميم مسجد الظاهر بيبرس بالقاهرة. يذكر دكتور مصطفي أمين رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية انه بعد القيام بعمل الدراسات اللازمة علي مشروع ترميم مسجد الظاهر بيبرس بالقاهرة، قد تم العمل فيه بعد أن شاركت دولة كازاخستان مع المجلس الأعلي للآثار لتفعيله، وقد بدأ العمل فيه ابتداء من 2 / 7 / 2007م حتي يتم تسليمه النهائي في 6 / 10 / 2011 م تحت إشراف شركة المقاولون العرب، واجمالي قيمة التعاقد حوالي 65 مليون جنيه. الظاهر بيبرس هو بيبرس البندقداري (1223 - 1277م) خطفه المغول وهو طفل واشتراه شخص يدعي "العماد الصايغ"، ثم بيع لأمير حماة "علاء الدين أيدكين" المعروف بالبندقدار، ثم أرسل إلي مصر حيث انضم لمماليك السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب، وفي عام 1250 كان من القواد الذين شاركوا في هزيمة الصليبيين في معركة المنصورة. في عام 1260 كان بيبرس قائد طليعة الجيش الذي هزم المغول في معركة عين جالوت. وبعدما أصبح سلطاناً علي مصر والشام في 1260م واصل جهاده ضد الصليبيين والمغول الذين ظلوا يتربصون بالعالم الإسلامي ويهددونه، وهزمهم في عدة معارك عسكرية. وصفه المؤرخ ابن إياس بأنه " كان شجاعاً بطلاً ". بالإضافة إلي انتصاراته العسكرية وإعادته للخلافة العباسية في القاهرة عوضاً عن بغداد التي دمرها واحتلها المغول في سنة 1258م، وإعادته صلاة الجمعة إلي الجامع الأزهر بعد أن كانت قد أبطلت منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، قام بيبرس بإصلاحات اجتماعية وإدارية عديدة في البلاد، وكان يشرف بنفسه علي تظلمات الناس في دار العدل، وكان ينزل من قلعة الجبل متنكراً ويطوف بالقاهرة ليعرف أحوال الناس، وفي شهر رمضان كان يطعم كل ليلة خمسة آلاف شخص، وكان متواضعاً يشارك الجنود في حفر الخنادق وجر المنجنيقات ونقل الأحجار. كل هذا أكسبه حب الناس وانبهارهم به، فأطلقوا عليه ألقاباً مثل "أبوالفقراء والمساكين" و"أسد مصر". بعد وفاة الظاهر بيبرس رثاه محيي الدين بن عبد الظاهر بقصيدة مؤثرة يقول فيها: " لهفي علي الملك الذي كانت به الدنيا تطيب فكل كفر منزل..الظاهر السلطان من كانت له منن علي كل الوري وتطول". تحول الظاهر بيبرس في الوجدان الشعبي المصري من حاكم إلي بطل يروي سيرته قصاصون محترفون يعرفون باسم "الظاهرية" في مقاهي القاهرة التي تخصص بعضها في سيرته والتي كانت هي الأخري تعرف بالمقاهي "الظاهرية "، وكانت كتيبات السيرة تباع في حواري القاهرة القديمة والمكتبات التي كانت تجاور مسجدي سيدنا الحسين والأزهر. راج الأدب القصصي في العصر المملوكي وكان سرد القصص والحكايات في المقاهي من وسائل الترفيه في ذاك العصر. وكان للقصاصين قدرة علي جذب جمهورهم من عامة الشعب عن طريق رواية القصص التي ترضي ميولهم ونزعاتهم بأسلوب تشويقي سهل الفهم، وكان لبعضهم القدرة علي ارتجال الحكايات المطولة. وكان بعضهم يستخدم آلات موسيقية بسيطة مثل الربابة أثناء سرد القصة. يعد الظاهر بيبرس الحاكم الوحيد في تاريخ مصر الإسلامي الذي تحول إلي بطل شعبي أسطوري له سيرة تحكي في المقاهي وتتداولها عامة الشعب صغاراً وكباراً. فكانت سيرته ملحمة للبطولة يتغني بها الشعراء والقصاص ليثيروا النخوة في نفوس الشعب. تاريخ المسجد يذكر د. مصطفي أمين رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية أن هذا الجامع يخص السلطان الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح بيبرس الصالحي النجمي البندقداري قد انشأ عام (667 ه / 1269 م)، وهو من أوائل المماليك البحرية، وبناء علي هذا كان الجامع تعبيرا عن رغبة السلطان في إقامة بناء تذكاري يشير إلي انتصاراته الكبيرة وانجازاته العسكرية التي حققها ضد المغول والصليبيين، كما أن المنطقة كانت تحتاج لوجود جامع لإقامة الشعائر خاصة بعد امتداد العمران إليها وازدياد عدد السكان بها. يضيف د. مصطفي أن الشعائر الدينية ظلت مقامة بهذا الجامع العظيم ولم تعطل إلا منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي وذلك لاتساع رقعته وعجز الدولة عن الصرف عليه، وكان من نتائج ذلك أن ساءت حالة الجامع وتخرب. فحوله العثمانيون إلي مخزن للمهمات الحربية كالخيام والسروج وغيرها. في عهد الحملة الفرنسية تحول الجامع إلي قلعة وثكنات للجند وعرف في ذلك الوقت باسم قلعة سيكوفسكي، وفي عهد محمد علي تحول الجامع إلي معسكر لطائفة ومخبز للجراية ثم استعمل بعد ذلك مصنعا للصابون. في عام 1812م نقلت أعمدة الجامع الرخامية وكذلك بعض أحجاره لبناء رواق الشراقوة بالجامع الأزهر وذلك بناء علي رغبة الشيخ الشرقاوي. كما يقال ان بعض أعمدة الجامع استغلت في بناء قصر النيل،من سنة1882م اتخذه جيش الاحتلال البريطاني مخبزا ثم مذبحا، وقد عرف ولا يزال باسم «مذبح الانجليز» وان كان الذبح قد أوقف منذ سنة 1915م. أخذ الجامع الظاهر بيبرس يسترد هيبته حين وجهت لجنة حفظ الآثار العربية اهتمامها إليه، وإنقاذه من التدهور المخيف الذي نزل به، فقامت اللجنة سنة 1918م ببعض أعمال الترميم بواجهاته وبخاصة في رواق القبلة، وتمكنت من إعادة الصلاة في الجزء الواقع عند المحراب أما ساحة الجامع من الداخل فقد تم إنشاء حديقة كبيرة بها يرتادها أهالي الحي، ومازال يحمل اسم الظاهر تخليدا لهذا الجامع. الوصف المعماري للمسجد أما عن وصفه المعماري فيقول رئيس قطاع الآثار الإسلامية: إن المسقط الافقي لجامع الظاهر بيبرس قد صمم بنظام الأروقة المحيطة بالصحن الكبير، وذلك علي غرار المسجد التقليدي القديم الذي بني علي عهد الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم ، حيث اشتمل جامع الظاهر بيبرس علي صحن مكشوف يحيط به أربع ظلات أكبرها ظلة القبلة، وذلك علي نحو ما جري عليه تخطيط جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي. يضيف أنه قد تميزت الواجهات الأربع الخارجية للجامع بالبساطة والهدوء وعدم الإسراف في الزخارف حيث شكلت الواجهات الخارجية باستخدام فتحات في النوافذ في الجزء العلوي من الواجهة وضعت به قمريات جصية بأشكال هندسية وتنتهي الواجهة بكورنيش تتوسطه شرفات مسننة، ولم تستخدم القواصرات التي شاعت في العصر الفاطمي والايوبي في الواجهة، بل تركت عارية من الزخارف مع التركيز علي منطقة المدخل فقط باستخدام القواصرات والرصائع التي تشكلت بزخارف نباتية وهندسية، وقد بنيت واجهات الجامع بأحجار ضخمة وبالطريقة المعروفة باسم حجر المشهر، ويعلو المشافة العليا من واجهات المسجد 72 نافذة معقودة بواقع 18 نافذة لكل واجهة. قد قويت أركان الجامع من الخارج بأربعة أبراج.. اثنان مربعان علي طرفي الضلع الشرقي والآخران مستطيلان، والأبراج مصمتة ماعدا ذلك الذي يشغل الركن الجنوبي الغربي، ويحيط بالجامع الخندق منخفض عن سطح الأرض إلا انه كان عند إنشاء الجامع مساو لارتفاع أرضية الشارع. يحتوي جامع الظاهر بيبرس علي ثلاثة مداخل تذكارية بارزة عن سمت السور الخارجي، وقد وضع المدخل الرئيسي بالجهة الشمالية الغربية أما المدخلان الثانويان فيقعان بالواجهة الجنوبية الغربية والشمالية الشرقية ويرتبطان بمحور الصحن لا بمحور الكتلة البنائية. ويتكون المسقط الافقي للجامع من أربع ظلات أكبرها ظلة القبة تحيط بصحن كبير مفتوح وكان الصحن يحتوي علي فوارة أما المطهرة فكانت علي الأرجح خارج المسجد. أعمال الترميم يذكر د. مصطفي أمين أن العمل انقسم إلي جزءين، أولا: بالنسبة للواجهات الأثرية: * الكشف علي شبكة تثبيت منسوب المياه الجوفية وإصلاحها إذا لزم الأمر. * حقن الحوائط بمون متوافقة مع مواد الأثر لتحسين خواص الحوائط الإنشائية. * عمل كمادات طينية لاستخلاص الأملاح بالحوائط. * عمل طبقة عزل افقي باستخدام الحقن بمواد سليكونية لمنع الخاصية الشعرية. * تكحيل وملء العراميس بالمون الجيرية. * تنظيف الواجهات باستخدام البصق وبردة الحجر مضاف إليها نشارة الخشب. * استكمال الأحجار المتكاملة. * تركيب أعمدة رخامية. ثانيا: أعمال إعادة الإنشاء * إعادة إنشاء المئذنة علي نسق مئذنة خانقاة بيبرس الجاشنكير بالجمالية باستخدام الطوب الأحمر. * إعادة إنشاء القبة علي نسق قبة الإمام الشافعي من الخشب ومغطاة بألواح الرصاص. * إعادة إنشاء الرواق الشرقي والظلة الشرقية والرواق البحري. * فك وإعادة إنشاء النصف الشرقي من رواق القبلة والنصف الغربي للرواق البحري والرواق الغربي. * تتم أعمال إعادة الإنشاء للأروقة باستخدام أساسات من الحجر بعمق 2.5 متر وقواعد تيجان من الرخام الأبيض الكرارة والعقود من الطوب مكسوة ببياض مماثل للأثر والأسقف براطيم عزيزي وألواح طبق مماثل للطراز الاثري مع استخدام الشدادات والدبل والأربطة الخشبية من الخشب العزيزي. * استكمال المفقود من الشبابيك الجصية باستخدام زخارف مبسطة مماثلة في التأثير الشبابيك الأصلية مع الاختلاف في التفاصيل للتمييز بينها وبين الأصلية. * كسوة المقصورة بالرخام مماثل للرخام بقبة الإمام الشافعي وبالمون الأثرية. هكذا يستعيد واحد من أهم وأشهر مساجد مصر رونقه وبهاءه ويستعد للافتتاح ليعود كسابق عهده منارة للثقافة والفكر والحضارة الإسلامية.