لا تزال زيارة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري لدمشق في التاسع عشر من ديسمبر الماضي تلقي بظلالها علي الإعلام اللبناني والغربي، وتعددت آراء المحللين عن نتائج هذه الزيارة. فالبعض أبدي ارتياحاً لإبداء حسن النوايا من الطرفين في العمل علي إعادة المياه لمجاريها بعد فترة من التوتر في العلاقات بين البلدين وبعد مرور لبنان بأزمة سياسية عاصفة علي مدار السنوات الأربع الماضية. أما البعض الآخر، فآثر توخي الحذر وعدم استباق الأحداث والتحسب من إمكانية أن تفتح هذه الزيارة، بما سيترتب عليها من مزيد من المرونة في عودة العلاقات بين البلدين، الفرصة لسوريا لاستعادة نفوذها المفقود في لبنان. بين هذا الرأي وذاك، فإنه لا شك أن هذه الزيارة اكتسبت أهمية شديدة فهي الزيارة الأولي من نوعها للنائب سعد الحريري منذ عملية اغتيال والده رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في فبراير عام 2005 كما أن هذه الزيارة جاءت في وقت حدثت فيه متغيرات سياسية في كل من لبنان وسوريا. فلبنان نجح أخيراً في الخروج من أغلب العراقيل التي شلت الحياة الدستورية فيه، وتشكلت الحكومة الجديدة بعد تعطيلات متعددة وسجالات مطولة لا يزال بعضها قائماً. أما سوريا فقد شهدت تغيرات كثيرة في الموقف الدولي تجاهها، وبدأت تخرج تدريجياً من عزلة عاشتها لسنوات وزاد من تأزيمها سلسلة الاغتيالات المتعددة التي حدثت في لبنان في السنوات الأخيرة والتي وجهت فيها أصابع الاتهام إلي سوريا. وتجيء هذه الزيارة نتيجة للقمة السورية-السعودية في أكتوبر الماضي بين الرئيس السوري بشار الأسد والعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيزوالتي هدفت إلي بحث سبل تحقيق التقارب العربي-العربي وتوحيد الرؤي حول التحديات التي تواجهها المنطقة. وكانت هذه هي الزيارة الأولي للعاهل السعودي لسوريا منذ توليه العرش عام 2005 مما أشار إلي بادرة جديدة في تحسين العلاقات السورية السعودية التي شهدت توتراً بعد اغتيال الحريري والعدوان الإسرائيلي علي لبنان وموقف السعودية من حزب الله . وأتت هذه الزيارة بثمارها من تذليل بعض العقبات التي واجهت تشكيل الحكومة اللبنانية وهو الأمر الذي مهد لزيارة الحريري في إطار معادلة السين-سين من التقارب السوري-السعودي الذي ألقي بظلاله علي مرحلة جديدة من التقارب السوري-اللبناني. تخوف أمريكي وعلي الرغم من التقرب الأمريكي مؤخراً من سوريا، فقد عبرت صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية عن قلقها من زيارة الحريري لدمشق التي اعتبرتها نذيراً لعودة النفوذ السوري علي لبنان. وحذرت الصحيفة من رمزية مشهد مصافحة الحريري لبشار الأسد الذي يعتقد الكثيرون أنه يقف وراء عملية اغتيال رفيق الحريري. فهذا المشهد يعبر عن بداية جديدة غير أنه يشير أيضاً إلي أن سوريا التي تعرضت لصفعة إقليمية عند انسحاب جيشها من لبنان في إبريل من عام 2005 إثر صدور القرار الدولي رقم 1559، ربما تستعيد جزءاً أو كثيراً من هذا الكبرياء بعد هذه الزيارة لتعود للتدخل في لبنان وإن كان ليس عسكرياً وإنما في المسائل السياسية الداخلية. نص بيان المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري أعلن أن هدف الزيارة هو تطوير العلاقات بين البلدين. وعلي الرغم من أن البعض رأي أن الزيارة لم تخرج عن البروتوكولات الشكلية، إلا أن بعض المصادر أكدت أنه تم التطرق فيها إلي العديد من الملفات الحساسة والعلقة بين البلدين. وصرح رئيس لجنة المفقودين والمعتقلين في السجون السورية غازي عاد أن زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري لسوريا أزالت الكثير من التوتر المستمر بين البلدين منذ مقتل الحريري مما يساعد علي خلق جو يسمح بفتح ملف المفقودين والمعتقلين اللبنانيين في سجون سوريا. ووصف غازي عاد ملف المفقودين بأنه أولوية وطنية تفوق قضية ترسيم الحدود، وأشار إلي أنه التقي الحريري وأحاطه بتطورات هذا الملف قبل طرحها أمام الجانب السوري. ترحيب داخلي أما المواقف الداخلية المرحبة بالزيارة فتعددت بين الفصائل اللبنانية المختلفة وبنت معظمها ترحيبها علي أساس أن الزيارة تؤرخ لبدء مرحلة جديدة في العلاقات مع سوريا من منطلق دولة لدولة والند بالند. ورأي سجعان قزي، المستشار السياسي لرئيس حزب الكتائب، أن الزيارة ترجمة لفعاليات القمة السورية-السعودية، وأضاف لتليفزيون المنار "إن العلاقات الجيدة لا تتم بالزيارات وحدها إنما بحل الملفات العالقة". وأكد رئيس المجلس العام الماروني وديع الخازن أن الزيارة خطوة سياسية مهمة لتحسين العلاقات اللبنانية-السورية، واعتبرها زيارة إستراتيجية لأنها تضع لبنان علي الطريق الصحيح للتوافق الإقليمي في مواجهة التدخلات الإسرائيلية. ورأي نهاد المشنوق، عضو تكتل لبنان أولاً النيابي، أن الزيارة تناولت كل الملفات العالقة ولكنه من البديهي ألا يتم حلها دفعة واحدة، ولكن الأهم هو ما قامت به الزيارة من تحقيق غرضها "بكسر حاجز العواصف" ليتسني للطرفين إيجاد الحلول المرضية لكل هذه القضايا. وأشار المشنوق أن شبح المحكمة الدولية التي تحقق باغتيال الحريري لا ينبغي أن يحلق علي هذه الزيارة، وأضاف " إن المحكمة الدولية منفصلة تماماً عن علاقات لبنان بأي دولة وعن علاقات سوريا بأي دولة وعلاقات أي دولة بدولة أخري، فهي جسم قضائي قائم وموجود في لاهاي وأية علاقات دولية لن تؤثر عليه". ورأي رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النيابية محمد رعد أن الزيارة مصلحة للبلدين وخطوة في اتجاه "تعزيز الممانعة وقوة لبنان في وجه الاستهداف الاسرائيلي". كما رحب حزب الله الذي يقود الأقلية البرلمانية في لبنان بالزيارة واعتبرها خطوة في الاتجاه الصحيح من أجل تنقية الأجواء بين البلدين الشقيقين. ورحب بالزيارة أيضاً كل من تكتل التغيير والإصلاح، وكتلة التحرير والتنمية، والجماعة الإسلامية. محاولة تخريب غير أن الزيارة لاقت أيضاً معارضة وقلق داخليين من قبل بعض الصحف والفصائل اللبنانية. وارتبطت الزيارة بحادث الاعتداء برشق ناري الذي تعرضت له حافلة ركاب سورية معظمهم من العمال بعد ساعات فقط علي عودة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري من دمشق مما أسفر عن مقتل راكب سوري. واعتبرت بعض الرموز السياسية من الأكثرية والمعارضة الاعتداء محاولة لتخريب الأجواء الإيجابية للزيارة. واستنكر النائب أحمد فتفت من تيار المستقبل الحادث، ووصفه بأنه حادث أمني مدبر من قبل بعض من يسعون لاشعال الفتنة. وكانت بعض المصادر قد أشارت إلي قلق داخلي في تيار المستقبل بشكل خاص وقوي 14 آذار بشكل عام من هذه الزيارة، وتباينت الآراء حول شكليات الزيارة التي فضل البعض لو أنها كانت قد تمت عن طريق وسيط أو علي أرض محايدة أو حتي أن تتم بشكل زيارة إقليمية تكون دمشق احدي محطاتها. وأشارت مصادر أخري أن ترحيب حزب الله إنما هو ترحيب شكلي، لكنه في الواقع قلق من هذه الزيارة بسبب القلق الإيراني تجاه ازدياد النفوذ السوري والدور الذي تقوم به في إطار التفاهم مع إسرائيل. ويرتبط قلق حزب الله أيضاً بالضغوط الأمريكية علي كل من سوريا ولبنان من أجل فتح ملف سلاح حزب الله والالتزام ببنود القرار 1701 الخاص بنزع السلاح. زيارة سعد الحريري لدمشق هي لا شك خطوة تاريخية إن حسنت النوايا بين الطرفين، وهو ما سيكشف عنه تبادل الزيارات القريبة المتوقعة للمسئولين من البلدين لبدء التنفيذ العملي لسبل تطوير العلاقات. الحديث عن إنجازات هذه الزيارة من حيث حل الملفات العالقة ربما يكون سابقاً لأوانه لأن هذه الزيارة استهدفت في المقام الأول إذابة حاجز الجليد بين شخصي الحريري والأسد من ناحية، وبين لبنان وسوريا من ناحية أخري. وهي المهمة الأصعب لما شهدته من تراكمات علي مدار السنوات الماضية. غير أن الخوف الحقيقي هو أن تكون هذه الزيارة ليست إلا امتداداً شكلياً لترتيبات القمة السعودية- السورية وما أسفرت عنه من تسهيلات في الاتفاق علي تشكيل الحكومة اللبنانية. سوريا صرحت مراراً أنها تسعي لدعم استقرار لبنان ودعم حكومتها الوطنية، والحريري صرح أن دوره كرجل دولة يحتم عليه عليه عدم التوقف عند الاعتبارات الشخصية. وهي التصريحات التي خلقت أجواء الإيجابية حول الزيارة لما تمثله من بداية لمرحلة تاريخية جديدة قد يكون من شأنها علي المدي القريب حل المسائل العالقة بين البلدين وتعزيز الاستقرار الإقليمي.