منذ أن رأيت مسرحيته «فوزيك» المأخوذة برؤية خاصة عن مسرحية بوخنر الشهيرة أحسست أن داخل هذا الشاب «يغفو عملاق مسرحي» ينتظر فرصة حقيقية كي ينطلق ماردا قويا يكتسح في طريقه جميع الألغام والعقبات. كوميديا الملك لير ولم يكن ظني بعيدا ولم يخب توقعي كثيرا وأنا أشهد إعداده المأساوي الضاحك عن مسرحية شكسبير الذائعة الصيت «لير» والتي قدمتها فرقة إقليم غرب ووسط الدلتا التابعة لقصور الثقافة.. وقامت بأدوارها مجموعة متميزة من الشباب المتحمس الذي تنبثق من عيونه الشظايا الحارقة التي تود أن تحطم كل شيء في طريقها.. من العادات المسرحية البالية الراسخة لتطرح رؤية جديدة لمسرح جديد.. متطور ثوري عقلاني يخلق لنفسه جذورا وقواعد ويضع لهذا المسرح المصري الذي يشكو من العقم والجمود جذور انطلاقة أخري تعتمد علي الفكر والشجاعة المسرحية والتحدي. يبدو أنه منذ أن قدم النجم الكبير يحيي الفخراني هذه المسرحية برؤية من المخرج أحمد عبدالحليم وشهية المخرجين الشبان قد اشتعلت حولها، فهناك أكثر من فرقة جامعية وأكثر من فرقة خاصة وأكثر من تجمع مسرحي حاول تقديم «لير» برؤية مختلفة وبزاويا مختلفة وبوجهة نظر جديدة، كذلك دأبت بعض الفرق إلي العودة إلي تجربة فذة لجأ إليها الكاتب الطليعي «ألفريد جاري» عندما قدم رؤيته الضاحكة البوفون Bouffon لتراجيديا شكسبير مكبث تحت اسم «أوبو ملكاً» ومصطفي مراد. اختلاف المعالجة وهذا هو اسم مخرجنا الشاب الموهوب الذي تسيل دماء المسرح في عروقه نابضة حارة مليئة بالوعود. لجأ إلي الطريقة نفسها مع اختلاف في الأسلوب والمعالجة.. لطرح قضية «لير» وعلاقة الآباء بالأبناء وعقوقهم.. وهوس السلطة وعبث الحياة التي تجعل من دراما الحياة كوميديا صاخبة تختلط فيها دموع البهجة بدموع الفرح.. وتختلط صرخات الحبور بآهات الألم. الأحداث كلها تمركزت حول شخصية أدموند الشرير الذي يمثل هذه القوة الشيطانية التي تعصف كالتيار الساخن لتحطم كل شيء في طريقها في سبيل مصلحتها ونفوذها وسلطتها. أدموند هو الذي يحرك الأحداث.. وهو الذي يعلق عليها وهو الذي يهنأ بنتائجها السوداء، كما استطاع ذكاء المخرج والمعد أن يلجأ إلي توأم شديد التشابه ليلعب دور الابنتين العاقتين مما خلق انطباعا مذهلا.. أكد فيه روح الشخصيتين اللتين أراد شكسبير أن يعبر عنهما من خلال جشع واحد وغريزة منفلتة واحدة وجنون واحد يختلط فيه الشبق الجنسي بشهوة التملك وإغراء السلطة. أما كورديليا التي تدفع من حياتها ثمن براءتها فقد ظهرت فقط في البداية لتختفي بعد ذلك تماما دون أن نشهد موتها الفاجع.. وهو في نظر شكسبير الذي كانت لير آخر مسرحية كتبها تعني بالنسبة إليه موت البراءة نهائيا في هذا العالم الظالم الذي سيصبح تحت سيطرة رجال كإدموند.. ظل مكان قلبهم في جسدهم فارغا فاسحًا المجال لأطماعهم وحقدهم الأسود وإنسانيتهم المريضة. كورديليا تختفي لتصبح واحدة من كورس رجال السيرك الذين يقودون أحداث المسرحية كلها.. التي تحولت لتكون لعبة من ألعاب السيرك وحواته ومهرجيه بوجوههم الملونة وثيابهم الفاقعة وحركاتهم البهلوانية الراقصة. ألعاب البهلوانات وهنا يترك مصطفي مراد لخياله العنان في رسم حركة مدهشة مؤثرة لا تتوقف طوال العرض.. يرقص فيها الممثلون ويغنون ويقفزون ويلعبون ألعاب البلهوانات ليخفوا الحزن العميق الذي يسيطر علي الأحداث.. وليخففوا من موجة السواد التي بدأت تغلل عالمنا وتؤكد انتصار إدموند واتباعه علي كل بياض النفوس وبراءة القلوب. ليست هذه هي المرة الأولي.. التي يحيل مخرج شاب فيها عالم شكسبير إلي عالم الحواة و المهرجين وأصحاب الأقنعة والدمي المتحركة. لقد فعلها قبل ذلك مخرجون أجانب وبعض المخرجين العرب في تونس والمغرب، لكن مصطفي مراد في إعداده الخاص جدا للملك لير يرسم بصمة خاصة به وبأسلوبه المسرحي وبوعيه الجمالي والحركي.. وقدرته علي خلق جو وعالم ينتمي إليه كما ينتمي إلي شكسبير بالوقت نفسه. عجايب علي صعيد مختلف تماما يبرع المخرج الشاب سامح بسيوني في إعطاء نص «عجايب» الذي كتبه عاطف النمر وعالج فيه قضية مثقف مصري وأزمته الداخلية بين ما يقوله عقله وما تدفعه إليه عواطفه من خلال الحقب السياسية المختلفة التي مرت علي مصر منذ ما قبل الثورة وحتي هذه الأيام والذي يختلط فيه الزخم الفكري بالأزمات العاطفية والسياسية التي تعصف بقلب هذا المثقف.. حتي يتم اغتياله أخيرا علي يد إحدي المنظمات الإرهابية باسم الدين، المخرج عالج هذا النص بذكاء وحرفية ورهافة واستطاع أن يكسر الجمود الفكري والحوارات الداخلية بحركة مسرحية بارعة تقوم علي التوازن والسخرية المدروسة بعناية مستفيدا بديكور شديد الإيحاء صممه وائل عبدالله وأزياء أنيقة موحية وشديدة الشاعرية والتأثير صممتها جمالات عبده. «عجايب» عمل مسرحي تقليدي تميزه رؤية شابة متوهجة وإخراج حي متحرك وأداء متحمس من مجموعة أبطاله الشبان. هذا الحماس المتدفق جاء طاغيا كالتيار في العرض الثاني الذي يقدمه مسرح الطليعة بإشراف مديره الجديد هشام عطوة المليء بالحماسة والأفكار الثورية لتجديد روح وطابع المسرح الذي يتولي إدارة العرض باسم «نلتقي بعد الفاصل» كتبه مؤلف جديد يملك حسا مسرحيا واضحا هو أحمد عبدالرازق.. وأراد أن يقول فيه كل ما يعتمل في نفسه من آراء واعتراضات وأماني وأحلام شأن كل المؤلفين الشبان في أعمالهم الأولي. نماذج إنسانية العمل كثيف ويصور طريقا شعبيا تعرض فيه كل النماذج الإنسانية التي نراها يوميا أمامنا.. بائعة الجرائد.. بائعة الورد.. البلطجية والمتحرشون، ماسحو الأحذية، العشاق الحالمون والمهاجرون القرويون.. واللصوص والتليفزيون الجوال الذي يعرض حلقاته من خلال مذيعة تتجول في الشوارع والإعلام الرسمي وفضائحه.. والمدمنون واليائسون والطلبة الثائرون.. كل هذا يمر أمامنا في حركة ديناميكية مستمرة تبهر العين وتخطف الأنفاس والحدث كله يتمحور حول مفصلين هما سرقة تمثال كبير يتوسط الساحة في وضح النهار وردود الفعل الشعبية والرسمية علي ذلك.. ثم عودة التمثال وسرقته مرة أخري.. وعودته مقطعا وقد فقد رأسه وذراعيه، أما المفصل الثاني الذي تركزت عليه بعض المواقف فهو مقتل شاب قروي في منتصف الساحة وما يتبع هذا القتل من نتائج ومناقشات علي المستوي الشعبي والنفسي. ثم مفصل ثالث يمر عابرا رغم أهميته القصوي وهو علاقة الشاب الثوري بإجراءات القمع السلطوي المتمثلة في جنود الأمن المركزي ونداءاته الحارة حول فورة شعبية مرتقبة.. والحديد والأسلاك والحواجز التي وضعها في طريقه. والعاهرة الصغيرة التي تبدو شديدة البراءة أمام «العهر الكبير» الذي نراه أمام أعيننا يسيطر علينا وعلي عقولنا وإعلامنا وضمائرنا. وحريتنا. جمال وحيوية كما قلت المسرحية تقول الكثير والكثير جدا وكان علي مؤلفها الشاب أن يدرك أن المادة التي يعمل عليها تصلح لأن تكون موضوعا لعشر مسرحيات أخري لا مسرحية واحدة بدت لنا رغم جمالها وحيوية حركتها وجرأة موضوعها.. وكأنها لا تريد أن تنتهي. المخرج الشاب أحمد إبراهيم.. صنع المستحيل لكي يجعل من العرض صورة حية لشارع مصري ينبض بالحيوية والشراسة والحنان معا. النماذج.. تتوالي وتتصارع ويختلط الخيط الأبيض بالخيط الأسود وتتمزق أوصال التمثال الذي يمثل نهضة مصر.. ورجالها العظام ولا يبقي منه إلا أجزاء متناثرة بلا رأس ولا ذراعين. عمل مسرحي كبير يمثل إشراقا مسرحيا يضم إلي إشراقات أخري تعيد لنا الأمل كبيرا مدهشا في مستقبل هذا المسرح الذي ظننا في لحظة يأس أنه لن ينهض من رقاده الأبدي.