تشهد الأزمة الأوكرانية حراكاً سياسياً ودبلوماسياً غير مسبوق، ففي الوقت الذي يؤكد فيه الرئيس الروسي بوتين أحقيته في التدخل العسكري بأوكرانيا لحماية الناطقين باللغة الروسية، أكد في نفس الوقت أن ذلك سيكون الخيار الأخير, الأمر الذي يؤشر إلى أن الأزمة تتجه نحو الحلول السياسية والدبلوماسية. إذ بدأت الحكومتان الروسية والأوكرانية اتصالات على مستوى عال بشأن الأزمة في أوكرانيا، وأجرى وزير الخارجية الأمريكي مشاورات مع الحكومة الانتقالية في كييف، كما اقترحت منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا خلال اجتماع لها في فيينا، تشكيل مجموعة اتصال دولية من أجل أوكرانيا للمساهمة فى حل سلمى للنزاع، بعدما طلبت الولاياتالمتحدة إرسال مراقبين من المنظمة فوراً إلى أوكرانيا، وعقد وزراء الخارجية الأوروبيين اجتماعهم الطارئ الثانى حول أوكرانيا خلال 10 أيام، وتواصل الدول الأوروبية مساعيها الدبلوماسية لحل الأزمة من خلال الحوار بين أطراف الأزمة الثلاثة موسكو وواشنطن وكييف. وقد أثار توعد موسكو بالتدخل عسكريا فى أوكرانيا موجة رفض دولية، حيث أدان قادة الدول ال7 الكبرى الأعضاء فى مجموعة الثمانى، الانتهاك الواضح لسيادة أوكرانيا من جانب روسيا، وأعلنوا تعليق تحضيراتهم لاجتماع القمة الذى من المقرر أن تعقده المجموعة فى سوتشى بروسيا، فى يونيو المقبل، وعرضت مجموعة دول السبع، التى تضم الولاياتالمتحدة واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا دعما ماليا قويا لأوكرانيا، وأعلن وزراء ماليتها، أن المجموعة ستتغلب مع صندوق النقد الدولى على التحديات الاقتصادية التى تواجهها أوكرانيا. كانت الأزمة في أوكرانيا قد بدأت آواخر العام الماضي 2013، بعد تراجع الرئيس يانكوفيتش عن توقيع اتفاقية الشراكة مع الأتحاد الأوروبي، لكنها اتخذت منحي آخر منتصف يناير هذا العام، بعد أن صادق البرلمان الأوكراني علي قوانين تنظيم التظاهر وحماية الأمن التي تقدمت بها الرئاسة الأوكرانية، وهو ما اعتبرته المعارضة استمرارا لسياسات حكومة حزب "الأقاليم" الحاكم الساعية لتقييد الحريات وقمع المعارضة. ولم تتوقف التطورات المتسارعة التي تشهدها أوكرانيا عند قرار البرلمان الأوكراني بعزل الرئيس فيكتور يانكوفيتش وتحديد الخامس والعشرين من مايو القادم، لإجراء انتخابات رئاسية عاجلة، بعد ان رفض التصديق علي قرار البرلمان بأعادة تفعيل دستور عام 2004 الذي يقلص صلاحيته، وإنما أعلن القائم بأعمال وزير الداخلية الأوكراني أن الرئيس فيكتور يا نكوفيتش وعدد من أعضاء فريقه الرئاسي ستوجه لهم اتهامات تتعلق بقتل مدنيين أثناء الاحتجاجات الأخيرة وقد تم وضعهم علي قوائم المطلوبين للعدالة. سيناريوهات مفتوحة إزاء هذه التطورات المتسارعة في أوكرانيا، ثمة عدة سيناريوهات مستقبلية مفتوحة للأزمة، وهي كالتالي: السيناريو الأول: الإعلان عن انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة مع تعديلات دستورية محدودة تنزع فتيل الأزمة، تضمن الحقوق والمصالح الجيوسياسية الروسية في منطقة القرم، إذ كانت موسكو قد وضعت شرطين أساسيين لبدء التفاوض مع الدول الغربية بشأن حل أزمة أوكرانيا, هما تطبيق اتفاقية فبراير بين الرئيس يانوكوفيتش والمعارضة والتي تتضمن إصلاحات دستورية وانتخابات رئاسية مبكرة وحكومة وحدة وطنية, وكذلك إجراء حوار وطني أوكراني ومشاركة ممثلي كل المجموعات التي تعيش بأوكرانيا في مفاوضات دولية لحل الأزمة. ويدعم هذا السيناريو، أن روسيا تعتبر أوكرانيا معركة مصير بالنسبة لها، فقد اعتبرت العقيدة العسكرية الروسية (2010-2020) أن توسيع حلف شمال الأطلنطي، واقتراب بنيته العسكرية من حدود روسيا الاتحادية أحد التهديدات الرئيسية للأمن القومي الروسي وعملاً عدائياً ضدها يهدف إلى تطويق روسيا وعزلها عن أوروبا لا يمكن السماح به أو التهاون معه . كما أن المواطن الأوكراني لم يأخذ من البرتقاليين والغرب على مدى السنوات الخمس من حكمهم سوى الوعود الزائفة، ولم يستطع يوشينكو الوفاء بوعوده وتحويل أوكرانيا إلى واحة من الديمقراطية والرخاء الاقتصادي، وكانت أوكرانيا رهينة لمواجهات سياسية مستمرة، وتدهور اقتصادي حاد، حيث انخفض إجمالي الناتج القومي المحلي بنسبة 15 في المائة، وفقدت العملة الأوكرانية "الهريفنيا" أكثر من نصف قيمتها، وارتفع مستوى البطالة إلى أكثر من 20 في المائة من السكان، وتضاعف عدد من يعيشون تحت خط الفقر، وازداد التضخم وتضاعفت أسعار المواد الغذائية عدة مرات، وتفشى الفساد وطال مسؤولين كباراً، وأصبحت أوكرانيا في مقدمة دول العالم فساداً بعد الصومال، لتتحول الثورة البرتقالية من حلم إلى كابوس . هذا في حين قدمت روسيا 3 مليارات دولار تمثل الدفعة الأولى من القرض البالغ 15 مليار دولار لأوكرانيا في ديسمبر 2013، ومن المقرر توريد قيمة القرض بالكامل قبل مايو المقبل . كما يعمل في روسيا نحو 5 .1 مليون أوكراني حسب التقديرات الرسمية، و5 ملايين وفق تقديرات أخرى . السيناريو الثاني وهو أن تنجح الضغوط والضغوط المضادة والدبلوماسية الروسية والأوروبية في التوصل إلى تسوية سياسية تجدد الشرعية لتيار يحترم خصوصية العلاقة مع موسكو، ويحقق أكبر قدر ممكن من التوازن في سياسة أوكرانيا الخارجية وعلاقاتها بكل من روسيا والغرب. يدعم هذا السيناريو، الاستراتيجية الأمريكية التي تعتبر أوكرانيا ورقة ضغط على روسيا وسياستها التعنتية في سوريا، وبالتالي أصبح الملف الأوكراني في مقايضة مع الملف السوري وباتت موسكو أمام خيارين لا ثالث لهما، إما التمسك بملف سوريا وخسارة ملف أوكرانيا، وإما التمسك بملف أوكرانيا مع تقديم تنازلات روسية في الملف السوري. فى الوقت ذاته، دعا حلف شمال الأطلنطى، (الناتو)، موسكو وكييف إلى السعى إلى حل سلمى للأزمة عبر الحوار، وإلى نشر مراقبين دوليين، معتبراً أن ما تقوم به روسيا فى أوكرانيا ينتهك المبادئ الشرعية للأمم المتحدة، لكن الحلف لم يتمكن خلال محادثات طارئة فى بروكسل من الاتفاق على أى خطوات مؤثرة للرد على موسكو. السيناريو الثالث، هو العودة إلى أجواء الحرب الباردة واستمرار الأزمة وتعميق الانقسام في أوكرانيا التي تموج بتعدد عرقي، إذ تتنوع الجماعات العرقية فى أوكرانيا، لتشمل الأوكرانيين وهم الأكبر فى النسبة بتمثيلهم نحو 77.8% من إجمالى السكان البالغ عددهم 45.6 مليون نسمة، طبقاً لتقديرات الأممالمتحدة فى 2012، ثم الروس بنسبة 17.3%، وروسيا البيضاء 0.6%. وهو الأمر الذى دفع العديد من المراقبين والمعلقين للتساؤل حول ما إذا كانت الأزمة تعد تكرارا لأزمة خليج الخنازير التى وقعت عام 1961بين الاتحاد السوفيتى آنذاك والولاياتالمتحدة والتى وصلت وقتئذ لحافة الهاوية قبل أن يتراجع الطرفان وتنتهى الأزمة بتعهدات دولية متبادلة. وتدرك روسيا أن تدخلها العسكرى المحتمل لن يتم بلا عواقب عليها، ولكنها تبقى بلا خيارات أفضل، خاصة من الناحية الاستراتيجية، فسماح موسكو بوجود كيان معاد على حدودها، متمثلا فى النظام الأوكرانى الجديد، يعنى قدرة الولاياتالمتحدة على نشر بطاريات الصواريخ التابعة لمشروع الدرع الصاروخى الأمريكى إلى الأراضى الأوكرانية وعلى الحدود الروسية مباشرة، مما يقضى تماما على نظرية توازن الرعب النووى التى لا تزال تحفظ لموسكو قدر من التأثير العالمى وليس الإقليمى فحسب. ولهذا ستكون روسيا حريصة للغاية على الاحتفاظ بمنطقة عازلة بينها وبين أى كيان معاد لها، بحيث يمكنها أن تشن حربا على أوكرانيا مثلا باسم منطقة القرم الراغبة فى الاستقلال، أو أن تنشر قواتها على الأراضى الأوكرانية أو تستهدف بعض التجهيزات العسكرية الأوكرانية باستخدام تلك المنطقة العازلة، ولا شك أن شبه جزيرة القرم وبعض المناطق الجنوبية فى أوكرانيا تمثل مناطق عازلة نموذجية، حيث يتحدث السكان اللغة الروسية، ويعتبر 60% منهم أنفسهم مواطنين روسيين. علاقة جديدة بين الشرق والغرب من هنا يمكن القول أن هذه الأزمة قد تعيد رسم العلاقات بين "شرق" طامح إلى إنهاء الأحادية القطبية الأمريكية، التي تكرست مع انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، و"غرب" يبدو في حيرة من أمره حيال المبادئ الديمقراطية التي يدعي الحرص عليها. لقد كان دفاع الغرب عن تلك المبادئ وترويجه العنيد لها وراء خلخلة الكتلة السوفيتية وذراعها العسكرية "حلف وارسو". ولذا، تبدو مفارقةً أن ترتبك المعادلات بالصورة التي نراها اليوم، بعدما تمكّن متظاهرو ساحات العاصمة الأوكرانية كييف من إزاحة فيكتور يانوكوفيتش "رجل موسكو القوي" ولو بكلفة دموية مرتفعة في الحسابات الأوروبية. وبالتالي فإن قراءة المشهد السياسي في أوكرانيا حتى الآن مفاده تحقيق التيار المناوئ لموسكو في أوكرانيا انتصاراً في جولة مبكرة من مواجهة قد لا تكون قصيرة، ذلك أن رهانات روسيا ما زالت قوية، وهي تعتمد على حقائق طائفية وجغرافية ومصلحية في سعيها للحيلولة دون خسارة دولة تعتبرها خط دفاع لا غنى لها عنها أمام مطامح الغرب. وكانت روسيا قد قاومت ضم أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي ونجحت في ذلك عام 2010 إثر فوز يانوكوفيتش في الانتخابات الرئاسية على منافسته اليمينية يوليا تيموشنكو. واليوم تعارض روسيا مجدّداً انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، لرفضها وصول النفوذ الغربي عبر حلف الناتو والاتحاد إلى حدودها عبر جمهورية سلافية كبيرة كانت جزءاً من إمبراطوريتها، وما زالت تؤمن بأنها جزء لا يتجزأ منها. وفي المقابل، على الغرب أن يفكر جدياً بأي لغة يستطيع التحاور مع قيادة روسيا المنتشية بنجاح تحدياتها الدولية، وأحدثها في سوريا، على حساب انكفاء أمريكي واضح في عدة مناطق من العالم يقوم على مبدأ تجنب المواجهة.