يبقى اسم الشاعر الراحل محمود درويش بجوار شعره كواحد من أهم رموز القضية الفلسطينية، فكما كان واحدًا مما عاصروا النكبة منذ الطفولة كان أيضًا واحدًا من أصواتها التي أجبرت العالم كله على الاستماع إلى الآم الفلسطينيين والتعريف بعدالة قضيتهم؛ ورغم الترحال في عدة بلاد، لكن درويش كان يأخذ هموم قضيته معه أينما ذهب، يُحدث بها العالم شعرًا، ويكتب عنها نثرًا وصحافة، وكان واحدًا من أعمدة منظمة التحرير الفلسطينية، رغم اختلافه مع الرئيس الراحل ياسر عرفات بشأن اتفاقية أوسلو. ولد درويش عام 1941 في قرية البروة الفلسطينية، والتي تقع في الجليل شرق ساحل عكا، ولم يكد يتم السادسة من عمره حتى استيقظ في إحدى الليالي حالكة السواد على أصوات انفجارات بعيدة تقترب، وهرج في المنزل، وهروب مفاجئ من البيت أعقبه العدوٍ مع أسرته لأكثر من ست وثلاثين ساعة، قضت الأسرة بعضها مُختبة في المزارع من عصابات الهاجاناة، الذين ما انفكوا يقتلون ويحرقون ويدمرون كل ما يجدونه أمامهم تحت دوي القنابل، ليجد محمود الصغير نفسه أخيرًا مع عشرات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في جنوبلبنان، بعد أن تعرض ككل الفلسطينيين للاقتلاع من أرضه، وتدمير مدنه وقراه، وروى عن تلك الفترة " كنت في السادسة من عمري، لكن ذاكرتي قوية، وعيناي مازالتا تسترجعان تلك المشاهد.. كنا ننتظر انتهاء الحرب لنعود إلى قرانا، لكن جدي وأبي عرفا أن المسألة انتهت، فعدنا متسللين مع دليل فلسطيني يعرف الطرق السرية إلى شمال الجليل.. وقد أقيمت على أراضيها موشاف أحيهود، وكيبوتس يسعور.. وكانت صفتنا في القانون الإسرائيلي "الحاضرون- الغائبون"، أي أننا حاضرون جسديًا ولكن بلا أوراق.. صودرت أراضينا وعشنا لاجئين". عاش درويش في حيفا بعد انتقال العائلة إلى قرية "الجديدة"، واشتُهر داخل المجتمع العربي في الأرض المحتلة بوصفه شاعر المقاومة، لدرجة أنه كان قادرًا بقصيدته على إرباك حمَلة السلاح من جيش الاحتلال، وكانت الشرطة الإسرائيلية تحاصر أي قرية تُقيم له أمسية شعرية، وظل في حيفا عشر سنوات أنهى فيها الدراسة الثانوية، وانتسب إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وعمل في صحافة الحزب مثل "الاتحاد"، و"الجديد" -التي أصبح فيما بعد رئيس تحريرها- وظل ممنوعًا من مغادرة حيفا مدة عشر سنوات فيما يُشبه الإقامة الجبرية، حتى حصل على هوية حمراء في البداية، ثم زرقاء لاحقًا، فكانت أشبه ببطاقة إقامة، وتم اتهامه بالقيام بنشاط معاد لدولة إسرائيل، فطورد بشكل متواصل، وتم اعتقاله خمس مرات، وبعد سلسلة من الحصار، اضطر الحاكم العسكري إلى تحديد إقامته في الحي الذي يعيش فيه، فصار محظورًا عليه مغادرة الحي منذ غروب الشمس إلى شروقها في اليوم التالي. غادر درويش الأراضي المُحتلة إلى الاتحاد السوفييتي للدراسة، وكان إصراره على فلسطينيته عائقًا لسفره، فكما قال "حاولت السفر قبلًا إلى باريس لكن السلطات الفرنسية رفضت دخولي إلى أرضها في العام 1968، كانت لدى وثيقة إسرائيلية لكنّ الجنسية غير محددة فيها، الأمن الفرنسي لم يكن مطلوبًا منه أن يفهم تعقيدات القضية الفلسطينية، كيف أحمل وثيقة إسرائيلية وجنسيتي غير محددة فيها وأقول له بإصرار إنني فلسطيني، أبقوني ساعات في المطار ثم سفّروني إلى الوطن المحتل"؛ حتى سافر وصار طالبًا في معهد العلوم الاجتماعية بموسكو، وكان اصطدامه بمشكلات الروس يوميًا جعل فكرة أن موسكو هي فردوس الفقراء تتبخر من ذهنه ففقد الفكرة المثالية عن الشيوعية ولكنه لم يفقد ثقته بالماركسية. انتقل درويش إلى العاصمة اللبنانيةبيروت عام 1973، والتي عاش فيها حتى عام 1982، وكتب فيها واحدًا من أهم دواوينه "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق"، وفي عام 1977 وصلت شهرته إلى أوجها، حيث تم توزيع أكثر من مليون نسخة من أعماله، في الوقت الذي امتلكت فيه قصائده مساحة قوية من التأثير على كل الأوساط، حتى إن قصديته "عابرون في كلام عابر" قد أثارت نقاش حاد داخل الكنيست الإسرائيلي، كما أنه عمل رئيسًا لتحرير مجلة "شئون فلسطينية"، وأصبح مديرًا لمركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يؤسس مجلة الكرمل عام 1981، ولكن لسوء حظه، أن البلاد التي كان يراها ورشة أفكار، ومختبر لتيارات أدبية وفكرية وسياسية تتصارع وتتعايش في وقت واحد اندلعت بها الحرب التي فقد خلالها صديقه وزميل الكفاح غسان كنفاني؛ فانتقل إلى تونس، حيث قابل الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي طلب منه مواصلة إصدار جريدة الكرمل، فسافر إلى قبرص للحصول على رخصة الجريدة، وصدرت "الكرمل" من قبرص فيما كان يُحررها في باريس ويطبعها في نيقوسيا، وكان يعاونه في ذلك الشاعر سليم بركات، وظل درويش في باريس ما يقرب من عشر سنوات ولكن في شكل متقطع، فكان يسافر باستمرار، وكان حريصًا على البقاء قريبًا من منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، حيث تم انتخابه عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وكتب هُناك أيضًا نص إعلان الدولة الفلسطينية، ونصوص كثيرة ومقالًا اسبوعيًا في مجلة اليوم السابع، وكان احترام جميع الفصائل والمتناحرين داخل القضية الفلسطينية له جعل عرفات يحاول إقناعه بعد إعلان قيام الدولة الفلسطينية في المنفى بتولي وزارة الثقافة الفلسطينية، ولكن الرد كان بالرفض، مُعللًا رفضه بأن أمله الوحيد هو العودة إلى الوطن، ثم التفرغ لكتابة الشعر. في عام 1993 أُتيح لدرويش أثناء تواجده في تونس مع المجلس الوطني الفلسطيني أن يقرأ اتفاق أوسلو، واختلف مع ياسر عرفات لأول مرة حول هذا الاتفاق، وكان رفضه قويًا، حتى أنه قدم استقالته من المجلس عندما تم التوقيع على الاتفاقية بالأحرف الأولى، مُبررًا ذلك بأن الاتفاق ليس عادلًا لأنه لا يوفر الحد الأدنى من إحساس الفلسطيني بامتلاك هويته؛ وبعد توقيع الاتفاقية أصبح في إمكانه العودة إلى جزء من وطنه المحتل، فشعر بأن من واجبه الوطني والأخلاقي ألا يبقى في المنفى، فاختار الذهاب إلى عمان لأنها قريبة من فلسطين وكان يمضي نصف وقته في رام الله التي أشرف فيها على صدور مجلة "الكرمل"، والنصف الآخر في عمان. قبيل نهايته غادر درويش عمان إلى الولاياتالمتحدة وهو غير متأكد من رجوعه سالما إليها، وبالفعل توفيَّ يوم السبت 9 أغسطس 2008، بعد إجراء عملية قلب مفتوح في المركز الطبي بهيوستن، حيث دخل في غيبوبة أدت إلى وفاته؛ ونعاه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مُعلنًا الحداد ثلاثة أيام في كل الأراضي الفلسطينية؛ وتم نقل جثمانه إلى رام الله بعد وصوله إلى العاصمة الأردنية عمّان، حيث كان هناك العديد من الشخصيات من العالم العربي لتوديعه، ليواري الثرى في 13 أغسطس في مدينة رام الله، ويُشارك في جنازته الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني وشخصيات أخرى في مقدمتهم الرئيس الفلسطيني. https://www.youtube.com/watch?v=HDZByzkjvLk https://www.youtube.com/watch?v=BNoydU4wDrk https://www.youtube.com/watch?v=sQsIYyYZBQ0 https://www.youtube.com/watch?v=yxK2t__KrVE https://www.youtube.com/watch?v=sQsIYyYZBQ0 https://www.youtube.com/watch?v=a6_VyCPO5Gg