«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمود درويش.. ذاكرة النسيان
نشر في البوابة يوم 09 - 08 - 2015


سجِّل
أنا عربي
ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ
وأطفالي ثمانيةٌ
وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيفْ!
فهلْ تغضبْ؟
يبقى محمود درويش واحدًا من أهم شعراء المقاومة، والذي خرجت كلماته لتبقى على جدار الزمن، تمر بها كل الأجيال المُتعاقبة مُستلهمة أفكاره عن الحب والشعر والمقاومة والسلام؛ وتروى قصة نضاله من أجل وطن فقده وهو لايزال في السادسة فأحيا ذكراه وحكاياته في قلوب الجميع؛ لم يترك درويش همًّا إلا وصاغه شعرًا، ولم يترك وطنه وإن سافر، ولم يبتعد في حياته إلا وكان يحمل قضيته قبل حقائبه التي كانت جاهزة دومًا للترحال.
تمر اليوم الذكرى السابعة لرحيل الشاعر والمُناضل، الذي أوفى التزاماته للجميع، قبل أن يترك عالمنا؛ لكنه ترك حلمه باقيًا كي يمتد جسر الحلم حتى نلقاه؛ فيبقى حتى رغم رحيله "ذاكرة النسيان".
وُلدتُ إلى جانب البئرِ
والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ
وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ
وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً
وانتميتُ إلى عائلةْ
مصادفَةً
ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ..
ولد محمود درويش في الثالث عشر من مارس عام 1941 في قرية البروة الفلسطينية، والتي تقع في الجليل شرق ساحل عكا، وشاء حظه أن يرتطم بقضيته منذ بدايتها، فلم يكد يتم السادسة من عمره عام 1947، حتى استيقظ في إحدى الليالي حالكة السواد على أصوات انفجارات بعيدة تقترب، وهرج في المنزل، وهروب مفاجئ من البيت الذي اقتربت منه العصابات الصهيونية، أعقبه العدوٍ مع أسرته لأكثر من ست وثلاثين ساعة، قضت الأسرة بعضها مُختبئة في المزارع من عصابات الهاجاناة، الذين انتشروا في القرية كالجراد، وما انفكوا يقتلون ويحرقون ويدمرون كل ما يجدونه أمامهم تحت دوي القنابل، ليجد محمود الصغير نفسه أخيرًا مع آلاف من اللاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، الذين تعرضوا للاقتلاع من أرضهم، وتدمير مدنهم وقراهم.
" كنت في السادسة من عمري، لكن ذاكرتي قوية، وعيناي ما زالتا تسترجعان تلك المشاهد.. كنا ننتظر انتهاء الحرب لنعود إلى قرانا، لكن جدي وأبي عرفا أن المسألة انتهت، فعدنا متسللين مع دليل فلسطيني يعرف الطرق السرية إلى شمال الجليل.. وقد أقيمت على أراضيها موشاف أحيهود، وكيبوتس يسعور.. وكانت صفتنا في القانون الإسرائيلي "الحاضرون- الغائبون"، أي أننا حاضرون جسديًا ولكن بلا أوراق.. صودرت أراضينا وعشنا لاجئين".
عاش الطفل درويش في حيفا بعد انتقال العائلة إلى قرية "الجديدة"، وشّب فيها، واشتُهر داخل المجتمع العربي في الأرض المحتلة بوصفه شاعر المقاومة، وكان تأثيره قويًا لدرجة أنه كان قادرًا بقصيدته على إرباك حمَلة السلاح من جيش الاحتلال، وكانت الشرطة الإسرائيلية تحُاصر أي قرية تُقيم له أمسية شعرية؛ وظل في حيفا عشر سنوات أنهى فيها دراسته الثانوية، وانتسب إلى الحزب الشيوعي، وعمل في صحافة الحزب مثل "الاتحاد"، و"الجديد" التي أصبح فيما بعد رئيس تحريرها، وظل ممنوعًا من مغادرة حيفا مدة عشر سنوات فيما يُشبه الإقامة الجبرية، حتى حصل على هوية حمراء في البداية، ثم زرقاء لاحقًا، فكانت أشبه ببطاقة إقامة، ولكن سُرعان ما تم اتهامه بالقيام بنشاط معاد لدولة إسرائيل، فطورد من قِبل أجهزة الأمن الإسرائيلية بشكل متواصل، وتم اعتقاله خمس مرات، وبعد سلسلة من الحصار، اضطر الحاكم العسكري إلى تحديد إقامته في الحي الذي يعيش فيه، فصار محظورًا عليه مغادرة الحي منذ غروب الشمس إلى شروقها في اليوم التالي.
يقول درويش: "من العام 1967 إلى العام 1970 كنت ممنوعًا من مغادرة منزلي، وكان من حق الشرطة أن تأتي ليلًا لتتحقق من وجودي، وكنت أعتقل في كل سنة وأدخل السجن من دون محاكمة.. ثم اضطررت إلى الخروج".
https://soundcloud.com/a7medma7moud/id7wuyj1xqmh
صارت الوردةُ جرحًا
والينابيع ظمأ
- هل تغيَّرت كثيرًا ؟
- ما تغيَّرتُ كثيرًا
عندما نرجع كالريح
إلى منزلنا..
غادر درويش الأراضي المُحتلة إلى الاتحاد السوفييتي للدراسة بعد فشله في السفر إلى فرنسا، وأصبح طالبًا في معهد العلوم الاجتماعية بموسكو، وكان اصطدامه بمشكلات الروس يوميًا جعل فكرة أن موسكو هي فردوس الفقراء تتبخر من ذهنه، ففقد الفكرة المثالية عن الشيوعية ولكنه لم يفقد ثقته بالماركسية.
"حاولت السفر قبلًا إلى باريس لكن السلطات الفرنسية رفضت دخولي إلى أرضها في العام 1968، كانت لدى وثيقة إسرائيلية لكنّ الجنسية غير محددة فيها، الأمن الفرنسي لم يكن مطلوبًا منه أن يفهم تعقيدات القضية الفلسطينية، كيف أحمل وثيقة إسرائيلية وجنسيتي غير محددة فيها وأقول له بإصرار إنني فلسطيني، أبقوني ساعات في المطار ثم سفّروني إلى الوطن المحتل".
لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها
انتقل درويش إلى القاهرة، وهو الأمر الذي اعتبره من أهم الأحداث في حياته الشخصية، وسرعان ما عيّنه الكاتب محمد حسنين هيكل -الذي كان يرأس تحرير الأهرام آنذاك- في نادي كتّاب الأهرام، حيث التقى نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وبنت الشاطئ الذين كانوا يتشاركون معه المكتب ذاته، وكان توفيق الحكيم في مكتب فردي بجوارهم، وتوطدت صداقة درويش مع محفوظ وإدريس، وكان يُنظر إليه باعتباره شاعر المقاومة، وكانت من أهم أعماله فيها قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" التي نُشرت في الأهرام، وصدرت في كتاب "أحبك أو لا أحبك".
ويقول: "الدخول إلى القاهرة كان من أهم الأحداث في حياتي الشخصية؛ في القاهرة ترسخ قرار خروجي من فلسطين وعدم عودتي إليها، ولم يكن هذا القرار سهلًا. كنت أصحو من النوم وكأنني غير متأكد من مكان وجودي. أفتح الشباك وعندما أرى النيل أتأكد من أنني في القاهرة.. وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرأها وأعجب بها، فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريبًا والأدب المصري، التقيت بهؤلاء الكتّاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدّهم من آبائي الروحيين".
مجازًا أقول: انتصرتُ
مجازًا أقول: خسرتُ
ويمتدُّ وادٍ سحيقٌ أمامي
وأَمتدُّ في ما تبقى من السنديانْ
من القاهرة إلى بيروت انتقل درويش عام 1973 إلى العاصمة اللبنانية، والتي عاش فيها حتى عام 1982، ولها في قلبه مكانة خاصة، وكتب فيها واحدًا من أهم دواوينه "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق"، وفي عام 1977 وصلت شهرته إلى أوجها، حيث تم توزيع أكثر من مليون نسخة من أعماله، في الوقت الذي امتلكت فيه قصائده مساحة قوية من التأثير على كل الأوساط، حتى إن قصديته "عابرون في كلام عابر" قد أثارت نقاش حاد داخل الكنيست الإسرائيلي، كما أنه عمل رئيسًا لتحرير مجلة "شئون فلسطينية"، وأصبح مديرًا لمركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يؤسس مجلة الكرمل عام 1981، ولكن لسوء حظه، أن البلاد التي كان يراها ورشة أفكار، ومختبر لتيارات أدبية وفكرية وسياسية تتصارع وتتعايش في وقت واحد اندلعت الحرب.
"بعد اندلاع الحرب صار الدم والقصف والموت والكراهية والقتل.. كل هذه صارت تهيمن على أفق بيروت وتعكره. وبعض أصدقائي هناك ماتوا وكان عليّ أن أرثيهم، وأول من فقدت هناك غسان كنفاني. وأعتقد أن الحرب الأهلية في لبنان عطلت الكثير من المشاريع الثقافية والفكرية التي كانت تجتاح بيروت، وانتقل الناس إلى جبهات مختلفة ومتناقضة ومتحاربة".
جاء درويش إلى دمشق أواخر عام 1982 ليُحيي أمسية كانت مقررة على مدرج جامعة دمشق، والتي لم يتسع مدرجها للجماهير، فاضطرت الجهة المُنظمة إلى نقل الجمهور إلى مدرج الأسد في سيارات نقل، وفوجئ درويش بأن المدرج والملعب مليئان، فقال أحد الشعراء عبارة ظل درويش يرددها بعد ذلك "والله لو قتلناه وشرحنا أسبابنا للقاضي سنأخذ براءة".
ولا تتعجَّلْ، فإن أقبلَتْ بعد موعدها
فانتظْرها
وإن أقبلتْ قبل موعدها
فانتظْرها
انتقل درويش إلى تونس، حيث قابل زعيم منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، الذي طلب منه مواصلة إصدار جريدة الكرمل، فسافر درويش إلى قبرص للحصول على رخصة الجريدة، وصدرت "الكرمل" من قبرص فيما كان يُحررها في باريس ويطبعها في نيقوسيا، وكان يعاونه في ذلك الشاعر سليم بركات، وظل درويش في باريس ما يقرب من عشر سنوات ولكن في شكل متقطع، فكان يسافر باستمرار، وكان حريصًا على البقاء قريبًا من منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، ولكن استقراره في باريس جعله يكتب فيها دواوينه الشهيرة "ورد أقل"، "هي أغنية"، "أحد عشر كوكبًا"، "أرى ما أريد"، "لماذا تركت الحصان وحيدًا؟"، ونصف قصائد "سرير الغريبة"؛ كما كتب نصوص "ذاكرة النسيان" وكان هناك متفرّغًا للكتابة، رغم انتخابه عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، حيث كتب هُناك أيضًا نص إعلان الدولة الفلسطينية، ونصوص كثيرة ومقالًا أسبوعيا في مجلة اليوم السابع، وكان احترام جميع الفصائل والمتناحرين داخل القضية الفلسطينية له جعل عرفات يحاول إقناعه بعد إعلان قيام الدولة الفلسطينية في المنفى بتولي وزارة الثقافة الفلسطينية، ولكن الرد كان بالرفض، مُعللًا رفضه بأن أمله الوحيد هو العودة إلى الوطن، ثم التفرغ لكتابة الشعر.
ويقول: "كانت باريس عبارة عن محطة أكثر منها إقامة أو سكنًا، لا أعرف، لكنني أعرف أنه في باريس تمت ولادتي الشعرية الحقيقية، وإذا أردت أن أمُيّز شعري، فأنا أتمسك كثيرًا بشعري الذي كتبته في باريس في مرحلة الثمانينيات وما بعدها. هناك أتيحت لي فرصة التأمل والنظر إلى الوطن والعالم والأشياء من خلال مسافة"..
لأن الزمن في غزة شيء آخر..
لأن الزمن في غزة ليس عنصرًا محايدًا
أنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل
ولکنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة.
الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة
ولکنه يجعلهم رجالًا في أول لقاء مع العدو..
عام 1993 أُتيح لدرويش أثناء تواجده في تونس مع المجلس الوطني الفلسطيني أن يقرأ اتفاق أوسلو، عندها اختلف مع ياسر عرفات لأول مرة حول هذا الاتفاق، وكان رفضه قويًا، حتى أنه قدّم استقالته من المجلس عندما تم التوقيع على الاتفاقية بالأحرف الأولى، مُبررًا ذلك بأن الاتفاق ليس عادلًا لأنه لا يوفر الحد الأدنى من إحساس الفلسطيني بامتلاك هويته.
بعد توقيع اتفاقية أوسلو أصبح في إمكان درويش العودة إلى جزء من وطنه المحتل، فشر بأن من واجبه الوطني والأخلاقي ألا يبقى في المنفى، فاختار الذهاب إلى عمان لأنها قريبة من فلسطين وكان يمضي نصف وقته في رام الله التي أشرف فيها على صدور مجلة الكرمل، والنصف الآخر في عمان؛ ولم تختلف الحياة في بيروت وباريس والقاهرة عن حياته في عمان وكان معظم وقته في العمل، فكتب "الجدارية"، "حالة حصار"، "لا تعتذر عما فعلت"، "كزهر اللوز أو أبعد"، "في حضرة الغياب"، أثر الفراشة"، والتي كتب معظمها بين عمان ورام الله.
ويقول درويش: "سيقال إنني أفضل باريس على رام الله أو على غزة، وبالتالي اتخذت الخطوة الشجاعة الثانية بعد الخروج وهي خطوة العودة"..
أحنُّ إلى خبز أُمي
وقهوة أمي
ولمسة أُمي..
كانت لدرويش طقوس وعادات يومية لا يرغب في أن يخترقها أحد، خاصة ساعات القراءة والكتابة، وكان بعد خوضه الزواج والانفصال مرتين يعيش وحيدا في شقته وكان رافضًا أن ينام عند أحد، ولا يرغب في أن ينام عنده أحد، باستثناء بعض الأصدقاء الذين يأتون إليه أحيانا من فلسطين، وكان مُعتادًا على النوم مبكرًا ويستيقظ صباحًا، فيبدأ بحلاقة ذقنه والحمام وتناول القهوة، ثم يلبس أجمل ثيابه وحذاءه، كما لو أنه سيذهب إلى موعد رسمي، ويجلس خلف الطاولة مُنتظرًا إلهام الكتابة "ليقتنص الوحي" حسب تعبيره، فكان يكتب صفحة أو صفحات وأحيانًا لا يكتب شئ، وكان يتحدث العبرية والإنجليزية والفرنسية، وكان يحب سماع الموسيقى التي غالبًا ما كان يستمع إليها أثناء الكتابة، وكان لديه مجموعة كبيرة من الأشرطة والأقراص الموسيقية، خاصة عبد الوهاب، وأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، ويتابع المسلسلات التاريخية. أما تسليته فكانت في لعب النرد التي ينهمك في أجوائها، فيصرخ أحيانًا، ويغتاظ أخرى؛ إلا أنه، ورغم كل مُحبيه، كان يخشى من الموت وحيدًا دون أن يشعر به أحد.
"الستون رقم مرعب جدًا، ترى ماذا سيحدث بعد ذلك"..
وروى أصدقاء درويش المقربون أنه كان يصنع لهم القهوة بنفسه، ويتفنن في ذلك، ولا يحب أن يصنعها أو يقدمها لهم أحد غيره، وكان يصر على أن يصنع القهوة بيديه، ويخدم زواره، وهو نفسه كتب عنها في "ذاكرة النسيان" قائلًا "لم يعد لي من مطلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة، فالقهوة لمن أدمنها مثلي، هي مفتاح النهار، والقهوة، لمن يعرفها مثلي، هي أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت"؛ وكان كذلك طباخًا ماهرًا، خاصة عمل الملوخية والفاصوليا البيضاء والبامية، وكان يُسهب في وصف طريقته في الطبخ، وكيف يقوم بانتقاء اللحمة ونوعها، ونوعية البهارات التي يستخدمها، وتفاصيل الملح والثوم وغيرها.
غادر محمود درويش عمان وهو غير متأكد من رجوعه سالما إليها، ولهذا أجرى نوعا من تبرئة الذمة المبكرة، فقد أعطى العاملة الفلبينية حسابها المالي مقدمًا، وكذلك حارس العمارة المصري مُخبرًا إياهما بأنه ربما لن يعود.
توفيَّ درويش في الولايات المتحدة يوم السبت التاسع من أغسطس 2008، بعد إجراء عملية قلب مفتوح في المركز الطبي بهيوستن، حيث دخل في غيبوبة أدت إلى وفاته؛ ونعاه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مُعلنًا الحداد ثلاثة أيام في كل الأراضي الفلسطينية؛ وتم نقل جثمانه إلى رام الله بعد وصوله إلى العاصمة الأردنية عمّان، حيث كان هناك العديد من الشخصيات من العالم العربي لتوديعه، ليواري الثرى في 13 أغسطس في مدينة رام الله، ويُشارك في جنازته الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني وشخصيات أخرى في مقدمتهم الرئيس الفلسطيني.
وكأنني قد متُّ قبل الآن
أَعرفُ هذه الرؤيا، وأَعرفُ أَنني
أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ. رُبَّما
ما زلتُ حيًّا في مكانٍ ما، وأَعرفُ
ما أُريدُ
سأصيرُ يومًا ما أُريدُ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.