فى مؤشر واضح على عودة النشاط الائتمانى وانتعاش الثقة فى السوق، شهد القطاع المصرفى المصرى تحولًا لافتًا، فبعد فترة واجهت فيها البنوك تحديات كبيرة جراء ارتفاع أسعار الفائدة، التى ضغطت على قدراتها التشغيلية بتوظيف ودائعها فى ضخ وإتاحة احتياجات التمويل للشركات والأفراد ودَفعت العديد منها إلى تأجيل خطط الاقتراض، تمكن القطاع من قلب المعادلة، ليسجّل معدل توظيف الودائع قفزة ملحوظة، متجاوزًا 63٪ بنهاية فبراير الماضى.. هذا التحول الملحوظ لم يأت من فراغ، يشير مصرفيون وخبراء اقتصاديون إلى عوامل رئيسية ساهمت فيه، أبرزها تراجع الضغوط التضخمية التى خففت الأعباء عن السوق، وتحرير سعر الصرف الذى أعاد التوازن والثقة للاقتصاد، كما لعبت الزيادة الملحوظة فى الاستثمارات المحلية والأجنبية، وتوسع المشروعات فى مختلف القطاعات، دورًا حيويًا بالإضافة إلى تعافى النشاط الاقتصادى العام الذى شهد دفعة قوية عقب توحيد سعر الصرف. ومع بداية عام 2025، ومع اتجاه البنك المركزى المصرى نحو تخفيض أسعار الفائدة ضمن دورة التيسير النقدى، شهدت محافظ القروض فى البنوك انتعاشة أكبر، لينبئ بمستقبل واعد لمعدلات توظيف القروض للودائع خلال العام الحالى. ففى نهاية فبراير الماضى، ارتفع إجمالى القروض إلى الودائع بالقطاع المصرفى المصرى إلى 63.1٪، بينما قفزت محفظة قروض البنوك بشكل هائل لتصل إلى 8.7 تريليون جنيه، بزيادة بلغت نحو 3.1 تريليون فى الفترة نفسها من عام 2024. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات؛ إنها تعكس مرونة القطاع المصرفى المصرى وقدرته الفائقة على التكيف مع المتغيرات الاقتصادية، فتقف البنوك المصرية كمحرك رئيسى للنمو الاقتصادى، مستعدة لضخ التمويل اللازم لدفع عجلة الإنتاج والاستثمار، ما يبشر بمرحلة جديدة من الازدهار والتعافى الاقتصادى فى البلاد. فى هذا الصدد قال ماجد فهمى، الخبير المصرفى ورئيس بنك التنمية الصناعية الأسبق، إن سعر الفائدة، كان أحد العوائق الرئيسية، أمام مؤشر القروض للودائع فى الفترة الماضية. وأوضح أن ارتفاع تكلفة الاقتراض كان يدفع المقترضين للتردد فى طلب التمويل، ومن ثم تباطؤ الطلب على القروض والائتمان البنكى خلال 2024، ورغم ذلك حقق نمواً أيضاً، مضيفاً أن هناك آمالًا كبيرة مع تخفيض الفائدة بأن يصل مؤشر القروض للودائع إلى النسبة المثالية التى يرى أنها تبلغ 65٪ خلال العام الجارى. وأكد أن سعر الفائدة يُعد أحد العوامل الرئيسية لإنعاش هذا المؤشر، مشيرًا إلى وجود تحسن كبير ونمو وتطور ملحوظ فى الأفق. ولفت فهمى إلى أن ارتفاع تكلفة الإقراض يحد بالفعل من شهية المستثمرين لطلب التمويل البنكى، مضيفا أن الفائدة المرتفعة غالبًا ما تكون إجراءً مؤقتًا يهدف إلى محاربة التضخم. وأوضح أن استمرار التخفيض لأسعار الفائدة، بالإضافة إلى زيادة الاستثمارات والتسهيلات المقدمة من جانب الدولة للمستثمرين، ستكون عوامل داعمة لرؤية المزيد من الزيادات فى حجم الإقراض خلال الفترة المقبلة، مشيرا إلى أن الإجراءات المتخذة من قبل الحكومة ستسهم بشكل فعال فى تحسين مناخ الأعمال بمصر. وأكد فهمى أن هذا التحسن سيدعم ظهور مشروعات جديدة وكبيرة، والتى ستترتب عليها بالضرورة زيادة فى الاقتراض من قبل الشركات العاملة فى السوق المحلية، ما يعزز بدوره مؤشر القروض للودائع. من جانبه، قال الدكتور محمد ربيع، الخبير المصرفى، إن أحد الدوافع الرئيسية وراء هذا الصعود يكمن فى تزايد الإقراض بالعملة الأجنبية، مضيفاً أن البنوك المصرية نشطت مؤخرًا فى تقديم قروض بالدولار الأمريكى لعملاء يتمتعون بإيرادات دولارية، وعلى رأسهم الشركات المُصدّرة وشركات البترول. وأوضح أن هذه القروض تتميز بكونها أقل تأثيرًا لتقلبات أسعار الفائدة المحلية على الجنيه المصرى، ما يوفر استقرارًا أكبر فى تكلفة التمويل للعملاء، ويمنح البنوك محفظة قروض أكثر تنوعًا. وأضاف ربيع أن القروض العقارية ومبادرات الدولة لعبت دورًا محوريًا فى دعم معدل التوظيف على رأسها قطاعات حيوية مثل الإسكان والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، إذ استمرت فى الاستفادة بشكل كبير من التسهيلات الائتمانية المقدمة ضمن المبادرات الحكومية ذات العائد المدعوم. وأكد أن هذه المبادرات لم تقتصر فائدتها على دعم هذه القطاعات الاقتصادية الحيوية، بل ساهمت أيضًا بشكل مباشر فى تنشيط حركة الإقراض ودفعت مؤشر تشغيل القروض للودائع نحو هذه المستويات اللافتة. توقع الدكتور محمد ربيع أن يواصل معدل التوظيف ارتفاعه التدريجى، ليصل إلى مستويات تتراوح بين 65٪ و68٪ بنهاية العام الجارى. واستند فى هذا التوقع المتفائل إلى عاملين رئيسيين، أولهما انخفاض أسعار الفائدة، فمن المرجح أن يدفع تراجع العائد الشركات المتوسطة والكبيرة إلى استئناف خطط الاقتراض التى كانت قد أجلتها. ورأى أن هذا الانخفاض فى تكلفة التمويل يجعل الحصول على القروض أكثر جاذبية، ما يشجع الشركات على تمويل التوسعات والمشروعات الجديدة المعلقة، وبالتالى يعزز الطلب الكلى على القروض ويسهم فى استمرار ارتفاع مؤشر التوظيف. والعامل الثاني يتمثل فى تحسن البيئة الاقتصادية، فغالبًا ما يصاحب دورة التيسير النقدى استقرار نسبى فى مؤشرات الاقتصاد الكلى، مثل التضخم وسعر الصرف. وأوضح ربيع أن هذا الاستقرار بدوره يغرس الثقة فى البنوك عند تقييم الجدارة الائتمانية للعملاء، ويزيد من جاذبية التمويل فى ظل أوضاع سوق أكثر استقرارًا ووضوحًا، مؤكدًا أن هذا المناخ الاقتصادى ينعكس إيجابًا على حجم الإقراض، ما يدعم توقعات استمرار ارتفاع المؤشر. من جانبه، قال الخبير الاقتصادى بلال شعيب، إن مؤشر توظيف القروض إلى الودائع شهد ارتفاعًا ملحوظًا خلال العام الماضى، رغم زيادة أسعار الفائدة، مشيرًا إلى أن هذا الارتفاع يعود إلى أسباب رئيسية، أولها تأثير التضخم على سلوك الاقتراض، إذ أدى ارتفاع أسعار السلع والخدمات إلى زيادة الأعباء على الشركات، التى وجدت نفسها مضطرة للاقتراض من البنوك لسد الفجوات التمويلية. وتابع: "زاد معدل الاقتراض لدى الشركات لتلبية احتياجات الإنتاج فى قطاعات متعددة، سواء الصناعية أو السياحية أو غيرها». كما أشار إلى أن الأفراد أيضًا تأثروا بعبء الدين، فبدلًا من اقتراض مبالغ محدودة، أصبح البعض يحصل على قروض أكبر بكثير، كأن ينتقل من اقتراض 100 ألف جنيه إلى 500 ألف. وأضاف شعيب أن من ضمن الأسباب التى ساعدت على نمو مؤشر توظيف القروض للودائع، اضطرار الحكومة إلى توسيع الإنفاق على برامج الدعم، مثل «تكافل وكرامة»، ودعم السلع التموينية والمحروقات، لمواجهة تداعيات التضخم ومواجهة التحديات الجيوسياسية والحروب التجارية العالمية، مشيراً إلى أن هذه الاحتياجات دفعت الدولة إلى الاقتراض المحلى لسد العجز فى الموازنة. وأوضح أن رفع أسعار الفائدة على الأوعية الادخارية شجّع شريحة من المدخرين الصغار على إيداع أموالهم فى الجهاز المصرفى، خاصة فى ظل وجود شهادات بعوائد وصلت إلى 27٪ و30٪ خلال العام الماضى، ومع تزايد الأسعار، لجأ هؤلاء المدخرون إلى الاقتراض بضمان أوعيتهم الادخارية لتلبية احتياجاتهم، ما ساهم فى ارتفاع حجم القروض الممنوحة بهذا الشكل. وذكر أن مبادرات البنك المركزى لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، بالإضافة إلى مبادرات تمويل القطاعين الصناعى والسياحى بأسعار فائدة مدعومة، لعبت دورًا مهمًا فى تحفيز المستثمرين والمنتجين على التوسع فى الاقتراض، لافتا إلى أن هذه المبادرات كانت فرصة كبيرة جذبت العديد من المستثمرين للاقتراض من الجهاز المصرفى. وفيما يتعلق بالتوقعات المستقبلية، أوضح شعيب أن بدء دورة التيسير النقدى لن يؤدى إلى قفزات كبيرة فى المؤشر، إذ إن الجزء الأكبر من الزيادة قد تحقق بالفعل، ومع ذلك توقع أن يستمر معدل توظيف القروض فى الارتفاع تدريجيًا، ليصل إلى نحو 67٪ خلال العام المقبل، رغم حالة التشبّع التى تشهدها السوق حاليًا، مشيراً إلى أن المعدلات العالمية تتراوح بين 80٪ و85٪. وأعرب شعيب عن تفاؤله بإمكانية تجاوز نسبة 67٪ فى توظيف القروض، مشددًا على أن استقرار سعر الصرف، واستمرار الحكومة فى تنفيذ الإصلاحات، إلى جانب تحسن الأوضاع الإقليمية، كل ذلك يمكن أن يشكل دفعة قوية، خاصة إذا تركزت الجهود على دعم القطاع الصناعى وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.