ما وراء الحرص الأمريكي علي الوئام مع الثورة المصرية لا يختلف اثنان - ايا كان التوجه السياسي والايديولوجي لكل منهما - علي ان العلاقات المصرية الأمريكية ظلت طوال عهد السادات - مبارك، اي لنحو اربعين عاما متواصلة، علاقات تعاون ووئام خالية من الخلافات الجادة والمؤثرة. مع ذلك لا يبدو ان هذه الصورة للعلاقات الأمريكية - المصرية قد تغيرت او اصابها اي ضرر منذ ان اطاحت ثورة 25 يناير بالنظام الذي حكم مصر خلال الاعوام الثلاثين الماضية وحرص علي ان يكون حليفا وصديقا للولايات المتحدة في كل الظروف وتحت وطأة كل السياسات الأمريكية في المنطقة. لقد غيرت الادارة الأمريكية موقفها من الثورة من موقف تأييد ودعم لنظام مبارك ووصفته بانه نظام مستقر ويسيطر علي الاوضاع في مصر الي موقف تأييد للثورة ودعوة لمبارك لقبول الامر الواقع الذي اوجدته الثورة وبالتالي التنحي استجابة لمطالبها الي حد ان مبارك في الايام الاخيرة التي سبقت تنحي مبارك دعوته الي التنحي الان وفورا. وتنحي مبارك تحت ضغط ملايين الثورة وتحت ضغط انحياز القوات المسلحة الي جانب الثورة ورفض طلب مبارك الصريح بان تطلق هذه القوات نيرانها علي جماهير الثورة لصالح استمراره في الحكم. من وقتها والولاياتالمتحدة تبدي حرصا شديدا علي ان تبدو علاقتها بمصر الثورة علاقات مودة ووئام وتعاون. اي ان هذه العلاقات لم يغيرها في شيء انطلاق هذه الثورة ...حتي ليبدو كأن واشنطن ترحب بكل اهداف الثورة المصرية ما تحقق منها - وهو لايتجاوز كثيرا اسقاط مبارك - وما لم يتحقق وما لا يزال موضوع خلاف وتوتر بين الثورة وقواها المنظمة وغير المنظمة والقوات المسلحة التي حملت منذ البداية مسئولية حماية الثورة. ربما بسبب هذا الموقف الأمريكي "الايجابي" يبدو وكأن قضية العلاقات المصرية - الأمريكية لم تطرح من قبل جماهير الثورة طوال فترة عملها الدؤوب في الميادين المصرية بطول البلاد وعرضها. الامر الذي انعكس في جملة من الزيارات التي قام بها قادة عسكرين ودبلوماسيون أمريكيون لمصر طوال الاشهر الماضية منذ بداية الثورة. وما اقل ما اذيع رسميا او بطريقة غير رسمية عن هذه الزيارات التي شملت القائد الأمريكي للقيادة المركزية - التي تشمل جغرافيا واستراتيجيا هذه البلاد ومحيطها - كما شملت مستشار الامن القومي للرئيس الأمريكي وشملت وزير الدفاع الأمريكي. والامر الذي لا شك فيه ان الادارة الأمريكية تبذل اقصي ما بوسعها لابقاء العلاقات الأمريكية - المصرية علي الحالة نفسها التي كانت سائدة طوال سنوات نظام مبارك سواء من حيث التعاون السياسي اوالاقتصادي او العسكري. ولعل التغيير الملموس الوحيد الذي وقع منذ بداية الثورة حتي الان بالنسبة لهذه العلاقات هو تأجيل مناورات النجم الساطع المشتركة التي بدات في سنواتها الاولي ثنائية تقتصر علي مصر والولاياتالمتحدة قبل ان يتم توسيعها لتشمل دول حلف شمال الاطلنطي ولتشمل بعض دول الخليج مثل قطر والامارات العربية المتحدة وكذلك الاردن. وحتي هذا التأجيل بدا انه يتم في جو من التفاهم خال من التوتر او الخلاف. وفيما عدا ذلك ان العلاقات الأمريكية - المصرية تبدو ثابتة لم يعترها اي تغيير بعد الثورة عما قبلها. ولا بد من التسليم بان الولاياتالمتحدة ارتاحت كثيرا الي بيان المجلس الاعلي للقوات المسلحة الذي اوضح ان مصر ملتزمة بما تعاهدت علي الالتزام به من معاهدات واتفاقات. وهو بيان اعتبرت المصادر الرسمية الأمريكية والاسرائيلية انه يقصد علي وجه التحديد معاهدة "كامب ديفيد" والاتفاقات التي وقعت قبلها بشهور في الولاياتالمتحدة وتحت رعايتها. كما يبدو ان الادارة الأمريكية ارتاحت ايضا الي نتائج المحادثات التي اجراها قادة ومسئولون أمريكيون في مصر في الشهور الماضية منذ الثورة. وقد اوفد المجلس الاعلي للقوات المسلحة الي أمريكا بعضا من اعضائه الي الولاياتالمتحدة خلال هذه الشهور ودلت التصريحات القليلة التي ادلوا بها في واشنطن - وليس في القاهرة - علي استمرار اوجه التعاون العسكري بين البلدين. وبدا من هذه التصريحات ان القاهرة مطمئنة الي ان الولاياتالمتحدة لن تقدم علي تقليص المساعدات العسكرية التي تحصل عليها مصر منذ توقيع معاهدة "كامب ديفيد" في عام 1979. وهو مطلب لا تشجعه اسرائيل انما يؤيده اعضاء الكونجرس الأمريكي الجمهوريين اي المعارضين لسياسات الرئيس باراك اوباما. وبوجه عام تمضي الامور بين الولاياتالمتحدة ومصر علي نحو يبين ان اسس التحالف الاستراتيجي بين البلدين قائمة وثابتة لم يغيرها في قليل او كثير ما تردد في ايام الثورة قبل وبعد الاطاحة بمبارك من ضرورة استعادة مصر دورها القومي والاقليمي الذي تكاد ان تكون قد انسحبت منه لصالح التعاون مع الولاياتالمتحدة وحلف الاطلنطي حتي في احلك واخطر الظروف التي مرت علي المنطقة العربية ابتداء من الغزو العراقي للكويت وبعد ذلك مشاركة مصر في حرب اخراج الاحتلال العراقي من الكويت التي قادتها الولاياتالمتحدة وقامت فيها بالدور العسكري الرئيسي، وما تلا ذلك من الغزو الأمريكي للعراق واحداثه الجسيمة. ومما لا شك فيه ان تفكك الاتحاد السوفييتي في البدايات الاولي لتسعينات القرن العشرين قد رافقه في الشرق الاوسط مزيد من الاقتراب من الولاياتالمتحدة شمل مصر - مبارك وشمل دول الخليج العربية ودول المغرب العربي بما فيها ليبيا القذافي التي تنازلت عن مشروعها النووي ومواده ومنشاته للولايات المتحدة وكان واضحا ان مصر لعبت دورا انذاك في اقناع القذافي بالتقرب من الولاياتالمتحدة والاطمئنان اليها. وكان التصور المنطقي لتطورات ذلك الوقت يشير الي ان اسرائيل فقدت من رصيد دورها هذا الجانب المتعلق بمنع القوات السوفييتية من احتلال منابع النفط (وفق خطة تحدث عنها وفرضها وزير الخارجية الأمريكي الاسبق هنري كيسنجر) باعتبار ان دور القوات الاسرائيلية سيكون وقف تقدم السوفييت نحو هذا الهدف الي ان تكون القوات الأمريكية قد وصلت الي المنطقة. مع ذلك فان شيئا من هذا لم يحدث وبقيت اسرائيل قاعدة الوجود الغربي العسكري في المنطقة العربية حتي بعد زوال الخطر السوفييتي. ومع ذلك فقد استمرت مصر- مبارك في التراجع عن دورها القومي والاقليمي فيما نما دور اسرائيل الاقليمي علي نحو لم يسبق له مثيل. وحتي في ظل احداث ثورة 25 يناير المصرية فان اسرائيل والولاياتالمتحدة مارستا اقصي ضغوطهما علي الحليف المصري عندما وقعت احداث السفارة الاسرائيلية نتيجة للسلوك العدواني العدائي الذي سلكته اسرائيل في سيناء ضد القوة الامنية المصرية عندما تعرضت القوات الاسرائيلية لهجمة من جانب حماس .. زعمت اسرائيل انها انطلقت من الاراضي المصرية في سيناء. وبذلت جهود قصوي أمريكية - اسرائيلية - مصرية لمحاصرة تاثيرات هذه الاحداث لمصلحة استمرار التعاون الثلاثي وبصرف النظر عن المشاعر الوطنية المصرية التي ظهرت في الاحتجاجات علي استمرار وجود السفارة الاسرائيلية واركانها في القاهرة. والامر الذي لا شك فيه ان انعكاسات استمرار نمط العلاقات بين مصر والولاياتالمتحدة، اتضحت في استمرار علاقات "سوية وطبيعية" بين مصر واسرائيل، علي ما كان عليه في عهد النظام الذي اطاحت الثورة المصرية برئيسه. يبقي من الصعب تبرير او شرح الاسباب الموضوعية التي حالت طوال الشهور الماضية منذ بداية الثورة دون تحول العلاقات المصرية - الأمريكية الي قضية عامة او حتي الي قضية راي عام. لقد وقعت تطورات سلبية عديدة في هذه الشهور، علي الرغم من استمرار ايمان الشعب المصري العميق بالدور الايجابي والمهم الذي تؤديه القوات المسلحة المصرية وقيادتها - ممثلة في المجلس الاعلي للقوات المسلحة - في حماية الثورة، وادت هذه التطورات الي حالة من التوتر او علي الاقل الالتباس والاختلاف والخلاف بين القوي السياسية المتباينة علي الساحة السياسية المصرية تتعلق بالانتخابات وتتعلق بما لم يتم انجازه من اهداف الثورة خاصة الاهداف الاجتماعية والاهداف الخارجية. ومع ذلك فان العلاقات الأمريكية المصرية تبقي بعيدة عن المناقشة حتي عندما تبدو هناك تهديدات من الجانب الأمريكي تشكل بدايات تدخل علي الاقل في شئون الثورة المصرية وما ترمي اليه. فلماذا تبدو العلاقات مع أمريكا ارسخ من كل ما عداها من مكونات العلاقات بين اطراف الواقع المصري الراهن؟