جرت مياه كثيرة في نهر العلاقات المصرية-الأمريكية بعد ستة أشهر من الشرارة الأولي لثورة25 يناير التي أطاحت بنظام الحكم السابق ودشنت بدايات عهد جديد للتحول الديمقراطي وعصر جديد للسياسة الخارجية المصرية. وفي ظل تعقيدات. العلاقات الثنائية بين القاهرةوواشنطن نقدم ملفا خاصا يعالج قضيتين رئيسيتين الأولي خاصة برؤية الولاياتالمتحدة لمحاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك وكيف تجاوزت الإدارة الأمريكية أمر المحاكمة لإستعادة الثقة مع الحليف الاقليمي الأهم في العالم العربي وفي القضية الثانية التي ستنشر غدا نتناول مسألة العلاقات المتداخلة بين الإدارة الأمريكية الممثلة في وزارة الخارجية والكونجرس وكيف تؤثر السياسات الداخلية علي مسألة المساعدات العسكرية والاقتصادية لمصر. محاكمة مبارك في الميزان الأمريكي لم تكتف الثورة المصرية بإرباك الدوائر الأمريكية الرسمية عندما أطاحت بالحليف الأكثر قربا للولايات المتحدة في الأعوام الثلاثين الماضية ولكنها واصلت رسم علامات الإستفهام والتعجب علي وجوه المسئولين بعد القبض علي رموز النظام السابق وعلي رأسه الرئيس المخلوع وابناه وتقديمهم للمحاكمة دون إراقة نقطة دم واحدة علي خلاف ما حدث في ثورات تاريخية كبري في الماضي. وقد تحفظت أطراف في الإدارة الأمريكية علي محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك من اليوم الأول إلا أن التحفظات لم تخرج إلي العلن وظلت حبيسة خلف أبواب الدبلوماسية طوال الأشهر التي أعقبت قرار حبسه علي ذمة التحقيقات في وقائع عدة منها جريمة قتل المتظاهرين في ميدان التحرير في واقعة الجمل الشهيرة- فيما عدا تصريح واحد لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في مطلع يونيو الماضي تطلب فيه إجراء محاكمة عادلة للرئيس المخلوع. اليوم يبدو وقع ووطأة محاكمة حليف أمريكا الأول في السنوات الثلاثين الماضية أقل حدة اليوم من جراء المشكلات العديدة التي تصبغ تحولات المرحلة الإنتقالية وظهور قضايا أكثر إلحاحا من مصير مبارك علي صعيد العلاقات الثنائية بين مصر والولاياتالمتحدة منها قضايا الأمن الإقليمي ومستقبل العلاقة الإستراتيجية بين البلدين وهي سمة طبيعية لسياسات دولة عظمي تسعي لإعادة صياغة الروابط مع دولة إقليمية كبري وهو ما فعلته أمريكا مرارا وتكرارا في السابق حيث لامجال للنظر للوراء كثيرا. كما تشعر دوائر أمريكية بقلق من علانية المحاكمات والحرج المتوقع للسياسة الأمريكية ويقول مسئول أمريكي- رفض الإفصاح عن هويته- في تصريحات' للأهرام' أن' محاكمة مبارك يمكن أن تنحي طريقا لا تريده الولاياتالمتحدة في علاقتها بدولة محورية في المنطقة خاصة في ظل الغضب والفورة الشعبية الحالية وهو أن تصبح محاكمة للسياسة الأمريكية أيضا بعد أن إرتبط الرئيس السابق وأركان حكمه بعلاقة استراتيجية وثيقة معنا'. ويضيف المسئول الأمريكي' في مثل تلك الحالات يصعب السيطرة علي مسار الأحداث ويصبح الرأي العام عنصرا ضاغطا علي أعصاب الحكومة التي تدير شئون البلاد ويمكن أن تقع أخطاء'. ويلقي المنتقدون للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط باللوم علي إقامة الولاياتالمتحدة لعلاقة إستراتيجية مع الدولة المحورية الأولي في المنطقة لعقود طويلة إعتمادا علي وجود نخبة موالية' فاسدة' في السلطة دون إقامة وزن للرأي العام وموقفه من النخبة السابقة التي يري الشعب المصري اليوم أن المساعدات الأمريكية قد صبت في صالح بقائها في السلطة لمدة ثلاثة عقود كاملة دون انفتاح سياسي حقيقي. في مقابل تصريح المسئول الأمريكي أكد مسئول مصري رفيع المستوي في واشنطن أخيرا' أن المبدأ الذي يحكم فترة الحكم الإنتقالي في مصر اليوم هو أن كل المواطنين سواسية أمام القانون ومن ارتكب أخطاء أو جرائم بغض النظر عن موقعه عليه أن يتحمل نتيجة الأخطاء ولا يوجد فرق بين رئيس سابق أو أي مواطن عادي في هذا الخصوص'. وتشير المعلومات إلي أن الرسالة المصرية السابقة قد عرفت طريقها إلي كل الدوائر الرسمية والمراكز المؤثرة في صناعة القرار السياسي الأمريكي بالتأكيد علي أن القضاء المصري هو المنوط به القضية وليس للإدارة الإنتقالية لشئون البلاد دخل في مسارها وبالتالي التخوفات المطروحة عن إنحراف مسار تحقيق العدالة في محاكمات أركان النظام السابق غير حقيقية وتخدم الداعين إلي وقف مسار العدالة وإعلاء سلطة' حكم القانون' في البلاد. كما تواكب مع الرسالة السابقة رسالة أخري تقول' أن مصر في تحولها نحو الديمقراطية لن تكون في قبضة فرد واحد بعد اليوم وعلي الولاياتالمتحدة وغيرها أن تعتاد التعامل من الأن وصاعدا مع مؤسسات وليس مع أفراد وإعمال القانون هو السبيل لبناء مؤسسات جديدة للحكم'. يقول روبرت دانين من وحدة الشرق الأوسط وأفريقيا بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي أن المحاكمات الجارية تحمل أهمية كبيرة لانها تبعث برسالة قوية عن ضرورة إعمال مبدأ' المحاسبة' للمسئولين في موقع السلطة ولكن من أجل أن تصبح تلك المحاكمات مؤثرة وتقدم رسالة واضحة لابد أن تكون' عادلة' تماما وليست مغلفة بطابع عقابي. ويضيف' أفضل شئ يمكن أن يفعله المصريون هو ألا يتعجلوا المحاكمات وألا تبدو محاكمات انتقامية. وسيكون أداء القضاء المصري تحت المنظار أيضا- إلي جانب رجال النظام القديم'. وكانت الولاياتالمتحدة قد تعاملت بدبلوماسية واضحة مع المحاكمة' الغيابية' للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي حيث قالت الخارجية الأمريكية أن الأمر متروك للشعب التونسي للحكم علي مدي عدالة وشفافية المحاكمات ضد رموز النظام السابق. من زاوية أخري يري ستيفن كوك خبير الشئون المصرية في مجلس العلاقات الخارجية ان توقيت' محاكمة حسني مبارك يمكن أن يدفع مصر إلي مزيد من عدم الإستقرار لو تحالفت القوي المضادة للثورة من جديد من أجل تعطيل سير العدالة'. ينتظر أن تحظي محاكمة مبارك وأركان نظامه من محاسيب ومسئولين أمنيين ورجال القصر بإهتمام سياسي وإعلامي في الولاياتالمتحدة وهي فرصة ليثبت المصريون للعالم أن ثورتهم قد قامت من أجل اعلاء' حكم القانون' في بلادهم وأن محاكمة الرئيس السابق تمثل سابقة علي طريق الديمقراطية وليست تشفيا أو جورا علي أحد وربما تظهر أصوات تشكك في عدالة المحاكمات في أوساط فقدت صديقا مقربا إلا أن أمريكا سوف تتحرك-كالعادة- من أجل مصالحها الوطنية ولن تقف عند حادثة واحدة في مسيرة العلاقات الثنائية المتعددة الجوانب بمنطق نفعي' براجماتي' محض!