علمتني خبرة تجاوزت في الزمن الخمسين عاما وأكثر ان الصحافة المصرية تعتمد الي حد كبير علي المصادر الأمريكية بنسبة تفوق كثيرا اعتمادها علي أي مصادر اخري. ويشمل ذلك المصادر الاخري المتاحة الانجليزية والفرنسية والالمانية، علي الرغم من ان بعض هذه المصادر يتيح وكالاته الاخبارية او نشراته الاخري مترجمة باللغة العربية علي افضل وجه ممكن.ولا يقتصر الامر علي المصادر الأمريكية وحدها – مثل وكالات الانباء والنشرات الاذاعية والمصادر التليفزيونية وغيرها. انما يمتد اعتماد الصحافة المصرية – بكل اشكالها المقروءة والمسموعة والمرئية – علي المصادر الأمريكية. ان علاقة الصحفيين المصريين بالمؤسسات الصحفية الأمريكية، وخاصة الرسمي منها تتجاوز بمسافة بعيدة علاقتهم مع المؤسسات الصحفية الاوروبية والاسيوية (الصين واليابان).معظم الصحفيين المصريين الذين تتاح لهم فرصة السفر الي الخارج لتلقي التدريب العملي او الالمام النظري يتوجهون الي الولاياتالمتحدة اكثر من غيرها. وهناك تعرف المؤسسات الاكاديمية والصحفية كيف تترك فيهم اعمق الاثر بشان هذه المهنة البالغة الاهمية ، بل المتزايدة الاهمية في عالم اليوم. علم ومهنة مع ذلك فان الغالبية من الصحفيين المصريين لا يبدون واقعين تحت تأثير المهنة بتقاليدها الأمريكية سواء من النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية. ان روح الاستقلال عن المؤثرات المهنية الأمريكية تبدو واضحة علي من يمارسون هذه المهنة من المصريين سواء كمراسلين صحفيين او ككتّاب او فنيين في عالم الصحافة المؤثر، وحتي بعد ان اصبحت النسبة الغالبة من الاصدارات الصحفية في مصر تنتمي للقطاع الخاص وليس للصحافة الرسمية (الحكومية) او صحافة القطاع العام كما يطلق عليها احيانا. وهذه سمة مميزة للصحفيين المصريين علي اختلاف تخصصاتهم المهنية وتوجهاتهم الفكرية. وربما نستطيع ان نعزو هذا التميز للصحفيين المصريين الذي يجعلهم يبدون اقل تأثرا بتعاليم المهنة من جوانبها الأمريكية الي الخصائص المميزة للمثقف المصري الذي يمكنه – وقد امكنه علي مر السنوات الستين الماضية علي الاقل – ان يحتفظ باستقلالية فكرية وثقافية عن المؤثرات الخارجية بحكم قوة تأثير الواقع السياسي والاجتماعي المصري عليه بدرجة تفوق كثيرا المؤثرات الخارجية المؤقتة او الطارئة مثل التدريب المهني المحدود زمنيا في بلد خارجي كالولاياتالمتحدة. ولا يمنعنا هذا من ان نؤكد ما بدأنا به وهو ان التأثير الأمريكي علي ممارسي المهنة الصحفية المصرية هو اقوي من غيره.. وهنا لا يمكننا ان نتغاضي عن حقيقة اساسية تتعلق بالصحافة الأمريكية كعلم وكمهنة، وهي تميزها بقدر واسع من حرية التعبير فكريا وسياسيا وثقافيا بوجه عام. ان احدا من الصحفيين الأمريكيين لن يمارس ضغطا علي صحفي مصري يتلقي تدريبا نظريا او تطبيقيا في عالم الصحافة من أجل ان يهجر توجهه او انتماءه الفكري لصالح الالتزام بوجهة نظر أمريكية. انما يبقي ان هذا التأثير ممكن اذا كان الصحفي المصري المتلقي لا يعتنق فكرا معينا يساريا كان او يمينيا . ان صحفيا مصريا، اذا كان يعتنق علي سبيل المثال، الفلسفة الماركسية وتطبيقاتها الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي تطبيقاتها الصحفية سيبقي غالبا في هذا الاتجاه اليساري بعد ان يعود من بعثة دراسية او تدريبية في الولاياتالمتحدة، حتي وان اكتسب معرفة اكثر موضوعية بالصحافة الأمريكية او بالثقافة الأمريكية بوجه عام. وهذا بالطبع فضلا عن اهتمامات الصحافي المصري بقضايا مصر وشعبها ومكوناتها الاجتماعية والطبقية التي تجعلها محل اهتمامه ونضاله من أجل خلق واقع افضل او بالاحري العمل من أجل واقع افضل وأكثر عدالة. اقول هذا وانا اواجه بما هو أشد تأثيرا من الدهشة واقوي من مجرد رد الفعل المعارض تجاهل الصحافة المصرية المطبوعة والمرئية والمسموعة بصورة تكاد تكون تامة انباء تتعلق بهجمة واسعة النطاق من جانب الحكومة الأمريكية – ممثلة في ادارة الرئيس باراك اوباما – علي الصحافة الأمريكية والصحفيين الأمريكيين. وهي هجمة لم تعف من تأثيراتها حتي الصحافة التقليدية التي يقوم بينها وبين الادارات الأمريكية المتعاقبة قدر معروف ومشهود من التعاون اما بنشر او حجب ما تريده هذه الادارة او تلك، ومنها علي سبيل المثال صحيفة "نيويورك تايمز" الذائعة الصيت وذات التوزيع المرتفع داخل الولاياتالمتحدة وخارجها وذات التأثير القوي علي الصحافة الخارجية في معظم دول العالم. لقد وصفت الصحافة الأمريكية نفسها هذه الهجمة من جانب ادارة اوباما علي واحد من أهم مصادر الاخبار العالمية في أمريكا – وهي وكالة "اسوشيتدبرس" – بانها "من أواخر الهجمات علي قلب الحقوق الديمقراطية في الولاياتالمتحدة". (ذي سوشياليست ويب سايت في 17 مايو الحالي) والمقصود هنا هو وضع الادارة الأمريكية وكالة الانباء الأمريكية الاشهر عالميا تحت قبضة سرية محكمة من الادارة شملت المراسلين الصحفيين لهذه الوكالة. وفي هذا السياق نفسه اعترفت وزارة العدل الأمريكية قبل اسبوعين بانها حصلت علي اذن في شهر فبراير الماضي يتطلب من الشركات العاملة في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية بان تسلمها تسجيلات شهرين كاملين من تسجيلات التليفونات الخاصة بوكالة "اسوشييتدبرس". وتتعلق هذه التسجيلات بتحقيق تجريه وزارة العدل في شبهة تسرب من معلومات سرية عن واقعة حدثت في العام الماضي. والمعتقد ان اجراءات وزارة العدل الأمريكية في هذا الصدد شملت مؤسسات اعلامية أخري غير هذه الوكالة الاخبارية. ولكن وزارة العدل رفضت ان تبوح باسماء المؤسسات التي اخضعت لهذا الاجراء . وبالتالي اصبح علي كل فرد يتحدث الي اي من الاجهزة او المؤسسات الاعلامية ان يتوقع ان يكون هاتفه تحت المراقبة والتسجيل الصوتي. في هذا الصدد اعلن الرئيس الأمريكي ما يعني ان حرية الصحافة ليست مطلقة انما ينبغي ان توضع بشكل يتوازن مع مصالح الاجهزة العسكرية والمخابراتية. وفهمت الصحافة الأمريكية من تصريحات اوباما هذه ان حرية الصحافة وكذلك حرية التعبير الأمريكية وغيرها من الحقوق الدستورية يمكن ان تنحي جانبا اذا تطلبت ذلك مصالح الدولة. ويجدر بالذكر هنا – هو ما ذكرته الصحافة الأمريكية بمناسبة تصريحات اوباما ضد حرية الصحافة وحرية التعبير – ان اوباما شغل قبل وصوله الي الرئاسة وقبل ذلك الي عضوية مجلس الشيوخ الأمريكي منصب استاذ القانون الدستوري في جامعة شيكاغو الأمريكية، وكان من اشهر اقواله آنذاك ان حرية الصحافة وحرية التعبير انما تساعدان الديمقراطية الأمريكية علي ان تؤدي وظائفها، ولا يمكن ان تقوم ديمقراطية بدون هذه الحريات. ان الديمقراطية بدون هذه الحريات تصبح فارغة من المعني. وعندما ساله احد الصحفيين في مؤتمر صحفي قبل ايام عن رايه في المقارنة التي عقدتها الصحافة بين ما يفعله بالديمقراطية الأمريكية وما فعلته من قبل ادارة نيكسون في السبعينيات من القرن الماضي، فانه تجنب الرد علي السؤال ووجه كلامه الي الصحفي صاحب السؤال قائلا ان بامكانه ان يستنتج ما يشاء (…). الهجمة علي الحريات تكشف جانب آخر من هذه الهجمة علي الحريات الصحفية الأمريكية حينما اقامت نشرة "ضد الحرب" وهي نشرة الكترونية أمريكية دعوي قضائية امام محكمة اتحادية (22 مايو الحالي) طالبت فيها باذاعة علنية لتسجيلات قامت بها المباحث الجنائية الأمريكية( المعروفة باسم "اف.بي.آي.") ضد مؤسس وصاحب هذه النشرة ايريك جاريس ورئيس تحريرها جوستين رايموندو. وذكرت النشرة ان هذه التسجيلات بدأت علي اثر وقوع احداث 11 سبتمبر عام 2001 وأن الحكومة الأمريكية اصبحت تتعامل مع قوانين الحريات وكانها مجرد"مطبات" اي يمكن تفاديها ولا تشكل خطرا.. وقد شملت تسجيلات وزارة العدل الأمريكية مؤسسات اخري للصحافة الأمريكية مثل فوكس الاخبارية، وهذه مؤسسة معروفة باتجاهاتها اليمينية. وبشكل عام فان هذه الاجراءات ضد الحريات الصحفية وحرية التعبير قوبلت بانتقادات حادة من جانب الصحافة الأمريكية بجميع اتجاهاتها.. لكن الصحافة المصرية آثرت ان تتجاهل هذه التطورات باكملها علي الرغم من الحقيقة التي لا يمكن انكارها وهي ان الصحافة المصرية بكل اتجاهاتها وتنويعاتها تتخذ من المؤسسات الصحفية الأمريكية مصدرا اساسيا لها. هذا اذا لم نقل ان تاثير الصحافة الأمريكية علي صحافتنا المصرية يفوق بمراحل اي تأثيرات أخري من الصحافة الاوروبية او الاسيوية. لقد اطلقت الصحافة الأمريكية علي هذه الهجمة الحكومية عليها وصف "فضيحة التجسس"، ووصفتها ايضا بانها "أزمة للديمقراطية الأمريكية". وهي كذلك بالفعل.