كنائس كفر الشيخ تحتفل بأحد السعف | صور    مذكرة لرئيس الوزراء لوقف «المهازل الدرامية» التي تحاك ضد المُعلمين    حزب الوفد: نرفض أي عدوان إسرائيلي على رفح الفلسطينية    كم حصيلة مبادرة استيراد سيارات المصريين بالخارج؟ وزير المالية يجيب    الرئيس السيسي: أنفقنا مليارات الدولارات لتجهيز بنية أساسية متكاملة    يعتقلون طلابهم ويحاضرون عن حرية التعبير!    عبلة الرويني تكتب : نهار مخيمات الاحتجاج الأمريكي !    30 مليار دولار خسائر أولية في قطاع غزة.. و72% من ضحايا الحرب أطفال ونساء    دعما لفلسطين.. مظاهرات الطلاب تتسع بالجامعات الأمريكية وتصل كندا    انطلاق مباراة المقاولون العرب وسموحة بالدوري    شاهد سامسون يسجل.. الزمالك يضرب دريمز بالهدف الثاني    التشكيل الرسمي للمقاولون العرب وسموحة في مباراة الليلة    النائب هشام حسين يتقدم بسؤال بشأن استعدادات الحماية من حرائق الصيف    في ذكرى ميلاد نور الشريف.. مسيرة فنية حافلة ل«محمد جابر»    وزير الصحة: إشادات عالمية بنجاح مصر في القضاء على فيروس سي    "الرعاية الصحية" تشارك بورشة العمل التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية    «بحوث القوات المسلحة» توقع بروتوكولًا مع «المراكز والمعاهد والهيئات البحثية بالتعليم العالي»    أرخص 40 جنيها عن السوق.. صرف الرنجة على بطاقة التموين بسعر مخفض    أغلى 5 فساتين ارتدتها فنانات على الشاشة.. إطلالة ياسمين عبد العزيز تخطت 125 ألف جنيه    بحضور محافظ مطروح.. قصور الثقافة تختتم ملتقى "أهل مصر" للفتيات    «أبو الهول» شاهد على زواج أثرياء العالم.. 4 حفلات أسطورية في حضن الأهرامات    رئيس وزراء الأردن يحذر: أي عملية عسكرية في رفح الفلسطينية ستؤدي إلى تفاقم معاناة غزة    التشكيل الرسمي ل مباراة نابولي ضد روما في الدوري الإيطالي    وكيل «صحة الشرقية» يتفقد مستوى الخدمات المقدمة للمرضى بمستشفى أبوكبير    تحرير 78 محضرا في حملة للمرافق لضبط شوارع مدينة الأقصر    إنجاز جديد.. الجودو المصري يفرض سيطرته على أفريقيا    حجازي: مشاركة أصحاب الأعمال والصناعة والبنوك أحد أسباب نجاح التعليم الفني    الرئيس العراقي خلال استقباله وزير الري: تحديات المياه تتشابه في مصر والعراق    عاجل| البيت الأبيض: إسرائيل طمأنت واشنطن بأنها لن تدخل رفح الفلسطينية حتى يتسنى لنا طرح رؤانا ومخاوفنا    نشرة في دقيقة | الرئيس السيسي يتوسط صورة تذكارية عقب افتتاحه مركز الحوسبة السحابية الحكومية    طريقتك مضايقاني.. رد صادم من ميار الببلاوي على تصريحات بسمة وهبة    رضا حجازي: زيادة الإقبال على مدارس التعليم الفني بمجاميع أكبر من العام    الإعدام لعامل قتل شابا من ذوي الاحتياجات الخاصة بواسطة كمبروسر هواء    وزير بريطاني يقدر 450 ألف ضحية روسية في صراع أوكرانيا    مستشفيات جامعة بني سويف تستقبل مرضى ومصابي الحرب من الأشقاء الفلسطنيين    مساعد وزير الصحة: انخفاض نسب اكتشاف الحالات المتأخرة بسرطان الكبد إلى 14%    تأجيل محاكمة المتهمين في عملية استبدال أحد أحراز قضية    رئيس هيئة الدواء يبحث سبل التعاون لتوفير برامج تدريبية في بريطانيا    موعد مباريات اليوم الثالث بطولة إفريقيا للكرة الطائرة للسيدات    سفير روسيا بمصر للقاهرة الإخبارية : علاقات موسكو والقاهرة باتت أكثر تميزا فى عهد الرئيس السيسى    «رجال الأعمال المصريين» تدشن شراكة جديدة مع الشركات الهندية في تكنولوجيا المعلومات    التنظيم والإدارة يعلن عن مسابقة لشغل 18886وظيفة معلم مساعد بوزارة التربية والتعليم    الليلة .. سامى مغاورى مع لميس الحديدى للحديث عن آخر أعماله الفنية فى رمضان    الأرصاد الجوية تعلن حالة الطقس المتوقعة اليوم وحتى الجمعة 3 مايو 2024    أعاني التقطيع في الصلاة ولا أعرف كم عليا لأقضيه فما الحكم؟.. اجبرها بهذا الأمر    أفضل أوقات الصلاة على النبي وصيغتها لتفريج الكرب.. 10 مواطن لا تغفل عنها    اعرف مواعيد قطارات الإسكندرية اليوم الأحد 28 أبريل 2024    قرار جديد من القضاء بشأن 11 متهماً في واقعة "طالبة العريش" نيرة صلاح    جدول امتحانات التيرم الثاني 2024 لصفوف النقل والشهادة الإعدادية (القاهرة)    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال؟.. "الإفتاء" تُجيب    ضبط 4.5 طن فسيخ وملوحة مجهولة المصدر بالقليوبية    «فوبيا» تمنع نجيب محفوظ من استلام «نوبل»    خلال افتتاح مؤتمر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة.. نائب رئيس جامعة الأزهر: الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ    غدًا.. تطوير أسطول النقل البحري وصناعة السفن على مائدة لجان الشيوخ    تقييم صلاح أمام وست هام من الصحف الإنجليزية    سعر الدولار الأحد 28 أبريل 2024 في البنوك    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    حسام البدري: أنا أفضل من موسيماني وفايلر.. وكيروش فشل مع مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دموع ملونة …رواية الروائية أميرة بهي الدين
نشر في الأهالي يوم 17 - 07 - 2021


" دموع ملونة"
للروائية أميرة بهي الدين
(8)
مثل أيامٍ كثيرة، يمر زين على نبيل مبكرًا، ويهبطان معًا بفرحة وصخب للمدرسة، كعادتها تبتسم فردوس لنجوى وتدعوها لقهوتها الصباحية، تعتذر نجوى برقةٍ كي لا تزعج عم وصفي، تضحك فردوس وتخبرها أنه نزل قبل الصغيرين وينتظرهما على أول الشارع، وأنها وحدَها مثل كل يوم وتنتظرها. ترتدي نجوى ثوبها القاتم، وتطرق باب أبلة فردوس ليتشاركا معًا بدايات النهار مثل كل الأيام الكثيرة التي عاشاها جيرانًا بعدما قطن الأستاذ وصفي وأسرته الشقة التي تقابل شقتها، تفتح لها فردوس، لا يعجبها لون ثوبها، تلوي شفتيها ساخرة من إصرارها على إفساد حياتها أكثر مما هي خرِبة
– هو يعني بالغامق؟ الحزن في القلب، كاتمه الدنيا على قلبك كده ليه؟ إياكش فاكره ده حيعيد اللي راح ولا يهوّن عليكي غيبته؟!
تهز نجوى رأسها نفيًا، وتستعد للمشاجرة الصباحية التي اعتادت عليها من أبلة فردوس التي لا تَقبل منها الاستسلام للحزن الجارف والسكون فيه وإليه
– انتي محتاجه حيلك تشدّيه؛ علشان اليتيم اللي في ايديكي
تحدّق فردوس في نجوى، وتعرف أنها تغرز الإبر المسنونة في عمق الجرح الدفين –
– والحزن مش بالاسود ولا الفرح بالألوان ياما قلت لك
تهمس نجوي بأسى
– قُلتي يا أبله
تشير لها لتجلس بجوارها على الكنبة الاستنمبولي التي اشترتها من سوق الجمعة شوقًا لكنبتها الكبيرة في التراسينة البحرية في الأيام الجميلة التي كانت ورحلت عنها، مثلما رحلت هي عن مدينتها وكنبتها والتراسينة.
– اقعدي وريّحي كده، وفكّي الزمته اللي انت زامته نفسك فيها دي، بصّي يا بنتي، اللي انتي عايشاه ده مش عايشاه لوحدك، انا شفت صبايا زيّك ياما، قمرات ضنت الدنيا عليهم بالرحمه وعذّبتهم بالحمول، شباب وزينة الرجال ياما استشهدوا، كل واحد رصاصته مكتوب عليها اسمه، موته متقدّر في ميعاد لا يقدر ولايأخر، وكلنا يا بنتي مالناش في نفسنا حاجه.
تجلس فردوس على الكنبة، وأمامها نجوى، تحمص البُن في المحمصة الصغيرة التي حملتها معها من منزلها وقت الهجرة، طقسها النهاري الذي لا تغيّره، تحمّص البُن طازجًا وعلى "السبرتاية" النحاسية العتيقة تصنع فنجان القهوة الطازج الذي تبدأ بعده يومَها. رائحة البُن تغمر الصالة الصغيرة فيستفيق النهار في ساعته المبكرة، الأولاد نزلوا المدرسة، ووصفي خرج للمقهى القريب يحتسي شايَه ودخانه، ويقرأ صحف النهار بحثًا عن انتصارٍ قريب يعيده لشارعه وتراسينة منزلِه والبلَنصات والشبار الطازج في المراكب الهالّة من البحر بعد ليلٍ طويل. يقرأ الصحف كلمةً كلمة، وسطرًا سطرًا، ولا يعجبه كل ما يُكتب، لا يعجبه اليأس الذي تنشره الصحف في قلوب المصريين، تهزمهم قبل الحرب، تزرع اليأس قبل الانتصار، يقرر أن يعود زيارة لبيتِه، هناك سيشم رائحة القناة وعبق المدينة، ويعرف متى ستعمر بارودتها وتحارب وتنتصر، وحتى يصاحبه زين ويسافرا لبورسعيد يقتل الوقت على المقهى، ويحدق في البشر الذي تغيّر حالهم، يهرولون في الشارع غاضبين وكأنهم أسرى لا يملكون فكاكًا من أحوالهم الكئيبة وهم يقتاتون الهزيمة التي لا يبشّرهم أحد بقرب نهايتها.
رائحة البُن تغمر الصالة، وتلفّ فردوسَ ونجوى بهالات من الحيوية، فردوس تجهز الفناجين والسبرتاية والماء البارد المعطر بالمزهر، وتعدّها لتقرأ لها الفنجان بعدما تفرغ من احتساء قهوتها، تضحك نجوى
– حتشوفي لي البخت؟ ما هو باين يا أبله
تلكمها فردوس في صدرها معاتبة
– بختك جميل وزي الفل، ربنا يخلي نبيل وتفرحي بيه، والبَركه فيه يا حبيبتي، واللي بيخلّف ما بيموتش.
تنكأ أبلة فردوس الجرح، تنكأ كل الجراح وتعبث فيها، تُخرِج قيحها وسمّها، وتنظّفها بالوجع وسِن الإبرة المشتعل على النار
– اللي يتأسّى على روحه يتكسر ما يقومش، واللي يتكسر يتنسي ومالوش عازه، والبلد عايزه اللي يشد حيلها
تهز نجوى رأسها توافقها
– الحرب كده، اسأليني انا
تهمس فردوس
– شفناها بكل طريقه، في سته وخمسين شفناها لما السما مطّرت فوق رووسنا بالانجليز والفرنساويه، شفناهم نازلين من السما زي اسراب الجراد، على أسطح البيوت وفي التراسينات هبطوا علينا، وضربناهم علْقه موت وكسرنا نفسهم وانتصرنا، الحق البلد اتدغدغت، وبيوت ياما اتهدمت، والمدافع ضربت، واللي بيخاف من الموت جِري وراه، وورا خوفه زياده وخطفه، واللي استبيع وجري في وِش الموت خاف منه واتكسر قصاده، نزلنا الخنادق ياما وقضينا فيها ليالي طويله، والقنابل فوق الرووس بتدكّ اللي بتطوله، الناس اضطربت.. اللي مشي وهاجر مشي، واللي قعد واتمسّك بالأرض قاوم وانتصر، عمّك وصفي ياما شال سلاح وخبّى فدائيين وووصّل رسايل، وخرج من بورسعيد ورجع ولا هامّه ولا فرق معاه، كانت أيام صعبه، لكن انتصرنا، تفتكري الأيام دي يا نوجه؟
تهز نجوى رأسها، كانت صغيرة لا تعي كل ما تقوله فردوس، لكنها سمعت عنه من أمّها – الحرب صعبه يا حبيبتي، لكن مالهاش بُد لما ولاد الحرام يجوروا على الحق، والحق كله كوم، وسبعه ستين كوم تاني، أحكيلك عن اللي شفته قبل ما نمشي؟ ولا حكيتلك قبل كده؟
تبتسم نجوى بأدب
– احكي يا أبلة
تلقّم فردوس الكنكة، وتضعها برفق على نار السبرتاية وتهمس خجلَى وكأنها فطنت أنها قصّت على نجوى تلك الحكايات قبل ذلك
– طيّب نعدل راسنا بقى ونشرب قهوتنا ونشوف ورانا ايه، ولما نفضى نبقى نحكي تاني
تناوِلها فنجان القهوة وتحثّها على أن تحتسيه بسرعة
– خلّصي علشان اقلِبه واقرا بختك
ابتسمت نجوى بأسى
– ولا فيه حاجه حتتغيّر
ضحكت..
– ربنا يفرّحك بنبيل ابن عمرك، ويطرح البَركه فيه، هوّ فيه بخت احسن من كده! وصمتت فردوس بأسى، وصمتت نجوي أيضًا.
وما يزال الفنجان مقلوبًا ينتظر نظرة فردوس الفاحصة "للبخت" الراقد في قاعِه، لكن فردوس لا تنظر فيه، ونجوى لا تنتظر أن تعرف؛ لأنها تعرف.
(9)
في مكتبِه بعد منتصف الليل، يجلس زين على مقعده الخشبي الصارم مثل حياته كلها وكل تفاصيلها، يطالع التقارير والأوراق وأخبار كل المعارك، أنهى اجتماعًا مهمًا منذ بضع دقائق، وغادَره الزملاء لاستراحاتهم ليناموا، لن ينام الآن، عليه أن ينجز أعمالاً كثيرة، سيطالع الأوراق والتقارير، ويتصفح الجرائد، ويدور بسرعة على صفحات المواقع الاجتماعية يتابع أهم ما يشغل أصحابها، سيتصل بأمّه يرجوها أن تدعو له، الحق هو لن يرجوها أن تدعو له، سيطالبها أن تدعو للوطن مثلما دعت له في كل معركةٍ انتصر فيها الوطن استجابةً لدعائها ودعاء كل القلوب الطيبة الطاهرة، سيفكر قليلا في حياته التي اختارها، سيسأل نفسه، وبعضُ الحزن يتسلل لقلبه رغم أنفِه، عن زملائه الذين رحلوا عن الوطن وتركوا سفينته أمانةً في أعناقهم، سيسأل نفسه، هل ما تزال راضيًا عن اختيارك؟ هل ما تزال تحِب ما تقوم به؟ سيهز رأسه مؤكدًا لنفسه صحة اختياره وقراره، فما أجملَ أن تقدّم حياتك كلها للوطن، والأجمل أن تموت فداءَه راضيًا عن كل ما قدّمته له. يبتسم زين رغم الحزن والضيق، "هذا الوطن سينتصر لأننا نموت سعداء من أجله". سيتصل بأبيه، ربما يوقِظه من النوم، سيسمع صوته ويطمئن على صحته، سيسأله عن حرب ستة وخمسين التي عاشها مقاتلاً محاربًا، سيسأله هل كانت مثل حربِنا أم أصعب؟ يعرف رأيه، سيقول له أنتم ستنتصرون؛ فليس مهمًا أي الحربين أصعب أو أسهل، المهم يقينكم وإيمانكم بقضيتكم، اليقين بالنصر، والإيمان بالقضية، هو السلاح السري الذي يحسم كل المعارك والحروب لصالحكم.
يسمع صوت أبيه يدوي في أذنِه، منذ كان طفلاً صغيرًا وأبوه يقص عليه حكايات الوطن، وتضحياتِ الرجال، وعطاء النساء، يقص عليه كل الحكايات كأنه يتمنى منه ألا ينسى كيف كانت الحياة وصعوباتها، والمعارك وضراوتها، والانتصارات وحلاوتها. حين كان صغيرًا كان يضجر من تلك الحواديت، اليوم والانفجارات تحيط به، وزملاؤه يستشهدون، والوطن يخوض حربًا ويتحرر، اليوم تتردد في روحه كل تلك الحواديت، كأنه زادُه وعُدّته للأيام الصعبة، "هذا الوطن سينتصر".. يهمس زين لنفسه قابعًا بعد منتصف الليل على مقعده الصارم، المشهد الذي يعيشه في تلك اللحظة مثله مثل كل المَشاهد التي عاشها في كل الليالي السابقة. ضوءٌ خافِت، وعسكري مراسلة على باب المكتب ينتظر أوامره، وصمتٌ عميق، صوت الانفجارات البعيدة يهز المدينة، ربما فجّروا خط الغاز، وربما تربّصوا بحافلة جنود، وربما ألقوا قنبلة على مدرّعة تغلِق الطريق الساحلي، اعتاد على صوت الانفجارات البعيدة، ساخرًا من جبنهم، لا يشتبكوا ولا يحاربون، بغدر يلقون قنابلهم ويفِرون دون مواجهة، قتَلة وليسوا محاربين، فارقٌ كبير بيننا وبينهم، نحن أصحاب قضية ووطن، وهُم مرتزَقة يبيعون حياتهم لمن يدفع أكثر، ولمن يحجز لهم مكانًا في الجنة الموصَدة في وجه آثامهم. الحرب هنا ليست حربًا، قنابل تُقذَف، وصواريخ تُصوَّب، ورصاص لقيط يدوّي، وأشباح تجري وتختبئ وسط الجبال والمَدّقات المهجورة، وفي شبكات الأنفاق السرطانية على الحدود القريبة، ليست حربًا بل معركة للقبض على القتَلَة وتجريدهم من أسلحتهم، وإغلاق المنافذ الحدودية في وجه داعميهم. يتمنى زين أن يتصل بأبيه ليقص عليه ما يعيشه
"لا دي حرب، ولا دول، ولا جنود، دول شوية مرتزقة يا حاج، مرتزقة صيّع ماسكين سلاح مش عارفين معناه، يدوسوا على زناد الموت ويجروا، معندهمش قضية ولا يقين"! عم وصفي غاضب مما يحدث في سيناء، غاضب من إرهابيها، كلما اتصل به يسأله بصدق عن أحوالهم، يطمئنه زين
"كل يوم بنضّف أكتر، وبنقبض على مرتزقة وإرهابيين ونسمع صواريخ وقنابل بعيده، واللي مكتوب عليها اسمه تصيبه". يدعو له وصفي ولكل إخوته بالخير، ويضحك في نهاية المكالمة
"كنا بنقول الانجليز جبانات لما هبطوا علينا بالبراشوتات وخافوا واستخبوا، لكن الاسم غُزاه حاربناهم وانتصرنا، دول بقى أشباح، لا براشوت ولا مواجهه ولا رجاله من أساسه، يبقى هانت وقربت ونصركم قريب"
"أشباح يا حاج.. أشباح، لا بارعين ولا ماكرين، ولا استراتيجيه ولا تخطيط، دبابير بتطير في السما الواسعه تلسع وتجري، والجبن شيمة المجرمين".
وتنتهي المكالمة الطويلة وقت أن يهمس وصفي لابنِه بمحبة
"امّك بتسلم عليك، وبتقولك خلّي بالك من نفسك".
يبتسم زين، يعرف فردوس وحنانها، دموعها تمنعها من أن تكلمه بصوتها المرتعش، تخاف عليه من شدة خوفها وحبها "الله يسلّمها يا حاج، بابوس ايديها".
يدعو له وصفي بالنصر، ويتمنى له زين الصحة وطول العمر
"ونتكلم بُكره".
يغمِض عينيه، وكأنه يتمنى سَكينة تسرق روحَه بعيدًا عن أرض المعارك، يتمنى أن يجلس ونبيل على سطح البيت القديم يتأملان النجوم، وينصِتان لقرآن الفجر من الجامع القريب، ويتجاذبان أطراف الذكريات التي تملأ جعبتيهما حزنًا ومرحًا، يغمض عينيه لكن نبيل لا يزوره هذه الليلة كعادته، نبيل غارق في حب ليلى، ويخاف من رأيه في تلك العلاقة التي ستهدم بيتَه، وتشرد ابنته الصغيرة، وكأن كل ما عشناه لا يكفينا، يُتْم وقهر وتهجير، فتأتي بإرادتك وتهجر ابنتك بعيدًا عن حضنك، وتُيتّمها في وجودك، وتحِب أخرى غير أمّها، وتعيش لنفسك فقط! نبيل يعرف رأيه في ليلى وعشقَه لها
"هي غلطانه، عارفاك راجل متجوز ما تقرّبش منك"
يضحك نبيل
"أنا اللي قرّبت منها"
"انت غلطان، وهي غلطانه"
يتمنى زين أن يعود نبيل لصوابِه ورشدِه، وأن يترك المعشوقة ويعود لزوجته السيدة المحترمة التي تربّي ابنته
"مش عاجباك مراتك يا نبيل؟ دي اختيارك انت"!
"اختياري ودفعت ثمنه"
"انت حر تدفع أي تمن، المشكله انك بتخلي بنتك هي اللي تدفع الثمن، اختياراتك ادفع تمنها براحتك، لكن لغايه البنت الصغيره وتقف وتفكر، هي ما قالتلكش تتجوز امّها، ولا قالت لك خلّفها، لكن هي بقى ليها وجود وحياه وكرامه، لازم كلنا نحافظ عليها". يغضب نبيل من زين، يغضب منه ويقرر أن يبتعد عنه؛ حتى يكف عن لومِه وتعنيفه لأنه يحِب ليلى
"باحِبها ومش حاقدر اعيش من غيرها وانتهى الأمر".
ويهرب نبيل من زين، ويختفي بعيدًا، يتركه زين وشأنَه، سيعيش المشكلة حتى يصل وحدَه لحلها، وإن تاه سيجدني لأعيده لِما يتعيّن عليه.. يتباعدان، ويطول البعاد. الآن، وفي هذه اللحظة الموحشة بالذات، يستدعيه زين في خياله، يتمنى لحظة ونَس ودفء تعيد الوصل بينهما كالأيام الخوالي البعيدة، لكن نبيل لا يأتي، ولا يزوره في مكتبه البعيد، يتصوره غارقًا مع ليلى في بحار العسل، يتصوره منشغلاً عن كل ما يحدث في الحياة بنفسِه وعواطفه وقلبِه، لا يعرف زين أن نبيل في تلك اللحظة بالذات كان يبكي مصابًا، عجزَ عن أن ينقذ روحًا فرّت من بين يديه للبراح، وشهيد جديد حرَمه من نجاحٍ طبي، وأصر على فخرٍ وفرحة فرحلَ من تحت مشرِطِه ومن فوق منضدة عملياته للشرف، نبيل يبكي وهو يري جثة جديدة تضاف لسجل الجثث التي عجز أن ينقذها، كَفر بالطب والعلم وبكل شيء، أحس عجزًا يقهره، الرجال يتساقطون تحت يديه ولا يقوَى على أن يقدم لهم ما يتمناه، يبكي وليلى تلاحِقه بنظراتها الحزينة، تتمنى أن تأخذه في حضنها وتهوّن عليه أوجاعه، لكنها لا تقوَى ولا تجرؤ على أن تقترب منه، فهو الطبيب الكبير، وهي الممرضة الصغيرة التي تحاصرها العيون المتلصصة بالأسئلة عن طبيعة علاقتها به، تقف بعيدًا لكن حزنها يصل روحه، فيمسح دموعه ليقويها وينتشلها من حزنها، وبصوت صارمٍ يشرح لها
– أنا في الاستراحة، لو أي حاجه جديده بلّغيني
– حاضر يا دكتور
كل هذا لا يعلم زين عنه شيئًا، كل ما يعلمه أنه وحيد، يتمنى سَكينة تسرقه ولو للحظة قصيرة بعيدًا عن أرض المعارك، صوت الانفجارات يخفت قليلا، ويكاد الصمت يسيطر على المكتب والمدينة وأرض المعارك، يغمض عينيه أكثر جالسًا على مكتبِه، وكفّه قابضة على زناد مسدسِه، جاهز للتصويب، مستعِد لأي مباغتة نذلة تقتحم كل الحواجز الأمنية والكمائن، وتفتح عليه بابَه وتصوّب رصاصاتها لرأسه، وقتَها سيطلِق هو أيضًا رصاصاته، وليختر الموتُ مَن يختار، لكنه لن يغتال خلسةً دونما حرب. ناقمٌ على هؤلاء الجبناء الذين ينتظرهم في الليل ويتربصون به وبزملائه مِن خلف الحجب المسدلة على وجودهم، إلا من طلقة غادرة أو قذيفة حمقاء هنا أو هناك.
ما يزال في مكتبه، وما يزال الصمت يلفّه، والترقب أيضًا، يغمض زين عينيه أكثر وكأنه سينام مطمئنًا، نغمات بيانو تتسلل لروحِه، لا يعرف مِن أين تأتي بصوتها الرخيم، هذه النغمات الناعمة تتسلل تحت جلدِه، تخترق أعصابه وتوقظها، هذه النغمات يعرفها جيدًا، خيالات ضبابية تأتي بها لسمعِه وروحه، كان صغيرًا يقبض أبوه على كفّه وهو يسير معه على المَمشى الخاوي من روّاده صوب البحر وقت أن تسللت تلك الموسيقى لقلبِه، ابتسم أبوه وشرح له أنها نغمات كازينو بالاس الرابض على البحر وشاطئ القنال معًا، سَحَبه أبوه للكازينو وأجلسه على منضدة، وطلب له كاساتا آيس كريم، الكاساتا على نغمات السوناتا، هذا ما عرَفه عن تلك الليلة الآسِرة التي عاشها في كازينو بالاس بعد ذلك بسنواتٍ طويلة، أحَب الموسيقى الكلاسيكية الحالِمة، وأحَب الكاساتا، صارا معًا رمزًا للمدينة التي عاش فيها طفولته، وهُجّر منها قبل أن يعيشها وتعيشه، نثرات من الشوكولاته والفواكه المسكّرة، وبعض الفراولة، هذا ما يُجرِي لعابَه، ويفجّر حنينه للمدينة التي كانت تخصه، وما تزال.. يقص زين لنبيل الذكريات البعيدة
"كنا نمشي على المَمشى وقت الغروب، عمّك وصفي يسحبني من ايدي وياخدني معاه، يبص على البحر كأنه بيطمن عليه وإنه لسّه موجود، وإن مفيش لا غواصه معاديه تحته، ولا بلَنص شايل ولاد حرام .. يرفع عينيه للسما كأنه يفحصها، ويكمّل، ولا طيارات غريبه ولا مظليين، ولا أعداء ولا صواريخ تنشر الموت، كل يوم على ده الحال، نمشي وقت الغروب، يحكيلي عن بورسعيد وعن المقاومه الشعبيه وعن الوطنيه والجدعنه، يحكي وهوّ بيبص على البحر والموج رايح جاي، ويبتسم، ويبص للسما صافيه وشمسها راحله وسحابها احمر، ويبتسم، يسحبني نرجع للبيت جعان وطمعان في أكلة شبار تهوّن بيها الست فردوس شقَى اليوم كله، مره واحنا ماشين سمعت صوت مزيكا، لا سمسيه ولا دق طار، صوت معرفوش عجبني، انتبَه عمّك وصفي، ما هو لمّاح زي ما انت عارف، قالّي ده بيانو كازينو بالاس، تعالى أورّيهولك، وسَحبني بسرعه خطوتين تلاته ولقيت روحي في جوّ تاني، مش دي بورسعيد اللي اعرفها، مش دي اللي قاومت وحاربت وانتصرت، مش دي بورسعيد اللي حكى ليها عنها عمّك وصفي بدل النوبه مِيّه، دي بورسعيد حاجه تانيه، بورسعيد الصبيه العفيه الأنيقه اللي خارجه من عند المِزيّن في الحي الأفرنجي، شاوِر عمّك وصفي على البيانو وقالّي هو ده اللي غواك وأسرك، وجلسنا على ترابيزة كبيره وطلب لي كاساتا، وعنها يا عم بلبل، بقت هي دي بورسعيد اللي باحبها، ولما افتكرها افتكر صوت البيانو وطعم الكاساتا بتاع كازينو بالاس".
يحكي زين ويحكي، وينصِت له نبيل وينصِت، ويتعارفان أكثر، ويقتربان أكثر وأكثر، والوصل ذهابًا وإيابًا، والحب أيضًا، هذا ما تَصوّره زين وقت أن غزت الموسيقى روحَه، تصوّر أنه مع نبيل على سطح العقار القديم الذي يعيشان فيه، يحكيان ويحكيان، لكنها أضغاث الأحلام والأمنيات التي تغزوه.
نبيل في غرفته يبكي شهيدًا فر من منضدة العمليات ورحل رغم أنفِه، وهو في مكتبه الصامت وسط ليلٍ متربص في المدينة التي تغزوها الدبابير تعقر بغدرٍ خيرةَ الرجال، وتختبئ حتى تدك على رؤوسهم الجبال، وتنهب تحت أقدامهم الأرض انتقامًا وثأرًا وانتصارًا
ويدوّي انفجارٌ كبير، تستيقظ عليه المدينة ملتاعة تدعو بالخير لخيرة الأبناء الذين تتربص بهم الدبابير، تعقرهم في حبات عيونهم وتختفي، وينتبه زين على صوت الانفجار، لكن ركام الجدران المنهارة فوق رأسِه يودي بانتباهه.. وبسرعة يسقط جسده تحت الأنقاض التي كانت جدرانًا عالية ومبنى شامخًا قبل أن تنفجر عند بوابته الرئيسية سيارةٌ مفخّخة، ويرتفع صوت الرصاص والقنابل، وتدوّي الانفجارات وصفارات الإنذار، ويعرف أهل المدينة وقاطنوها أن جللاً حدث هز المدينة من جذورها واقتلعها.. وما يزال زين ملقىً تحت الأنقاض.
(10)
خرج من غرفة العمليات حزينًا غاضبًا، ها هو بطل آخر يرفض أن يساعده، ويرفض أن يساعد نفسه، وترفض شرايينه أن تلتئم، وينفجر طحاله، وتتحول دماؤه لفيضان وسيول، ويرفض قلبه أن ينبض ثانية، وترفض روحه أن تعود لجسده الممزق وترحل بعيدًا عن كل هذا، وتحلّق في السماء فخورةً بتضحياتها وعطائها وموتها الذي يرفع راية الوطن للسماء، ويحرره من الإرهابيين القتلَة.
ها هو بطل آخر يقهره بعجزه، ويرحل مِن فوق منضدته في غرفة العمليات للفردوس الأعلى، يشعر عجزًا وقهرًا وحزنًا، ها هو طفل صغير جديد سيتجرع مرارة اليتم، وها هي زوجة حبيبة سيحترق قلبها، وها هي أمّ ستفقد حياتُها كلَّ المعاني وتغيب عن قلبها الفرحة، ها هي أمّ جديدة تنضم للصابرات المؤمنات اللاتي يختبِر الله إيمانهن بحرقة قلوبهن.
ما يزال يتذكّرها، دموعها المتحجرة، صوتها المتحشرج، رجاؤها ودعاؤها، ما يزال صوتها يتردد في أذُنيه، في اليقظة والنوم. "حبيبي يا محمد يا غالي، ودّعتك وودعت الدنيا وما فيها وودّعت كل حاجه حلوه في الدنيا"!
ما يزال صوتها يعتصر قلبَه، ويجدد كل أحزانه، كأنه خُلِق للحزن، ولا شيء إلا الحزن!
خَلع الملابس الخضراء الموشّاة بدماء الشهيد الساخنة، قذف غطاء رأسه بغضب على الأرض، وتمنى لو انشقت الأرض وابتلعته، ما الذي سيقوله لزوجته؟ ما الذي سيقوله لصغاره؟ ما الذي سيقوله لأمّه؟ اللعنة على الطب .. وعلى الحياة كلها! ما الذي أعادني لهذا العمل الذي هجرتُه؟ ما الذي أعادني لهذا العمل بعد أن نسيته؟
تمنى نبيل، في تلك اللحظة بالذات، لو بقي بعيدًا عن الطب وغرف العمليات والمَرضى والجَرحى، لو بقي جالسًا في النادي تحت الشجرة الكبيرة هائمًا مع نفسه، ما عاش كل هذا الوجع ولا كل هذا القهر!
يسير في ممرات المستشفى صوب استراحته، سيغلِق عليه الباب ويبكي، نعم مِن حقه أن يبكي، ومِن حق دموعه أن يترك لها المجال لتنهمر ولتهوّن عليه الوجع الذي يتقافز في روحه كأصابع الديناميت تكاد تنفجر وتبعثره ألف ألف مليون ذرة صغيرة. صوتها يطارده
"على قد ما ربّيتك وشِحتّك من عند ربنا، بادعيلك يغفر لك ربنا، يغفرلك ويرحمك أحلى رحمة، أنا ادّيتهولك انت، وانت أحنّ عليه مني، أنا امّ لكن انت أحنّ عليه مني، أشوفك في الجنّه ونعيمها، أشوفك متهنّي ومتمنّي في الجنّه يا محمد، ربنا حرمني منك لكن ما تتحرم من دخول الجنّه يا حبيبي يا محمد"!
صوتها يطارده وكأنه صوت كل أمّ يفقد ابنها على طاولة عملياته، يفقده، يفشل في أن ينقذه، وقتَها يسمع مرثياتِها تمزق قلبه وروحه. يسرع الخطَى صوب غرفته، هناك سيبكي ويبكي.
يسير صوب الاستراحة غائبًا عن كل ما حوله، نهنهةٌ مكتومة تخترق قلبه، نحيبٌ موجع يتسلل لأذُنيه، يبحث عن الصوت، عن السيدة التي تبكي، هل هي الزوجة التي عرَفت بموت زوجها؟ هل هي الأمّ التي أدركت رحيل ضناها؟ هل هي الابنة التي غاب سندها؟ لا يعرف، ولا يريد أن يعرف شيئًا، سيفِر مِن كل هذا لاستراحته، سيدفن رأسَه في الوسادة ويصرخ، سيدفن رأسَه في الفراش وينتحب براحته، يسرع الخطواتِ وكأنه يفِر من أعاصير الحزن التي تجوب في المستشفى تهدم جدرانَها فوق رأسِه، صوت النحيب يلاحقه، والنهنهنات الباكية تتبع خُطَاه، يتصور ظلّه المرسوم على بلاط المستشفى يسبقه ويبكي، يتصور ظلّه يعبّر عن حزنه ويبكي قبل أن يصل هو لاستراحته ويعيش مع لحظات حزنِه الزرقاء، يقف مكانَه علّ ظلّه يصمت، لكن صوت النحيب والبكاء يلاحقه، يمر بجواره، يعبره، يتقدمه ببضع خطوات، يراها، ممرضة صغيرة تمسح دموعها في كُمّ البالطو الأبيض، يلمح دموعها تنهمر على وجهها، كأنها نورة ابنته تبكيه يوم يموت ويتركها، كأنها نجوى تبكي إسماعيل يوم وصلَها خبره وبدلته الملطّخة بدمائه العطِرة. ما تزال الممرِضة تبكي وتسير على غير هدى، يتحرك صوبَها، يلحق بها، يمد كفّه على كتفها ليهوّن حزنها، تنتفض ترتعش، قلبُه أيضًا يرتعش، روحه تنتفض، حزنها يتملّكه فيزيد أحزانه ويفيض بها، تكاد دموعه تنهمر بما لا يليق به وهو الطبيب الجرّاح الكبير، لو بكى لانهار الجميع حزنًا، عليه أن يخفي أحزانه عنهم وعن جدران المستشفى التي ستشِي به للمَرضى والمصابين وأُسَرهم، عليه أن يخفي أحزانه عن الممرات الشاحبة ولمبات الإضاءة الباردة البيضاء، عليه أن يقوى ليتساندوا عليه وليقووا جميعًا. رَفعت عينيها المليئتين بالدموع ونظرت له
– دكتور نبيل..
همست باسمِه وصوتها مختنق حزين
– ليلى..
همس، يعرفها، إحدى الممرضات التي تقف معه في غرفة العمليات، تقف أمام طاولة المعدّات، تناوِله المشرط، الإبرة والخيط، وأحيانًا أخرى تجفف قطراتِ العرق مِن فوق جبهته، نعم هي ليلى..
– شدّي حيلك
همس يقوّيها، وهو يبحث عمّن يقوّيه، همس يتمنى هو أن يتحمّل هذه الأوجاع
– شدّي حيلك يا ليلى
همس وكفّه ما تزال على كتفِها، هل أحَس بقلبها يرتجف تحت أصابعه؟ هل جسدها كله يرتجف؟ لعلها فزِعة، هذا ما أحسه، هي فزِعة تحتاج طمأنينة، هل يحتضنها ويمنح روحَها بعض الطمأنينة؟ لا يقوَى على أن يحتضنها، ولا يقوَى على أن يتركها، تضغط دموعه على قلبِه لتنهمر وتسيل، تتحرك خطوة صغيرة بعيدًا عن كفِّه
– شدّي حِيلك يا ليلى
لا يجد كلماتٍ يقولها لها، كل الكلمات بلا قيمة، حتى كلمة "شدّي حيلك"، كل الكلمات بلا معنى، لا تعبّر عن الحزن المتراكم فوق قلبه وقلبها، تحركت خطوة أخرى بعيدًا عنه واستأذنته لتنصرف، هز رأسه لا يجد كلماتٍ يواسيها بها، تحركت أمامَه وصوت نحيبها يدوّي في أذُنيه، ما تزال تبكي وتمسح دموعها في كُمّ البالطو، سار خلفَها يحسدها لأنها حرة تملك أن تبكي وتعبّر عن حزنها في أي مكان وأي لحظه. تاه مع أفكاره فغابت عن بصره، لم يكترث، فقد طبعت صورتها الباكية المقهورة في خياله وكأنه اقتنصها رغم أنفها؛ لتبقى معه تشاركه الحزن، وصل غرفته، فتح الباب بسرعة وأغلقه بسرعة، وألقى ببدنِه على الفراش ودفن رأسه في الوسادة وانفجر باكيًا، وكأن كل الأحزان تجدّدت في لحظة واحدة، وحيدٌ مقهور، عاجزٌ حزين، هذا ما يشعر به في تلك اللحظة، وحيد، وكيف يكون كذلك وليلى تربّت على روحه تهوّن عليه الحزن وتشاركه بعضَه، ليلى تسللت خلف الجدران من الأبواب الموصَدة، واقتربت من جسده المرتجّ بالحزن وربّتت عليه وهمست في أذنِه بصوت صادق
"شدّ حيلك يا دكتور"
ما يزال يبكي، وما تزال تهوّن عليه حزنه
"شد حيلك يا نبيل"
صوتها صوت أمّه، صوت فردوس، صوت الأم المكلومة التي فقدت ابنها وفقدت معه الفرحة
"شد حيلك يا نبيل"
وتمنى لو تأتي الآن، تفتح الباب، تقترب بدموعها من دموعه، وتدخل في حضنه وتقاسِمه الحزن والحياة!
وكأنها التي كان يبحث عنها العمرَ كله، وكأنها الطيف الذي لاحَقه ليبحث عنه فوجده صدفةً في لحظة حزن، تمنَى حبيبًا يشاركه وجعَها…. ليلى.. وما يزال يبكي، وما تزال تربّت عليه وتقاسِمه الحزنَ الفيّاض وتقوّي قلبَه وروحه في لحظة كاد ينكسر فيها ثانيةً ويهجر الطب وكل الحياة.
(11)
متى مات أبوه وطويت صفحته بسرعة في كتاب حياتِه؟ لا يعرف، هل مات في الحرب؟ هو لا يعرف ولا يتذكر ولا يعنيه متى مات ولا كيف! أمّه قالت له إنه مات شهيدًا من أجل الوطن .. وصمتت!
في حجرتها، وفي خزانه ملابسه يلمح دائمًا بدلتَه العسكرية مخضّبة ببقايا دمائه التي سالت وقت أن مزقت دانة كبيرة جسدَه ودبابته، تمزق الجسد وانفجرت الدماء على ملابسه المموّهة بالعلامات الصفراء والبُنيّة، ومات وبقيت البدلة شاهدًا على وجوده وشرفِه وتضحيته، صار الأب اسمًا في شهادة الوفاة، وخنجرًا حزينًا في القلب يوخز ولا يقتل، ودموعًا في عينَي أمّه لا تكف عن الانهمار في كل لحظة، وكأنها تحافظ على ذكرى زوجها الحبيب من الزوال وسط صخب الحياة وأفراحها التي تتسلل لقلبها رغم إرادتها.
صار نبيل يتيمًا، هذا ما عرَفه عن نفسه، نظرات الإشفاق التي تحوطه، والأكفّ الباردة التي تربّت على كتفه، والأحضان المليئة الشوك التي تجذبه إليها رأفةً وحزنًا، كل هذا عرّفه حالتَه التي لم يفطن لمعناها ولا كيف يعرف، وهو الصغير ابن الخامسة من عمره، مذاقَ اليتم ومرارته، كل ما يذكره أنه كان بريئًا لا يحمل للدنيا همًا، قابعًا على أرض غرفته يلهو بلعبةٍ لا يتذكر شكلها، ما يذكره أنه كان سعيدًا، وقتَها تسلل نحيبها لغرفتِه.
"انت لسّه فاكر يا نبيل"؟
يسأل نفسه، فيبتسم ساخرًا، وكيف ينسَى؟ كانت لحظة فارقة في حياته، يومَها، تسلل نحيبها لغرفته كأن رياحًا زرقاء فَتحت باب غرفته عنوة، كأن بعض الأعاصير اختصت غرفته واختصته بدوّاماتها، سمع نحيبها فأدرك ببصيرة الأطفال أن ما كان يخافه ويفِر من تصوّره حدثَ بالفعل، ترك لعبتَه وتسلل على أطراف أصابعه للصالة حيث تجلس، كانت تقبض على رأسها بكفيها، ودموعها تنساب وتمسحها بسرعة وتنكِرها، تهز رأسها كأنها لا تصدّق ما تعرفه، مات الحبيب، استُشهِد، حَملت دانة مكتوب عليها اسمه روحَه الغالية للسماء، للبراح، للفردوس الأعلى، قَصفت الدانة بقية أيام حياته وفرحتها، لم يَبق منه إلا بدلته العسكرية المخضّبة بدمائها، أرسلوها لها مع بقية متعلقاته، خطاب كان يكتبه لها ولم يُنهِه، أشواق تحولت بعد رحيله لأشواك تمزق روحها، عروس شابّة لم تكمل فرحتها مع الحبيب، وتجرعت رحيله وحيدةً بقية عمرها سُمًا مريرًا، قطرةً قطرة، تتذكر وهي تبكي مكالمته الأخيرة، صوته كان بعيدًا منهَكًا، يحاول أن يطمئنها، وهي تكذب عليه وتطمئنه على حالها ووحدتها وانتظارها الموجع، يطمئنها فتكذب عليه، فيدرِك كذبها ويحاول ثانية، نبرات صوته المرهقة الموجوعة حملت لها رسائل كثيرة، لكنها لم تفطن لمعناها إلا بعد رحيله. أنهى المكالمة بعد معاناة، كلماته الأخيرة تدوّي في قلبها وروحها "باحبك يا نجوى، ووحشاني قوي قوي".
وأنهى المكالمة بسرعة، كلماته العاطفية مسّت شغاف قلبها وأربكت مشاعرها، تمنت أن يعود في نفس اللحظة لحضنها، تمنت أن ينام في حضنها، وفي الصباح تحمله الجِنيّة الطيبة للجبهة، لدشمتِه الحصينة، لرفاق السلاح والدم والأيام الصعبة وأحلام النصر. لكن أمنيتها لم تتحقق، ولم يأتِ لحضنها، ولم تنَم في حضنه، وأوصدت الأحضان بمفاتيح الحزن والفراق، أمنيتها لم تتحقق ولن تتحقق، تبكي وتنتحب، لم تنتبِه لوجوده، لوجود نبيل، يراقبها ويتمنى أن تفصح عمّا يحزنها، تتمنى أن تخبره أن معدتها توجعها، أو أنها تبكي على أبيها الذي مات السنة الماضية، أو تبكي حزنًا لأن "الكيكه" احترقت في الفرن. وهو يتمنى أن يكون بكاؤها لأي سببٍ إلا السببَ المخيف الذي تبادَر لذهنه
– بابا مات يا نبيل مات!
وتبكي وهي تحتضنه، يشاركها البكاء والحزن دون أن تسمح له سنوات عمره القليلة أن يفهم بحق معنى ذلك الحادث الجلل وأثره على حياته كلها.
(12)
همست الجدران المتهدمة للأعمدة المنهارة توصيها الرفق ب زين، البطل الملقَى تحت قواعدها ممزقَ الجسد، همست توصيها أن ترفع أثقالها عن قلبِه وروحه، همست الأعمدة المنهارة لقِطع الأحجار المبعثرة توصيها الرفق بالبطل، تذكّرها بابتسامته وقت أن كان يدخل ذلك المكان قبل أن تهدمَه القذيفة التي ألقيت عليه، أو السيارة المفخّخة التي انفجرت فيه، تذكّرها بابتسامته، تذكّرها بالساعات الطويلة التي كان يجلس فيها يرسم خطط النصر، ويشد أزر الرجال المحاربين، ويتصل بأُسَر الشهداء يواسيهم ويعِدهم بزيارة قريبة، ويوفي بوعده في أقرب فرصة متاحة. تهمس الأحجار المبعثرة فوق جسد البطل لقِطع الزجاج المتناثرة حوله، توصيها الرفق بالبطل الذي طالما أغلق الشبابيك برفق يبعد أعاصير الصحراء التي تضربها بقسوة وتهددها بالتبعثر كل لحظة، تقص عليها أنه منح جندي المراسَلة أجازة وقت أن مرضت أمّه، وحَمل علبة شوكولاته لصغيرةٍ لم تعرف أباها الذي استُشهِد، حَمل العلبة وفيها صورة الشهيد؛ حتى لا تنساه الصغيرة، وتقرن حلاوة الشوكولاته بذكراه الطيبة. تتمنى نثرات الزجاج المشحوذ لو تلملِم نفسها بعيدًا عن جلده الذي مزقت سطحه وأعصابه بعض القِطع الكبيرة من النافذة التي طالما حَنّ وحافظَ عليها من الأعاصير ولصَقها بالشريط المقوّى حتى لا تتبعثر إذا ما صُوبت الدانات عليها، تتمنى نثرات الزجاج المشحوذ لو تبتعد عن بدلتِه التي مزقتها وأسقطت أزرارها على الأرض وسط التراب والدم. نادت الجدران المتهدمة بصوت قوي وواضح
"هنا بطل يرقد تحت أنقاضي، أنقِذوه مني ومن الموت الذي يسكن بقاياي، هنا بطل". تمنت قائمة المكتب الخشبية الكبيرة الراسخة فوق أصابع كفّه لو تحركت قليلا، تمنت لو أن الانفجار الذي مزق جسم المكتب أبعدها عن كف البطل التي طالما رَفعت تحيي العَلَم. تمنت قائمة المكتب لو أحضرت العلَم وفرَشته فوق رأس الرجل تقِيه الأعاصير التي تعصف ببقايا الغرفة التي كانت، تقِيه لسع الدبابير التي احتلت الغرفة، وملاك الموت الذي تحرّضه ليسرق حياة البطل ويجري. تمنت قائمة المكتب الخشبية لو تمتلك حنجرة تصرخ بها لجلب المساعدة للبطل الذي ما تزال أنفاسه تصارع الاختناق وقِلة الهواء، وذرات التراب المتناثرة على شفتيه وفي جوفِه، تمنت لو تبتعد عن كف يدِه فيتحامل عليها ويقوم، يتساند على بقايا الجدران وينهض، تمنت لو استخدمها عكازًا يركن عليها وهو يتحرك بخطواتٍ بطيئة مرتعشة والدماء تسيل من كل الثقوب الغادرة التي مزقت الدانة بها جسدَه، تمنت لو صارت عكازًا يتحامل عليه حتى يجد سبيله بعيدًا عن الأنقاض المتهدمة وعواصف التراب والزجاج وذرات الانفجار.
تمنت الأرض التي طالما سار فوقها واثقَ الخطَى لو حَملت وجهه المدفون في حضنها بعيدًا، تمنت الأرض لو أفلحت في أن تمنحه بعض الهواء النقي في رئتيه اللتين مزقتهما الأحجار الثقيلة التي هوت كالمشارط فوق ظهره، وعبرت منه للرئتين تمزقهما، تمنت لو تفجّرت تحته عين ماء دافئ حانٍ تسقيه من نهر الكوثر، وتغسل بدنه وروحه، وتمنحه بعض القوة ليحمل أشلاءه الممزقة ويفِر من مصيره الذي يبدو حتميًا. بكت الحجرة المهدّمة على الرجل الذي طالما عاش فيها يخاطب جدرانها، ويحنو على أرضها، ويهدهد مفروشاتِها البسيطة، ويغني مع صوت المذياع ويبكي وقت أن يرى جنازة عسكرية لزملائه، يبكي لأن العمر طال به فلم يمنحه الشهادة مثل زملائه المحظوظين، بكت الحجرة ودَعت ربها.
"اللهمّ لا تمنحه الشهادة، وأعِده للحياة ليحارب أعداء الحياة وينتصر عليهم، اللهمّ لا تمنحه الشهادة، وأعِده للحياة، فما يزال له فيها عمر لم تنتهِ أيامه بعد، وله فيها بطولة لم تتجلَّ بعد، وله ابنة صغيرة سينجِبها، وابن يحمِل اسمَه، وأب يحِبه وينتظره ليحمل خشبتَه لمثواها الأخير، اللهمّ لا تمنحه الشهادة، فما تزال في حياته حياة".
الحجرة تبكي، والجدران المتهدمة تدعو، وقائمة المكتب الخشبية تتمنى أن ينهض ويتحامل عليها ويفِر من أسر الموت، نثرات الزجاج المبعثرة على وجهه وجسده تدعو ربها
"اللهمّ أنقِذه.. اللهمّ أنقِذه، اللهمّ آمين". تهمس كل الموجودات المحطمة المتراكمة طبقاتٍ طبقات فوق جسد البطل الملقَى على وجهه تحت أنقاضها.
يتناهَى ل زين وسط الألم العاصف والوجع الموحش المتوحش، صوتُ تمتمات الرجاء وهمسات الدعاء، يتمنى ألا يخذلهم ويعود بنفسه ليرمّم الحجرة ويصلح المكتب المكسور، يتمنى أن يشفى مِن أجلهم، ومن أجل كل مَن يحبهم، ماما فردوس، وبابا وصفي، وأشقائه ونبيل.
"أين أنت الآن يا نبيل"؟
يسأل زين ويسقط ثانية في جبّ الغيبوبة؛ لطفًا من ربّه لإنقاذه من الوجع والألم الذيْن يعصفان بوجودِه وكيانه وحياته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.