إبراهيم حسن يكشف موقف المنتخب من ضم صلاح و مرموش    الخارجية الأمريكية: إدارة بايدن ترى أن إسرائيل لن تحقق "نصرًا كاملاً" في هزيمة حماس    ارتفاع تكلفة الواردات في كوريا الجنوبية وسط ارتفاع أسعار النفط    وزير الزراعة يكشف تفاصيل مشروع مستقبل مصر    جوتيريش يعرب عن حزنه العميق لمقتل موظف أممي بغزة    شولتس يقلل من التوقعات بشأن مؤتمر السلام الأوكراني    وزير الإسكان العماني يلتقى هشام طلعت مصطفى    إعلامي: الزمالك يدرس دعوة مجلس الأهلي لحضور نهائي الكونفدرالية    مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء 14-5-2024 في الدوري الإسباني والقنوات الناقلة    لهواة الغوص، سلطنة عمان تدشن متحفًا تحت الماء (فيديو)    برج الأسد.. ماذا ينتظر مواليده في حظك اليوم؟ (توقعات الأبراج)    لطفي لبيب: أحمد السعدني لازم يفرح لأن والده في مكان أفضل    فريدة سيف النصر تكشف لأول مرة كواليس تعرضها للخيانة    سلوى محمد علي: الشعب المصري لا يكره إلا من يستحق الكره    الأوبرا تختتم عروض «الجمال النائم» على المسرح الكبير    انتقاما ل سلمى أبو ضيف.. كواليس قتل إياد نصار ب«إلا الطلاق» (فيديو)    هل يجوز للزوجة الحج حتى لو زوجها رافض؟ الإفتاء تجيب    ما حكم عدم الوفاء بالنذر؟.. دار الإفتاء تجيب    هيئة الدواء تحذر من منتجات مغشوشة وغير مطابقة: لا تشتروا هذه الأدوية    رئيس شعبة الأدوية: احنا بنخسر في تصنيع الدواء.. والإنتاج قل لهذا السبب    إجازة كبيرة للموظفين.. عدد أيام إجازة عيد الأضحى المبارك في مصر بعد ضم وقفة عرفات    امتحانات الدبلومات الفنية 2024.. طريقة الحصول على أرقام الجلوس من الموقع الرسمي للوزارة    سيات ليون تنطلق بتجهيزات إضافية ومنظومة هجينة جديدة    إبراهيم عيسى: أي شيء فيه اختلاف مطرود من الملة ومتهم بالإلحاد (فيديو)    في عيد استشهادهم .. تعرف علي سيرة الأم دولاجي وأولادها الأربعة    ضابط استخبارات أمريكي يستقيل بسبب حرب غزة    محافظ الغربية يعقد اجتماعًا مع خريجي المبادرة الرئاسية «1000 مدير مدرسة»    عاجل.. حسام حسن يفجر مفاجأة ل "الشناوي" ويورط صلاح أمام الجماهير    ميدو: هذا الشخص يستطيع حل أزمة الشحات والشيبي    «محبطة وغير مقبولة».. نجم الأهلي السابق ينتقد تصريحات حسام حسن    «يحتاج لجراحة عاجلة».. مدحت شلبي يفجر مفاجأة مدوية بشأن لاعب كبير بالمنتخب والمحترفين    فرج عامر: الحكام تعاني من الضغوط النفسية.. وتصريحات حسام حسن صحيحة    سعر البصل والطماطم والخضروات في الأسواق اليوم الثلاثاء 14 مايو 2024    فريدة سيف النصر: «فيه شيوخ بتحرم الفن وفي نفس الوقت بينتجوا أفلام ومسلسلات»    عيار 21 يفاجئ الجميع.. انخفاض كبير في أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 14 مايو بالصاغة    مقتل وإصابة 10 جنود عراقيين في هجوم لداعش على موقع للجيش    عاجل - "احذروا واحترسوا".. بيان مهم وتفاصيل جديدة بشأن حالة الطقس اليوم في محافظات مصر    تفحم 4 سيارات فى حريق جراج محرم بك وسط الإسكندرية    «اتحاد الصناعات» يزف بشرى سارة عن نواقص الأدوية    احذر.. هذا النوع من الشاي يسبب تآكل الأسنان    رئيس شعبة الأدوية: هناك طلبات بتحريك أسعار 1000 نوع دواء    وصل ل50 جنيهًا.. نقيب الفلاحين يكشف أسباب ارتفاع أسعار التفاح البلدي    "يأس".. واشنطن تعلق على تغيير وزير الدفاع الروسي    «أخي جاوز الظالمون المدى».. غنوا من أجل فلسطين وساندوا القضية    فرنسا: الادعاء يطالب بتوقيع عقوبات بالسجن في حادث سكة حديد مميت عام 2015    ارتفاع درجات الحرارة.. الأرصاد تحذر من طقس الثلاثاء    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك يوماً يتجلى فيه لطفك ويتسع فيه رزقك وتمتد فيه عافيتك    الحرس الوطني التونسي يحبط 11 عملية اجتياز للحدود البحرية    الحماية القانونية والجنائية للأشخاص "ذوي الهمم"    مصطفى بكري: اتحاد القبائل العربية منذ نشأته يتعرض لحملة من الأكاذيب    رئيس مجلس أمناء الجامعة الألمانية: نقوم باختبار البرامج الدراسية التي يحتاجها سوق العمل    أطفال مستشفى المقاطعة المركزى يستغيثون برئيس الوزراء باستثناء المستشفى من انقطاع الكهرباء    إصابة شخصين في حادث تصادم بالمنيا    مستشار وزير الزراعة: إضافة 2 مليون فدان في 10 سنوات إعجاز على مستوى الدول    إبراهيم عيسى: الدولة بأكملها تتفق على حياة سعيدة للمواطن    دبلوماسي سابق: إسرائيل وضعت بايدن في مأزق.. وترامب انتهازي بلا مبادئ    عاجل: مناظرة نارية مرتقبة بين عبدالله رشدي وإسلام البحيري.. موعدها على قناة MBC مصر (فيديو)    ما الفرق بين الحج والعمرة؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"دموع ملونة على جناح النورس" رواية ل"أميرة بهي الدين"
نشر في الأهالي يوم 10 - 07 - 2021

يسعد صفحة إبداعات بجريدة الأهالي أن تبدأ في نشر رواية الأديبة والإعلامية الكبيرة/ أميرة بهي الدين دموع ملونة على جناح النورس والتي أهدتها لروح الشهيد محمد المبروك. على أن يكون النشر أسبوعيا في فصول متتالية.
دموع ملونة على جناح النورس
رواية
اهداء
لروح الشهيد محمد المبروك
أميرة بهي الدين
"وأغني ليه وزماني
زماني ما سعدنيش
والفرحة بتواعد ولا توفِيش
والليل بيطويني
والآه على لساني
والحزن يخاويني
ولا ليلة ينساني
ده زماني لما رماني..
رماني.. رماني ما نصفنيش"
وحَلّقت النوارس وحَلّقت
وطارت وارتفعت بعيدًا عن الأرض
وعادت بسرعة وقذفت ببدنها وسط الماء
وبكت وكأن أحدًا لن يراها
وبالفعل.. لم يرَها أحد!
(1)
في الغرفة الصغيرة، في المستشفى الصغير، في ليلة باردة حالكةِ الظلام، كان جالسًا على المقعد الخشبي الصارم القاسي يحدّق في الظلام، يراقب الشاشاتِ وأنفاسُه بطيئة، أبطأ من أنفاس الجسد الملقَى أمامه موصولاً بالأسلاك، ينازِع ما بين الحياة والموت، وكلاهما يشدّه ناحيتَه، الجسد منهَك، والشاشات أكثر إنهاكًا، ونبيل كذلك
يحدّق في الظلام، تتراقص الألوان تحت جفنيه علّها تؤنس وحدته، أو تبدد خوفه، أو تذكّره ببقايا الابتسامات التي كانت ترتسم على وجهه وقت أن كانت الحياة غير ما أصبحت، أو مثلما تمناها أن تكون. تتراقص الألوان تحت جفنيه، يشد جفنيه الملتصقين بعيدًا عن بضعهما، يحدّق أمامه في الاصفرار الأبيض، والاخضرار الأصفر المتراقص إشاراتٍ وأرقامًا على الشاشات الكثيرة أمامه، تخبِره وفقًا لمعايير مَراجع الطب، ونشرات الشركات المنتِجة أن ذلك المريض ما يزال حيًا، لكن الشاشات ومَراجع الطب لا تعرف كيف تصِف حالته النفسية وحالة روحِه الممزقة رغبةً في الرحيل والراحة، ورغبةً في البقاء والثأر. الإشارات والأرقام لا تبوح ل نبيل بما يعتمل في قلب ذلك المريض، لا تحكي عما يدور داخل تلك الروح الحبيسة وجسدِها الممزق بفتحات خروج ودخول لطلقات لم يتعرف عليها نبيل في مشرحة الكلية، ولا في محاضرات الدكتور الكبير رحِمه الله، ولا في مَراجع الطب الشرعي. طلقات غريبة مثل كل شيء غريب حوله، طلقات تخرج من فوهة سلاحها مشحونةً بكراهية وغِل تمزق اللحمَ والعظم والعضلات وكُتل الأعصاب، وتحفر مكانها كأنها تتمنى لضحيتِها عاهة وعجزًا يبقيان للأبد محل سمِّها لو خرجت من الجسد وأفلح رغم كل جروحه في أن يشفَى ويبقى حيًا ولا يرحل.
يحدّق نبيل في الجسد، ويتمتم بأدعية لا يعرف مِن أين يأتي بها في ذلك الوقت، لم يسمعها من أبيه ساجدًا في صلاته، ولم يسمعها من أمّه وهي تسبّح بحمد ربّها تدعوه أن يفرِجها عليها وينتشلها من قِلة حيلتها وقهر قلبِها، لم يسمعها من مُدرستِه في حصة الدين، لم يسمعها من خالته فردوس وقت أن تنهي صلاتها وتتمتم بكل ما يجود به قلبها من رجاءٍ وتضرّع. يتمتم نبيل بأدعية راجية حانية تأتي من مكان غريب بعيد في قلبه. مشاعره كإنسان قلِق مضطرب تتحول في عقله وقلبه لكلمات رجاءٍ وتَمنٍ لانتشال وإنقاذ المريض الغالي الذي لا يعرفه، وهو راقد أمامه موصولاً بالأجهزة والشاشات، لانتشاله من جبّ الغياب، وامتطاء مواكب الرحيل، وتركه طبيبًا عاجزًا يحترق بفشله في إنقاذ حياة مريضِه الغالي.
-لا ترحل
يهمس بها نبيل ويدعو، يرجو ويترجّى، لا ترحل وتتحول لاسمٍ في صفحة الوفيات، لا ترحل وتترك دموعًا متحجرة تمزق أرواح الحزانى، لا ترحل يا غالٍ وابقَ معي. يتمنى نبيل لو يهمس لمريضِه في أُذنِه، في قلبه، ألا يرحل وأن يبقى معه، يتمنى لكنه لا يفعل، ويبقى أمام مريضِه متضرعًا راجيًا محتجَزًا معه في الغرفة الضيقة، ملتصقًا بالمقعد لا يقوَى على الحركة، والظلامُ يلفّه، والشاشات وأرقامها الواهنة تستلهِم ضوءها الشاحب من مولّد كهرباء صغير بعد أن طال غياب الكهرباء العمومية وانقطاعها. أخبَروه في المرة الأولى أن محطة الكهرباء ضُرِبت بالصواريخ.
– بشيعون الظلام بحق
همس نبيل غاضبًا، يشيعون الظلام بشكلٍ واقعي، لا يشيعون القهر وحرقة القلب، والحزنَ والحصار بالموت والعجز فقط، بل يشيعون الظلام والسواد حولهم، ويغرِقون البلدة الصغيرة فيه، يضربون محطة الكهرباء بالصواريخ، ينقطع التيار الكهربائي العمومي، فتتعازم المولّدات الصغيرة وتنتفض بنبض كهربائي ضعيف لا ينير البلدة ولا أروقة المستشفى الصغير، فقط تنير الشاشات لتبقى ببوحِها تطمئن الدكتور نبيل أن مريضه الغالي ما يزال حيًا يقاوم الظلام والغيابَ الأبدي.
الوقت يمر بطيئًا وهو جالس مكانَه يحدّق في الظلام وفي الأشباح حوله، يرى أنفاس مريضِه بطيئة واهنة، تخرج بصعوبةٍ من الجسد الملقَى أمامه على الفراش المعدني البارد، يراها تتحول إلى بخارٍ مرئي، كأنها سُحب كثيفة ستمطر خيرًا، أنفاسه باردة تخرج من فتحتَي أنفِه المغلَقَتين ببعض الشاش والدماء المتجلطة، أنفاسًا باردة تتحول إلى سُحبٍ فضية تبدد بعض الظلام القاتم، تتراقص السُّحب الصغيرة على ضوء الشاشات الشاحب، تتراكم قطراتها على سطح الشاشات فتحيل الأرقام والمؤشرات لِمعانٍ غامضة غريبة، يتصور نبيل أن مريضَه استغل فرصة الظلام ورحل، أو سيرحل بهدوء، لكن الأنفاس الضبابية تَخرج من أنفه بطيئة، نعم باردة.. نعم.. لكنها تؤكد لنبيل أن مريضه يقاوم الرحيل ولا يستسلم لمواكب الفخر صوب الفردوس، ويؤجل الرحيل لساعة أجلِه المحتومة التي لم تأتِ بعد، ويتمنى نبيل ألا تأتي بسبب تلك الطلقات فوق هذا الفراش، في تلك الغرفة، في هذه اللحظة الموجِعة.
وما يزال الظلام دامسًا، وما يزال المريض حيًا، وما يزال في قلب نبيل أمل وتَحدٍ
(2)
-احكيلي يا عم وصفي، احكيلي عن بابا
تَصوّر وصفي أن نبيل محموم يهذي، في الفراش، وأن جسده ينتفض، وقطرات العرق تقفز من جبهته الباردة. يجلس بجواره يتابع حالته ويرعاه، نامت نجوى بعد أن ألَح عليها وصفي أن تريح بدنها الذي تيبّس إرهاقًا وقت أن سهرت بجوار نبيل المحموم ليالي طويلة بلا غفوةٍ ولا نوم. أقسَم وصفي برأس كل غالٍ أنه سيبقى بجوار نبيل، وأنها ستتركهما وشأنهما معًا وتنام
-وبُكره الصباح رباح تصحي تلاقيه كويس
رَضخت نجوى لإصرار وصفي وعناده، وألقت بجسدها في الفراش فلم تشعر بشيء وقت أن داهَمها النوم بجبروته، ليبقى وصفي بجوار نبيل يراقب أنفاسه ووجهه القرمزي، يجسّ جبهته بأصابعه بين حينٍ وآخر، يوقِظه لتناول الأدوية في مواعيدها. جالسًا على مقعدٍ وثير أمام فراشِه يتابعه. ابنه؟ نعم نبيل ابنه، في غلاوة "زين" وأكثر، ومحبة بقية أبنائه وأكثر، نبيل ابنه الأصغر، يشعر به خِلفة الشيب التي يجبره الشيب بالحنوّ عليه ورعايته أكثر من أي ابنٍ آخر. فَتح نبيل عينيه، والحرارة ترحل ببطء عن جسده المشتعل بالحمّى، تناول الأدوية وابتسم لوصفي، وصفي يُشعِره بالأمان والطمأنينة، وكأنه أبوه الذي غاب وتركه. فتح عينيه وابتسم لوصفي الذي تَمتم بأدعيته يشكر ربّه لأنه ينقِذ نبيل ويزيح عن جسده وروحه المرضَ المنهِك، يتذكر وصفي ليالي كثيرة مثل هذه الليلة، كم من ليلة مرت عليه جالسًا بجوار حبيب، جريحٍ ومصاب، يطبّب جرحه ويطيّب روحه، ويعتني به، كم من ليلة وليلة بعيدة مرت عليه في الخندق وسط الظلام، يكتم الجروح بالبُن ويطهرها بالكحول، ويقبض على أصابع الجريح يقويّه ويمنحه بعض روحه، وبعض بأسِه؛ علّه يساعد نفسه ويقوّيها فتلتئم الجروح، وتُهزم الأوجاع، ويتحدى الإصابة والمرض، ويطيب ويحمل بندقيته ويخرج ثانيةً لساحات القتال ينتقم لنفسِه ولكل زملائه الأبطال والشهداء. كم من ليالٍ طويلة قضاها وصفي يقرأ القرآن على رأس الجريح بعد أن عجز الطب عن مداواتِه، يقرأ له الآيات، ودموعه فيضانات، وقلبه يدعو ربّه أن ينقذ الحبيب الذي لم يكن يعرفه، لكنّ دماءه التي سالت على أرض الوطن وصلَت بينهما، فصارا أبًا وابنًا، وأخًا وشقيقًا، وابنَي عائلةٍ واحدة انحدرت من شجرة كبيرة ارتوت جذورها بالدماء الطاهرة، فسمَت أفرعها للسماء. كم من ليالٍ طويلة قضاها وصفي في بورسعيد وقت أن هبط الإنجليز والفرنسيون بالمظلات فوق رأس المدينة، ورصاصهم يرسم لوحاتِ حزن وتحدٍ في قلب المدينة التي قاتلت وانتصرت. كم من ليالٍ طويلة قضاها وصفي وقت أن عاد الجيش المصري مهلهَلاً من سيناء، يبكي الجنود ويختبئون عارًا من الأعلام الزرقاء التي حَلّقت في سماء الوطن المهزوم! أيامَها استقبل وصفي الجنودَ العائدين يستجوبهم ليفهم كيف حدث ما حدث؟! لا يفهمون شيئًا، ولا هو أيضًا! يبكون فيبكي، تنهار أجسادهم تعبًا وعارًا على الأرض وكأنهم يرجونها أن تسامحهم، يتلقفهم وصفي بين ذراعيه، ويحتويهم في أحضانه ويبكي على أكتافهم، ويمسح دموعهم من على وجوههم، ويصرخ فيهم إنها مجرد معركةٍ هُزِموا فيها، لكنهم في النهاية سينتصرون في المعركة الكبيرة وقت أن يستعدوا لها جيدًا. ليالٍ طويلة، مثل تلك الليلة التي يعيشها الآن، قضاها وصفي يقِظًا يطيّب الجروح، ويعالج الأمراض، ويدعو ربّه أن يمنح الحبيب شفاءً وألا يكسر بخاطره ونفسِه ويهزمه أمام المرض والإصابة والموت الغادر.
الليلة يجلس وصفي أمام نبيل، يطبّبه ويدعو له واثقًا من رحمة ربّه الذي لن يقهر الست نجوى، ولن يكسر قلبها، ولن يسودّ أيامها أكثر من كل السواد الذي عاشته.
همس نبيل – احكيلي عن بابا يا عم وصفي
تَصوّره وصفي يهذي من أثر الحمّى، لكن نبيل رجاه أن يقص له عن أبيه، يتمنى أن يعرف عن أبيه، يتمنى أن يتعرف عليه، وهو الذي رحل عن حياته قبل أن يعرفه، يحمل اسمَه ولا يعرفه! ارتبك وصفي قليلا، لا يعرف إسماعيل، ولا يعرف قصصه وحواديته، فكيف يحكي لنبيل عنه؟ كاد يخبِره أنه لا يعرفه ولم يرَه، سيخذله، هذا ما أحَسه وصفي، سيخذل نبيل الذي خذلته الدنيا كثيرًا، سيخذله فيزيد حزنَه، وربما تعود له الحمّى والحرارة المرتفعة، وربما يسقط في الغيبوبة المؤقتة، مثلما حدث ليلة أمس، لن يخذلَه، سيقص له عن أبيه، ليس عن أبيه بالضبط، لكن عن كل الأبطال الذين عاشوا شجعانًا وماتوا أبطالا، ووشموا أسماءهم في قلب الوطن، سيحكي له عن كل الأبطال الذين عرفهم، وعن تضحياتهم وبطولاتهم، وكيف عاشوا وما يزالون يعيشون في قلب الوطن. نبيل يبحث عن فخرٍ يهوّن عليه حزنه، سيمنحه له وصفي وأكثر، سيملأ روحه وقلبه بحواديت وقصص تحلّق به بعيدًا عن آبار الحزن المالحة، وعن القهر، وعن اليتم.
-أبوك كان بطل، عاش بطل، ومات بطل
وابتسم نبيل، وكأن الحمى غادرته. وطال الليل وطال، ووصفي يحكي ونبيل يسمع ويسعد، ويبكي ويضحك، والحمّى تغادر جسدَه ببطء ببطء، وكأن كلمات وصفي وحواديته ترياق شَفاه بمعجزة من السماء، طالما آمنَ وصفي أنها قريبة وستتحقق، وأن ربّه سيستجيب دعاءَه ولن يخذله، وسيجعله سببًا لتصبح الحياة على أحبابه أقل قسوة ووحشة.
وما يزال وصفي يحكي، ونبيل ينصِت ويخزّن الحواديت والتفاصيل في عقله الصغير، ويفتح لأبيه في ذاكرته صفحاتِ فخرٍ وصفحات.
ونام نبيل مطمئنًا، فارتاح وصفي وقوِي على أن يغمض عينيه، ويريح عضلاتِها المتشنجة، لتداهمه الذكريات أكثر عن كل ما عاشه في المدينة الباسلة التي اختارها القدر، واختار أهلَها ليقاوموا ويقاوموا، ولينتصِروا
(3)
كيف يضيع العالم كله مِن يديك ؟؟ كيف ينهار كل شيء فجأة، وكأنك بدّدتَ حياتك في بناء قلاعٍ ظننتَها حصينة على الرمال فهدّتها موجة صغيرة بلا قصد؟ كيف يضيع العالم كله مِن يديك بهذه السهولة؟
أسئلة كثيرة يسألها نبيل لنفسه، الآن في هذه اللحظة يسأل نفسه حزينًا، كيف يضيع العالم كله مِن يديك، وأنت عاجز لا تقاوم ولا تصارع؟ لا تحارِب ولا تنتصر؟ فقط تُهزَم وتُهزَم؟!
يائسٌ حزين، تاه في كل الدروب، وضاع في كل السكك، يائسٌ حزين، يتمنى أن يخرج من شرانق الحزن التي تلفّه وتدفنه بداخلها، يتمنى لكنه عاجز، إرادته مشلولة، يتمنى لو يقوَى على أن يحلّق بعيدًا عن البيت وعن نادية، لكن نورة تقيده لزنزانته ببراءتها، لا يقوَى على أن يعذبها ويهجرها وقت أن يهجر أمّها ويتركها تبكيه حيًا، وتتيتّم في وجوده غائبًا حاضرًا، لن يقسو عليها، لكن الحياة قست عليه، وما تزال، لن يحكي عن اليتم ووجعِه، لن يتكلم عن الحرمان وقهره، فقط سيقص قصته ونادية التي تزوّجها هربًا من الوحدة والبرودة فاعتقلته داخل نفسِه محاطًا بجبال صقيع. "نادية.. كان يتعين علىّ أن أطلّقها منذ الليلة الأولى لزواجنا التعِس، لم أفلح في أن أحتويها في حضني، ولم تفلح في أن تطمئنني في حضنها. ليلتنا الأولي كانت سوداء بلون بقية أيام الحياة كلها".
استيقظ من نومِه مبكرًا يتمنى أن يطلّقها، لكنه لن يفعل، وسيمنحها فرصة وأخرى لتحتويه. المشكلة أنها لا تحاول، كأنها واثقة أنه سيبقى في أسرها، ولو كان تعيسًا! كل ما منحته له فنجان قهوة نهاري، وطبقَ حساء في آخر اليوم، وكثير من المشاجرات والحزن.
"كنت أحلم أن أبني أسرة سعيدة تمنحني وأولادي دفئًا لم تمنحه لي الحياة، كنت أحلم بصخبٍ ملوّن في بيتي، وفقاقيع بهجة ودفء، كنت أحلم وأحلم، لكن الواقع فرضَ علىّ نفسه، الواقع فرضَ نفسه والدكتورة نادية أيضًا، تصورتُها ستنهي وحدتي.. فأتت بوحدتها لتقتلني! عاشت مضطربةً وحيدة خائفة من الأيام وقسوتها، ومن أبيها وجنونِه ومن زوجته وسفالتِها، طُلِّقت أمها وتزوجت ونسيتها، وتزوج أبوها وأتاها بزوجة لم تحِبها ولن، فتقوقعت في بيت أبيها على نفسها غريبةً تائهة تبحث عن خلاص، وقت أن عرضتُ عليها الزواج اعتبرته مَهربًا من قهرها في بيت أبيها، لم تكترث بالفرح ولا بالفرحة، لم تكترث بالبيت ومفروشاته القديمة، لم تكترث بمشاعري، ولا إذا كنت أحِبها أو أخفي وحدتي في وجودها. كل ما اكترثتْ به خروجها من بيت أبيها، وكسْر دائرة القهر التي طالما أطبقت على روحها. مسكينةٌ نادية! نعم .. مسكينة، لكني أنا أيضًا مسكين، طفولتها أفسدت شبابها وحياتها، لكن هذا ليس ذنبي، وليس جريمتي، لست أمّها التي نسيتها، ولست زوجة أبيها التي أهانتها، ولست أباها الذي قهرَها بزوجته، ولسانها السليط، وسلبيتِه المهينة، لست مَن عذّبها لتعذبني! في حضنها وجدت صخورًا مسنونة، ودموعًا متحجرة، وعزوفًا عن الحياة، نقلتْ لي بعض الموت بلمساتها فعزفتُ عنها وعن الموت. في حضنها تهتُ أكثر، وتوجعت أكثر، كنت أظنها سندي، فأتت بأحمالها وحمولها، كنت أظنها ستريحني، فأفسدت بقية حياتي بتعبِها. مسكينةٌ نادية! لكني لست مسئولاً عما عانته، كيف لم ألحظ كل هذا وقتَها؟ وجدتُها عروسًا متاحة مناسِبة، مكسورةَ الجناح والنفْس، سعدت بما لا يمكن أن تَقبله غيرها من الفتيات، زيجة في ظروف صعبة بلا فرحة، كنت سأمنحها الفرحة لو منحتني بعض الراحة، لكنها ضنّت على نفسها وعلىّ بالراحة والفرحة، كان يتعيّن علىّ أن أطلّقها صباحَ اليوم الأول لزواجنا، لكني عجزت عن أن أعود للوحدة بين الجدران الخرساء، أنا وأشباح أمّي وأبي، والدموع المتراكمة على جدران المنزل، والذاكرة، خفتُ الوحدة فاخترت الشقاء؛ علّ صحبة الشقاء تكون أهونَ من الوحدة وصقيعها. هكذا ظننت، ومرت الأيام ووحدتي تزداد، وحزني أيضًا. عَبوسة كضباب الأيام الباردة، رمادية الملامح كلون السماء قبل العواصف والأعاصير، وحضنها شوكٌ جارح موخِز، كل هذا قَبِلته ورضختُ له، حتى أشرقت شمس ليلى في حياتي، فأدركت بؤسي وحزني وحياتي المستحيلة التي كنت أدفن نفسي بين طيات عفنِها المقزز
ليلَى .. جميلتي الصغيرة التي أنارت حياتي ففضحت قبح ظُلمتِها الموحشة، ليلى الحنون التي كشفت آبار المِلح التي أشربها فلم تروِني، ليلى الأنثى الشهيّة التي طالما تمنيت وصْلها فأتتني في الوقت الخاطئ الموحش
أريد أن أتزوجك يا ليلى-
همستُ وكفّها في كفّي، حدّقتْ فيّ لا تصدق ما تسمع، ما لها لم تفرح بعرضي ولا بمشاعري؟! لم تفرح وبكت .. دموعها أثارتني فتمنيت لو اختطفتها في حضني للأبد أمنحها اسمي وروحي وجسدي ورجولتي
– لستَ لي ولن تكون، أنت لزوجتك وابنتك وحياتك يا دكتور نبيل، أين أنا وأين أنت؟؟
وكأنها رَسمت سورًا من لهبٍ بيني وبينها، تذكّرني بزوجتي وابنتي، وحياتي البائسة، تذكّرني بالفوارق الظالمة التي بيني أنا الدكتور المشهور المرموق الكبير، وبينها هي الممرضة الصغيرة
– لكني لن أسعد إلا بصحبتك
-صحبتي ستشقيك وتشقيني
هكذا حسمت ليلى الأمر بيننا ، مِن أين أتت بكل هذه القسوة والقوة؟
-تذبحينني ببساطة يا ليلى وكأنك لا تقصدين، كيف قويت على أن تحطمي حلمي الجميل ببساطة هكذا؟ سأطلّق نادية وأتزوجك
-وكيف أقبل أن أبني سعادتي على تعاستها وتعاسة نورة؟
-وكيف تقبلين أن تشقيني ببعدك عني
-لا أقبل، لكني لا أملك في أمرك شيئًا
غاضبًا يصرخ فيها، وكأنه سيحطم رأسها
.كيف تقولين إنك تحبينني، وفي نفس الوقت تقتلينني ببعدك-
حبك لا أملك فيه شيئًا، ولا إرادة لي فيه، لكني في كل شيء آخر أملك إرادتي، أحِبك نعم، ولا أقوَى على قلبي، لكني أقوَى على نفسي وعليكِ، واللهُ غالب على أمره".
(4)
في الغرفة الصغيرة، في المستشفى الصغير، في ليلةٍ حالكة الظلام، ما يزال نبيل يحدّق في الظلام ويحدق، كأنه سيرى وسط العتمة ما يطمئِن قلبَه وإنسانيته، ويمنحه ثقة في علمِه وخبراته وقدرته على إنقاذ المرضَى والمصابين من مصيرهم الغامض المخيف. تتعَب عضلات عينيه وتتأرجح حدقتاه وجعًا من كثرة ما فتحهما وضغط عليهما لتبقيا يقظتين، يستشعر كأن قاع عينيه يفيض بدموع تنهمر بلا حزن، مجرد إنهاك، وتعب ينسكب من العينين المفتوحتين دائمًا لسيول دموع مالحة تجبره على أن يستسلم ويغلق عينيه ويسكن خاضعًا للظلام.
يغيب وكأنه سينام، أو نام فعلاً، كأنه سيموت، أو مات فعلاً، يغيب نبيل ويغرق وسط ركام طبقات الظلام القاتمة، ويهبط لقاع البئر، وتتعالى أنفاسه وكأنه مستريح، جزءٌ منه نام وهرب من صعوبة المشهد، وبقيّته بقت متربصةً بالشاشات، لاعنة الخونة حمَلة الصواريخ الذين مزقوا جسد مريضِه بطلقاتهم المتوحشة، وحاصروه هو والمستشفى والبلدة، وأرواح كل سكانها المستبسلين دفاعًا عن وجودهم ووجود بلدتهم الصغيرة حيةً فوق الخريطة، حاصَروهم بالظلام، ينام ويغيب، نِصفه يغيب وينام وينزلق لقاع البئر، فيه لا يرى إلا ظلامًا كثيفًا، الحق أنه لا يرى شيئًا، يهمس لنفسه وكأنه يشرح لها ما يحسه ويعيشه، وما هو فيه الآن حالاً، يهمس لنفسه بكلمات مضطربة مثل أحاسيسه ومشاعره، وفوق روحه وقلبه ونفسه طبقات فوق طبقات من الركام القاتم الدامس، طبقات فوق طبقات من الأسود الثقيل تلفّه تحيطه، تحتويه تغزوه، تشعِره بضآلةٍ وصِغَر، تخلع قلبه هلعًا وضياعًا، تخنق روحه من ثقلها الداكن الموحش الذي تتعثر فيه خطواته الوجِلة في طريقه الغريب الذي لا يعرف أولَه ولا آخِره.
"استيقِظ يا نبيل"، يهمس نِصفه المخدَّر لنصفِه اليقِظ، استيقِظ، يتوه أكثر وأكثر. "بعض الأصوات الغامضة الممضوغة تتسلل من بين طبقات الأسود الثقيل وتغزو أذنيك، وتتسلل لمراكز الانتباه في عقلك المرتبِك الحائر، تغزوك بلا معانٍ، بلا فهم، حائرٌ تائه تبحث أنت عن معانٍ تميّز ما تسمعه، لكن كل المعاني لا تفسّر ما يتسلل بوحشته لروحك، ربما بعض الأنين، بعض الهمّ، بعض الدعاء والتمتمة، ربما بعض النحيب والشكوى، ربما صوت القلب المقهور يتوجع. أصواتٌ غامضة ممضوغة تغزوك، فتزيدك هلعًا ووحشة.
أين أنت يا نبيل؟ أين أنت؟ هذا لا يهم، لا يهم أين أنت، أنت في مكان موحِش، يحتله الحزن، بيت هجَره أصحابه فسكنته الأشباح، ماتوا وقت أن أتى أجَلُهم فخَلعهم من الأرض، وترك أشجار الحزن تظلّل جدران البيت المهجور، هاجَروا يأسًا وتركوا أُطُر الصور فوق الجدران المشروخة تحكي عن بشرٍ كانوا ولم يُبقوا مكانًا لعملٍ أكَل منه وفيه أصحابه وتابِعوهم خبزًا وحياة، وسرعان ما أفلس وأطفئِت أنواره، وسُرقت مصابيحه، فصار ما أنت فيه وما تحِسه، قاعة أفراح شهدت جدرانها فرحة وزغاريد، ومشاعر وأحلامًا، وسرعان ما انتشر الحداد فتزوجت الفتيات بلا أثوابٍ وشموع، وتهاوت جدران الفرحة فوق أرضها المتشققة. مستشفى عالجت الكثيرين، لكن الدواء شَح، والأطباء عجزوا عن ممارسة عملهم لكثرة المَرضى وقِلة الإمكانيات، وكثرة الغضب، فعشّشت العناكب على الأسَرّة التي كانت خضراء، وسَرحت القطط تعوي جوعًا في الطرقات الطويلة المظلمة، تبحث عن طعام صغارِها فلا تجده بعدما احتل الموتُ المبنى الذي كان يمنح قاطنيه شفاءً وأملا، لا يهم أين أنت يا نبيل، أنت في مكانٍ موحِش سَكنه الحزن والوحشة وأشباحهما المخيفة.
أنت في المستشفى يا دكتور نبيل، نعم أنت الآن في تلك اللحظة الغريبة، والحوار الداخلي الغريب يعبث في تلافيف عقلك، أنت الآن في المستشفى".
ينتبِه نبيل، يفتح عينيه فتحة صغيرة فرارًا من الظلام، يحدّق في الشاشات، ما تزال تبوح له بسِر الحياة، وتحكي عن الجسد الممزق على الفراش أمامه، والذي ما يزال حيًا. الشاشات تؤكد له أن مريضه ما يزال يتشبّث بالحياة ويناضل من أجلِها، فيطمئن نبيل ويغلق عينيه ويغيب، ويسقط ثانيةً في قاع البئر، ويستأنف حوارَه العبثي ويكمله مع نفسه وسط أضغاث الأحلام وبقايا اليقظة الفارّة وسط الظلام الدامس.
"أين أنت؟ ربما في أي مكان وكل مكان، ربما وربما وربما، وألف ربما، اخترْ أنت المكان الذي تريده، اختر المكانَ وخلفيتَه، ارسم ملامحه ولونَ جدرانه، كبير.. صغير.. واسع.. ضيق، تجوّل فيه حسبما تريد، وحسبما اخترت، اختر أنت المكانَ الذي تريده، ارسم ملامحه فوق طبقات الأسود ولوّنه ببعض الأكاذيب، كما يحلو لك، افعل إنِ استطعت، فِر من الوحشة، فِر منها ولو قليلا، اهرب من قبضتها، من خنقتها، من سطوتها، اهرب بعيدًا، ارسم في خيالك مكانًا أرحب ارحل إليه، مكانًا لا تظلل جدرانَه ولا مساحاتِه الشاسعة سُحب السواد الباكية، وقطرات أمطارها الحمراء المالحة الحارقة. فِر واهرب، حاول أن تلهو قليلا وسط الأحزان، تصوّر نفسك في طائرةٍ نفدَ وقودها، وتكاد تنفجر في الجو، وأنت واحد من ركابها المعلّقين بأحزمة أمانٍ لا تنقذك ولن. تصوّر نفسك داخل تلك الطائرة وتكاد تنفجر فتموت وسط ظلامٍ دامس في السماء المعلّقة البعيدة، أصابعك متيبسة لا تجد مَن يشاركك لمساتِها الأخيرة، تَصوّر نفسك على وشك أن تموت، وابتسِم للرفاهية المخيفة التي تعيش فيها قبل الموت والرحيل، أنت لم تمُت فجأة مثلما مات الكثيرون، أنت محظوظ أن عِشتَ واعيًا بعض لحظات اليقظة المرعبة ما قبل الموت، ابتسِم واعبث قليلا، تصوّر نفسك على سطح عقارٍ قديم يتهاوى، لم يصلحه قاطنوه ورَشا مُلّاكه المهندسين وموظفي الحي فتركوه ليتهاوى بعد أن ارتفع ثمن أرضِه وصار هدمه أملاً يمنح أحلام الثراء للمُلّاك الغاضبين من قوانين تحديد القيمة الإيجارية، لكنك تحب المبنى الذي عاش فيه جدّك وأبوك، وامتد عقْد إيجار شقتِه الفارهة لك ولأولادها، تحِب المبنى إلى حد أنك قررتَ أن تموت فوق سطحه تتهاوى معه ومثله، ومعاول الهدم تخلع أساسَه الراسخ في الأرض، أنت فوق سطح العقار، والظلامُ الدامس يحيط بك، ومعاول الهدم والبلدوزورات تخلع الأساسَ والأعمدة وتدفنك أنت وذكرياتك تحت أطلالِه! في تلك اللحظة، سيلفّك الظلام، وتتناهى لأذُنيك أصوات ممضوغة، ويحتلّك الرعب وطبقات الظلام الموحش، وقتَها ستخاف، مثلك مثل راكب الطائرة التي ستنفجر، مثلك مثل العامل الأخير الذي أغلق مكان عمله ورِزقه واحتفظ بالمفتاح الصدئ في جيبِه؛ علّه يعود ذات يوم، مثل الأشباح التي غزت المنزل الخالي المظلم الموحِش، ستخاف.
لا بأس ببعض اللهو قليلا يا نبيل، ولو حتى أحسست بالخوف، الخوف أجمل، أوضَح، أبسَط من كل المشاعر الموحشة الأخرى التي تحيط بك وسط ركام الأسود القاتم، اعبثْ قليلا وأطلِق العنان لخيالك؛ علّك تحِس ببعض الحياة وسط الأسود.
زهرة حمراء قانية كلون دماء الحبيب الشهيد التي سالت على صدرك، وقت أن احتضنتَه وهو يتأرجح بين الحياة عازفًا عنها، والرحيلِ راغبًا فيها، يومَها ترك لك بصمة حمراء من دمِه على صدرك، هي ذاتها الزهرة التي ستقتحم الأسود وتمنحه بعض الحياة، الحياة الصعبة نعم.. لكنها حياة رغم كل شيء.
اعبثْ قليلا وأطلِق لإنسانيتك العنان، مِن حقك ولو قليلا أن تشعر بعض الإنسانية، بعض الفرحة، بعض الرهبة، بعض البهجة، بعض الأمنيات في أن ينقشع الأسود ويحل عن روحك وعالمك. اعبثْ قليلا واستعِد بعض إنسانيتك، واشعرْ بالخوف، نعم الشعور بالخوف إنسانية أجمل من البلادة والركود والركون للاشيء!
نعم ما تحِسه هو بعض الخوف، هذا هو الخوف، الخوف الذي يحيطك ويلفّك، يحتل روحَك ونفسك، يخطفك لطبقات من الظلام الموحِش، يفسد كل المعاني في عقلك المتعَب ورأسك المتصدع، تسمع فلا تفهم، وترى فلا تبصِر، وترتعد وترتعد!
أنت في أرض الخوف، حيث كنتَ، وأينما كنت، أنت في أرض الخوف، لماذا لا تجري؟ لماذا لا تفِر؟ لماذا لا تهرب؟ ولأين تهرب وتجري؟ ولأين تفِر والكون كله في تلك اللحظة التي يسرقك الخوف فيها، الكون كله يتحول للحظة خوفٍ كثيف؟! ربما تسبق الموت، وربما تفسد الحياة، وربما تبلّد المشاعر وتطفئ نور العيون والقلوب، أنت في تلك اللحظة تعرف أنك خائفٌ يائس لا أمل لك ولا فيك، الخائف ميّت مهما نبض قلبُه، ومهما تسارعت أنفاسه، أيها الحائر تبحث عن مكانك، أنت في أرض الموت".
ويرتبِك نبيل، ويفتح عينيه وسط غياهب الظلام متحسسًا وجودَه.. أين أنا؟
وما تزال الحيْرة تؤرجحه، والترقب يتمكن منه، والوقت ما يزال بطيئًا بطيئًا.
(5)
وكأنه كاد يسقط مِن فوق سطح العقار، بل كاد يسقط فعلاً، تَعثّر في خطواته غاضبًا من أمّه لأنها دائمًا تذكّره بموت أبيه وغيابه عن حياته، وأن إمكانياتِها المادية لا تسمح لها بما يرغب فيه
وكفايه اللي انا عايشه فيه-
المشاجرة بدأت لسببٍ لا يذكره الآن، طلب منها شيئًا ما فرفضت كعادتها، صرخ فيها غاضبًا لأنها دائمًا ترفض تحقيق طلباتِه، صرخت فيه لأنه دائمًا لا يفكر إلا في نفسه، ولا يفكر فيها ولا في الحياة الصعبة التي يعيشانها، صرخ فيها أنه لا ينسى أبدًا الحياة الصعبة التي يعيشانها، لكنه يتمنى أن تساعده ليعيش حياة مختلفة، وأن طلباتِه بسيطة، ومِن حقه مرة واحدة أن تحققها له. هي تصرخ، وهو يصرخ، أرملةٌ لم يغادرها الحزن، ومراهِقٌ متمرد.
هي تصرخ وهو يصرخ، تتمنى أن تخبِره عن أحزانها يوم مات إسماعيل، وتركَه وحيدًا، وتركها وحيدة، تتحكم فيها وفي حياتها وفي أيامها الصعبة، وفي ابنها، أهواؤها وعصبيتها المنفلِتة وحزنها المقهور. يتمنى أن يسألها لماذا ترفض دائمًا كل طلباته البسيطة، ولا تحقق له أيًا منها مهما كان يسير!؟ وتتمنى أن تخبِره، ويتمنى أن يسألها.. لكن الصمت والصراخ هُما الممكنانِ بينهما دائمًا
-انا مقدرش على كده، مقدرش على كده
هل كانت نجوى تعلَم أنها تضغط على البركان المكبوت داخله لينفجر؟ هل سمِعت صوت حزنِه مكبوتًا بداخله؟ لماذا تذكّرينني بموتِه ورحيله ويُتمِي؟ لماذا تذكّرينني أني لست مثل كل الأطفال الآخرين؟ لماذا تذكّرينني؟
صرخت فيه ليكفّ عن الضغط عليها، انفجرَ مِن كثرة ضغطِها عليه، وفَتح الباب وصعد مهرولاً على السلّم صوب السطح، يفِر من صراخها وبكائها ومِن حياته، صعد للسطح غاضبًا، سيرمي نفسه لتستريح منه ومن طلباته، وليستريح منها ومن دموعها! إنها هرمونات المراهَقة اللعينة التي فارت واندفعت في عروقه، فأثارت أعصابه، فلم يدرِ بنفسه. في ذلك اليوم لم يتعاطف معها، ولم يبكِ لبكائها، ولم يحزن لحزنها، في ذلك اليوم أحسها تقهره، وكأن كل ما عاشه من قهر لا يكفيها. فَتح باب الشقة وردّه بعنف غاضبًا، وصعد مهرولاً للسطح، سيقذف بنفسه وينهي الأمرَ كله؛ علّها تستريح أو تجد مبررًا لتبكي أكثر وأكثر.
وصفي انتبَه لصوت ارتطام الباب، وفردوس فزعت وضربت على صدرها
-ياساتر يارب!
زين اندفع صوب الباب وفَتحه، وصعد على السلّم بسرعةٍ واندفاع، يبحث عن نبيل، بل ويناديه وكأنه عرَف بالمشاجرة مع أمه، وكأنه شاهد غضب نبيل وعروقَه النافرة ووجهه المحتقِن، لم يفكر زين ما الذي يحدث، ولم ينتظر ليعرف مبرر الغضب وسبب المشاجرة، هرع صوب السطح، بابُه الخشبي الصغير مفتوح، دار بعينيه بسرعة يبحث عن نبيل، كان نبيل غاضبًا يشيح بذراعيه وكأنه يفك أسْر نفسه من أسْر الأشباح الشريرة، كأنه سيحلّق فوق السطح صوب الفضاء، صرخ فيه يناديه
-نبيل.. نبيل!
اقترب نبيل أكثر من السور المنخفض لا يبالي بأي شيء، سمع صوت زين ولم يكترث، ومادت به الأرض من شدة الغضب، وتَعثّر في بلاطة مخلوعة فكاد يقع، كاد يقع على أرض السطح، لكن زين تَصوّره سيهوي مِن فوق العقار، طار زين، نعم هذا هو ما أحسّه نبيل، أن زين قفز من مكانِه قرب باب السطح محلقًا في الهواء صوبَه، وأمسك ذراعه بشدة، وحمله منه بمنتهى القوة الغريبة التي دبّت في جسده وروحه. في تلك اللحظة شاهده زين وهو يهوي ميتًا على رصيف العقار، وتتبعثر جثته وسط السيارات المسرعة، صرخ بصوتٍ هادرٍ
– نبيل!
طار صوبَه، قبض على ذراعه وأبعده عن السور وقذف به على الأرض، وأخذ يصرخ فيه
– بتعمل ايه؟ فيه ايه؟ ليه كده؟!
وفاقَ نبيل من غضبِه الجارف المحموم على غضب زين وخوفِه عليه، نعم زين خاف عليه فانتشلَه من أرض السطح الخشنة التي كاد يسقط عليها، أو أنقذه من الهاوية التي كان سيسقط فيها، وجلسا على الأرض متجاوريْن يبكيان.
حب زين الجارف مسّ شغاف القلب المحروم من الحنان، فبكي نبيل متأثرًا بكل ما يعيشه، أمّا زين فبكى لأنه أفلح في أن ينقذ صديقه من الوقوع والسقوط، ولو كان على أرض السطح الخشنة، كانا يبكيان صامتيْن، لا يشرح أحدهما للآخر ما يشعر به؛ لأن كلاً منهما في تلك اللحظة كان يدرِك ما في صديقه
يخرب بيتك يا نبيل، خضّيتني بجد!-
ويبكيان .. وزين ما يزال ممسكًا بذراع نبيل، وكأنه سيفِر منه، وظلّ زين ينتشل نبيل من كل عثراتِه ممسكًا بذراعه بقوةٍ وحب.
(6)
الجدران خضراء شاحبة صامتة، والإضاءة بيضاء أكثر شحوبًا وخرسًا. الهواء ثقيل، بعض الحزن، وبعض الرعب، بعض الحياة، وبعض الموت، كل ذلك يخيم على الرجليْن في نفس اللحظة بطرقٍ مختلفة. إمّا سيفلحان معًا، إمّا يفشلان معًا … إمّا ينتصران معًا، وإمّا يُهزمان معًا.
وما تزال النتائج بعيدةً، والطمأنينة كذلك، وما يزال الليل طويلاً مرعبًا، والانتظار كذلك.
"الانتظار مخيف.. تنتظر ما لا تعرفه ولا تدركه، سيداهِمك ويحطم عظامك، سيفزع طمأنينة نفسك ويأسر روحك، سيداهمك ما تخاف منه فتخاف أكثر.. الانتظار مخيف"! يهمس نبيل
يبتسم زين، أو يظنه نبيل يبتسم
-خالتي فردوس بتقول اللي تخاف منه ما يجيش أحسن منه
يبتسم نبيل ابتسامة صغيرة، ويقول
-مستبيَع؟! انت طول عمرك مستبيَع
يهمس عم وصفي
-اللي يخاف من العفريت يطلع له
-واللي مايخافش ياعم وصفي؟
-اللي ما يخافش يعيش، والحياه ياما فيها وفيها
يحدّق نبيل في زين النائم أمامه ينتظره أن يستيقظ.
"افتح عينيك وانظر لي، ابتسِم سعيدًا مطمئنًا لأني بجوارك، افتح عينيك وانظر لي، طمئني، قُل لي لا تخَف، مثلما قلتَها لي مئات المرات، قُل لي إن كل شيء سيكون على ما يرام، مثلما حدث وصار، افتح عينيك يا زين وانظر لي، افتح عينيك وقُص علىّ ما الذي حدث فيك وكيف حدث؟! كيف انهار المبنى فوق رأسك، وحطّم ضلوعك، وفجّر طحالك، وكاد يجبرك على الرحيل؟ افتح عينيك وقُص علىّ ما الذي كنتَ تفعله في مكتبك في ذلك الوقت؟ كيف أفلحت الدبابير في أن تزِنّ فوق المبنى وتلقي دانتَها عليه فتحطمه بانفجارٍ هائل؟! احكِ لي ما الذي حدث، قُل لي، مِن أين أتتك الضربة؟ مَن الذي وشَى بك؟ وكيف علِموا بالاجتماع الكبير الذي كنتَ تعقده؟ وكيف علِموا بميعاده؟ قُص على ما الذي حدث، افتح عينيك يا زين وانتصِر عليهم، انتصِر عليهم، أخبِرهم أنهم لم يفلِحوا في أن يخطفوا حياتك، وأنك شُفيت، وأنك ستعود لتقاتلهم وتنتصر عليهم، افتح عينيك يا زين وحدّثني"
لكن زين نائمٌ صامِت، لم يأتِ وقت البوح بعد، وحتى وقت أن يفيق سيبقى صامتًا، لن ينطق، هذه أسراره العسكرية، هذا ما أؤتمِن عليه ولن يذيع له خبرًا.
"ما الذي حدث؟ حدثَ ما حدث يا نبيل وماذا؟ لا شيء، سننتصر، بيقين وبثقة، وبإصرار قلبٍ شجاع، سننتصر."
"افتح عينيك يا زين، وأخبِرني أنك ستنتصر، أخبِرني أنهم أبدًا لن يهزموك، وأنك ستنتصر عليهم، وأن العبرة بمن يضحك أخيرًا.
يتوسل إليه ويرجوه أن يفيق ويشفى، ويعود لساحة القتال، ويحارب وينتصر، يتوسل إليه ويرجوه، لكن زين ما يزال صامتًا لم ينطق بعد.
وما يزال الانتظار مخيفًا، والليل طويلاً، والشمس لم تشرق بعد، ولا الطمأنينة أيضًا.
(7)
في الحلم أتاه زين، كانا معًا، طفليْن صغيرين، أتاه يحمل طائرة ورقية ملوّنة بذيلٍ طويل، صعدا بسرعة للسطح، أطلقا الخيط فحلّقت الطائرة في السماء، تمنى نبيل لو يمسِك طرف الذيل ويحلّق معها، يخترق السحب وطبقاتِ الضباب الكثيف، يصل للشمس ويختبئ ببراءةٍ بين أشعتها الدافئة، تمنى نبيل لو اعتلى الطائرة الورقية، وحلّق في السماء، زين يقبض على بَكرة الخيط يمد منه للطائرة ما يعاونها لتحلّق وتتمايل، زين على السطح راسخٌ كالسنديانة العجوز، هيبته لا تتناسب وسنوات عمرِه البريئة وقت أن زار نبيل في الحلم، زين كالسنديانة العجوز، ونبيل كطائر الهدهد، يحلّق ويهبط، ينقر في الأرض ويتمايل بتاجه الممشوق ارتباكًا، في الحلم تمنى نبيل لو حلّق بجناحيه صوب الشمس، سيسألها عن أبيه، وهل يسكنها ويعيش في وهجها حيًا؟ سيسألها عن أبيه وعن الأوسمة التي مُنِحت لروحه وقت أن رحل تاركًا بدلتَه العسكرية ملطّخة ببعض بقعِ دمِه ووجوده، سأل زين
-ينفع أطير؟
أرخى زين الخيط أكثر وأكثر، وحلّقت الطائرة الورقية أعلى وأعلى، هز رأسه نفيًا
-وتطير ليه؟
يتابع نبيل ببصره الطائرةَ ترتفع وترتفع
– زيّها كده، أطلع لفوق لفوق
بأسىً سأله زين، لا ينتظر إجابته
-ليه دايما تتمنى المستحيل اللي ما نقدرش عليه؟
ما يزالان في الحلم صغيرين، أتتهما فتاة صغيرة بشعرٍ أسودَ ناعم ينسدل على كتفيها، وتتطاير بعض خصلاته تاجًا فوق رأسها، أتتهما فتاة صغيرة، تمنى زين لو مَنحها بَكرة الخيط لتلعب معهما، تمنى نبيل لو حلّق معها صوب الشمس، تمنى زين لو قَصت عليه وجعها المرسوم على ملامحها، تمنى نبيل لو قَص عليها أوجاعه ويُتمَه
مايا؟-
سأل نبيل، وابتسم زين، فهزت مايا رأسها وقالت
نعم أنا هي-
ما تزال الطائرة تحلّق عاليًا، وما تزال الصغيرة تقف بينهما تتابع الطائرة ترتفع في السماء، وما يزال نبيل ينتظر أن تنبت أجنحته ليحلّق، وما يزال زين كالسنديانة العجوز، وما تزال هي نضِرة بريئة لولا بعض الدموع المتحجرة في مقلتيها. صرخ نبيل
-انتي ليلى؟
هز زين رأسه نفيًا
ليلى كبيرة يا نبيل، كبيرة، واحنا لسّه صغيرين-
تمنى نبيل لو كبرَ بسرعة وصار رجلاً مسئولاً يتقدم للزواج من ليلى
– ليلى كبيرة ومسئولة يا نبيل، وانت لسّه صغيّر، حتى بأمارة ما انت عايز تطير زي الطيارة دي
ابتسم نبيل كأنه لا يسمعه
-هي كمان تطير معايا
اشتبكت الطائرة في عمود كهرباء عالٍ، دارت حوله بخيطها مرةً واثنتين، وأُسِرت تحت لمباتِه الساخنة، بكى نبيل لأن أحلامه تكاد تتحطم، حاول زين بالخيط مرةً واثنتين أن يحركها بعيدًا، لكنه فشل، لم ييأس، استمر في محاولاته مرة واثنتين، يحيطه بكاء نبيل وصوت حزنِه. ما يزالان في الحلم، وما يزالان صغيريْن، وما تزال الطائرة معلّقة على عمود الكهرباء العالي، وما تزال الصغيرة تتابع كل ما يحدث
-أنا مايا ابنة الشهيد محمد المبروك
صرخ نبيل مندهشًا
-نورة ….
ابتسم زين قائلا
-مايا يا نبيل.. مايا
تمنى نبيل لو كبرَ بسرعة في الحلم واحتضنها، تمنى لو كبرَ بسرعة واحتضنها مثل نورة، تمنى لو كان في المستشفى وقت أن وصلت جثة الشهيد؛ علّه ينقذه، اجتاحه العجز في الحلم، وأحس أنه يدور في دائرة مفرغة، الطائرة اشتبكت في الفضاء بعيدةً عن يديه، بعيدةً عن قرص الشمس، والشهيد مات قبل أن يُخرِجوه من سيارته، فحُرِم من محاولة إنقاذه، وليلى فرّت من حبّه ومن حضنه وتركته يبكي في الحلم وفي الواقع. في الحلم مات زين، سَقط مِن فوق سطح العقار، حاولت مايا أن تنقذه، بقي نبيل يناديه ويبكي، حاولت الطائرة الورقية أن تمزق خيوطَها وتفِر من أسْر عمود الكهرباء، وتلقي خيطَها لزين ليمسِك به فلا يسقط على الأرض، ولا تتحطم جمجمته، ولا تتفتّت عظامه، حاولت الطائرة الورقية ولم تفلح، وحاولت مايا وفشلت، وحاول زين أن ينقذ نفسه ويحرك ذراعيه كأجنحة الصقور ليهبط على الأرض بسلامة، لكنه فشل، فقط نبيل الذي لم يحاول شيئًا، وصديقه وأخوه يهوي مِن فوق سطح العقار ويسقط ويموت! فقط نبيل لم يحاول شيئًا، وكيف يحاول والدموع تملأ مقلتيه؟ وذكريات الوجع القديم، كلها تطارده؟ تمنى أن يهمس ل مايا أنه مثلها، أبوه شهيد، وأنه مثلها يحتفظ في خزانة الملابس ببدلة أبيه، وعليها بعض دماء، تمنى أن يهمس لها أنه أخوها في الوجع، وشريكها في الحزن، لكنه لم ينطق، وكيف ينطق وهو يصرخ خوفًا وهلعًا على زين الذي يهبط للأرض وسيموت بسرعة؟!
ما يزالان في الحلم، زين سيموت، ومايا تراقب كل ما يحدث؛ علّها تفهم لماذا اغتالوا أباها؟! ونبيل يبكي ويبكي.
وانتفض مكانَه غير مصدق
-لا.. زين مش حيموت، مش حيموت!
يصرخ بصوت عالٍ
-قوليلُه يا ليلى، قوليله ما يموتش، قوليله يستنّى معايا
انتفض مكانَه متصورًا أنه استيقظ من نومِه، لكنه ما يزال نائمًا، وما تزال الأحلام تطارده، يصرخ..
!-زين مش حيموت
فَتح عينيه مفزوعًا، دار ببصره بسرعة في الغرفة الصغيرة التي ينام في صدرها زين جسدًا منهَكًا ممزقًا، يحاول علاجَه وإنقاذه وإنقاذ حياتِه. حدّق في زين الغائب يصارع الحياة لينتصر عليها، حياته الأسيرة في عمود الكهرباء العالي تصارع الأسْر، وتتوق للتحليق، يحدّق فيها وهو يصرخ بصوت مكتوم
لا.. زين مش حيموت-
واقترب مِن رأسه وهمس
!اوعى تفتكر إنك حتسيبني وتموت، اوعى تموت يا زين، اوعى تموت –
وما تزال صفحة زين لم تطوِها الأحزان بعد، وما يزال نبيل يقِظًا ونائمًا يحارب مِن أجل حياة زين وصفحتِه الدافئة في كتاب حياتِه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.