قال لها: «انتظرتك كثيرا، والآن يملأ الخوف قلبي».. صمت بعدها قليلا، وشردت عيناه، وكأنه رأى مستقبلا قريبا لصغيرته بدونه، فردّت: «لا تتركني يا أبي.. فأنا أحبك».. فاحتضنها وقبّل جبينها، ووضعها بين ذراعي والدتها، وتحرك متثاقلا حتى وصل باب الغرفة، ثم استدار برأسه وهمس: «أنا كمان بحبك يا ليلى.. بحبك أكتر من كل حاجة في الدنيا.. سامحيني يا بنتي». أتمّت «ليلى» يومها العاشر في هذه الدنيا، وكان مقررا ل«سبوعها» الخميس المقبل، إلا أنها كانت تحدث والدها وهي في المهد، حديثا لم يسمعه أحد سواه، ووسط الاستعدادات والزينة ودندنة الأقارب والجيران: «يارب يا ربنا.. تكبر وتبقى قدنا»، كان حوارا ثنائيا خاصا يدور بين «ليلى» ووالدها النقيب ماجد عبدالرازق، يعلم كل منهما أنه الأخير، ولكنهما كتما السر ولم يبوحا به لمخلوق، تعاهدا على الحب والإيمان بقضاء الله وارتضت قلوبهما بالفراق طالما كان في سبيل الله والوطن. في السابع من أبريل، ارتدى النقيب ماجد أحمد عبد الرازق محمد، «بدلته الميري»، وتحرك نحو باب المنزل قاصدا الذهاب إلى عمله، وكانت «ليلى» مستيقظة تبكي وكأنها تودعه، كانت تعلم أن النهاية اقتربت، وأن الحديث بينهما انتهى، كانت تتوسل إليه أن يبقى، وكان يقول لها: «أنتِ قوية يا ليلى، صلبة، ستتحملين الفراق، وستكونين عونا لوالدتك، حتى نلتقي يوما ما.. وداعا يا حبّة الكبد». كان القمر ينتحب، متخفيّا خلف سحابة ثقيلة سوداء، غطت سماء النزهة بالقاهرة، عندما ترجل البطل من سيارة الشرطة نحو القدر، وكان خسيسان يجلسان داخل سيارة سوداء قاتمة كقلبيهما، يجري في عروقهما ندالة ممزوجة بقبح وحقد، وعداء للإنسانية، كزرع شيطاني يتغذى على استباحة الأرواح والأنفس، تحرك نحوهما بقلب مطمئن مؤمن، وفي مسامعه صوت ليلى: «لا تتركني يا أبي.. أنا أحبك»، وحين كانت النيران تخترق جسده كان يبتسم وكأنها بين أحضانه تُقبل عينيه. ساعات قليلة مرت، وأُذيع نبأ فراق «ليلى» ووالدها البطل رسميا، وبدأ الحزن يزحف نحو منزل الشهيد، مصحوبا ببكاء ودموع الأقارب والجيران، إلا أنها بدت أكثر قوة، تخفف عن والدتها المكلومة: «لا تخافي يا أمي»، تتنقل بين أذرع الحاضرين وقد اتشحوا بالسواد: «لا تحزنوا.. إن أبي يخبركم أنه في الجنة، مع الشهداء والصديقين، وبجوار جدي الشهيد». «ليلى» ابنة العشرة أيام، في جنازة والدها، بوجهها المشرق وسترتها البيضاء، ذهبت لتُطمئن والدها في نهاية رحلته: «أنا هنا يا أبي.. هل تراني وسط هذا الزحام؟، جئت لأودعك، ولأخبرك أننا على عهدنا ما حييت». « يا أبي.. أنا لا أفهم معنى الموت، ولكن أعلم أنه منعك من العودة إلى البيت كل ليلة لتحتضنني وتقبل جبيني، وتهمس في أذني لتخبرني بحبك.. عرفته يا أبي وعمري 10 أيام، شممت رائحته وسمعت صوته، وتنبأت بأنه سيأخذك بعيدا عني.. عرفت يا أبي كل هذا عن الموت.. سلاما يا أبي.. ابنتك ليلى».