جمال عبدالناصر على منصة مجلس الأمة في الحلقة الماضية أشرنا إلي أن مجلس قيادة ثورة 2591، وضع »إقامة حياة ديمقراطية سليمة« هدفا من أهداف الثورة الستة.. وعندما صدر الدستور المؤقت عام 6591، فرح الناس وهللوا، وحتي أسرفوا في الأماني.. فتصوروا أن الحكم سيعود للشعب، وأن طوائف الشعب ستنتخب ممثليها في أول مجلس للأمة بعد قيام الثورة، يكون مسئولا عن حماية الشعب. لكن الرئيس جمال عبدالناصر حول حلم الديمقراطية، إلي حلم زائف.. وأقام ديمقراطية، ولكنها ديمقراطية زائفة.. فلم يكن عبدالناصر يعرف غير صورة واحدة للحكم هي الحكم الشمولي القائم علي ديكتاتورية الفرد.. ومع بدء المعركة الانتخابية وقع أول اعتداء علي الحريات.. فقد تقدم للترشيح في بعض الدوائر الانتخابية بعض أعضاء مجلس الثورة ووزراء وضباط قيل إنهم من الضباط الأحرار ... وتقدم للترشيح في نفس الدوائر مواطنون عاديون من أبناء هذه الدوائر.. مواطنون صدقوا أن من حقهم تمثيل أبناء دوائرهم التي عاشوا فيها سنوات عمرهم. وفجأة أصدر عبدالناصر بصفته رئيسا للاتحاد القومي قرارا بغلق بعض الدوائر علي مرشح واحد.. هو من رجال السلطة.. وكانت تلك أول ضربة في الصميم توجه إلي الديمقراطية. وترتب علي ذلك أن نجح مجدي حسنين الذي كان يعتبره عبدالناصر من أخلص المخلصين له وهكذا كانت بداية الديمقراطية المزيفة. كان مجدي حسنين مديرا لمديرية التحرير، ووجه عضو المجلس عبدالمجيد عامر سؤالا عن استصلاح الأراضي وتناولت مناقشة السؤال مديرية التحرير والتصرفات المالية المشبوهة التي تتم فيها والاعتمادات الكبيرة التي تنفق ولا تؤدي إلي أي ثمار.. بعدها بأيام نشرت الصحف خبرا صغيرا مفادة أنه تم تعيين ثلاثة من أعضاء مجلس الأمة كمستشارين في مديرية التحرير بأجر.. ونقل سيد جلال عضو مجلس الأمة عن دائرة باب الشعرية إلي رئيس المجلس عبداللطيف البغدادي رغبته في تقديم سؤال في المجلس حول تعيين هؤلاء المستشارين الثلاثة باعتبار ذلك رشوة من مجدي حسنين لشراء صمت المجلس. إبلاغ عبدالناصر يقول عبداللطيف البغدادي رئيس مجلس الأمة حينئذ: قبل بدء الجلسة اتصلت بعبدالناصر بالتليفون وأبلغته بالأمرين.. قلت له إنني سأتحدث عن حرية الصحافة وأن المجلس لايمكنه أن يحد من هذه الحرية.. فوافقني.. وقلت له إنني أيضا سأثير موضوع الأعضاء الأربعة وإحالة موضوع فصلهم إلي لجنة الشئون الدستورية.. فقال لي: اسمع يابغدادي.. كل واحد منهم يعتذر ويكتفي المجلس بتوجيه اللوم لهم.. وبلاش حكاية الفصل دي. فرددت عليه: أنا سأتبع لائحة المجلس.. واللجنة هي التي تقرر ماتشاء .. فقال بضيق: طيب.. وفعلا أفتتحت الجلسة بعد هذا الحديث وبمجرد عقد الجلسة قلت: إننا نشهد الليلة أمرا خطيرا بالغ الخطورة.. طلب عشرة من حضرات الأعضاء إسقاط العضوية فورا عن أربعة أعضاء هم: مجدي حسنين ومحمود القاضي وأحمد شفيق أبوعوف واسماعيل نجم. ثم تحدثت عن الرسالة التي بعث بها رئيس لجنة الصناعة وقلت مامعناه إن رئيس المجلس لا يتدخل في حرية الصحافة إلا إذا مست فعلا كرامة أعضاء المجلس، أما الأعضاء الذين لايحافظون علي كرامة المجلس فليس من واجبي أن أحميهم ماداموا هم الذين فرطوا في كرامتهم بتصرفاتهم. وواصل البغدادي قائلا: وبدأت مناقشات عنيفة.. وطلب كل من الأعضاء الثلاثة محمود القاضي وأحمد شفيق أبوعوف وإسماعيل نجم الكلمة للدفاع عن نفسه.. وأعطيت الكلمة لمحمود القاضي.. وتحدث مدافعا عن نفسه، قال إنه كان في زيارة لمديرية التحرير وأبدي بعض الملاحظات في العمل أعجب بها مجدي حسنين فعرض عليه أن يكون مستشارا مقابل مكافأة لاتزيد علي 084 جنيها سنويا.. وأن هذا التكليف كان يوم 02 أغسطس وقبل إحالة الموضوع إلي لجنة تقصي الحقائق. ويستطرد البغدادي قائلا: وعلي الفور أرسلت أحد موظفي المجلس بورقة لمعرفة تاريخ إحالة موضوع مديرية التحرير إلي لجنة تقصي الحقائق.. فعاد بعد دقائق يحمل الرد وأنه كان يوم 21 أغسطس، أي قبل قرار تكليف العضو بالعمل في المديرية.. وكان العضو مايزال يتكلم مدافعا عن نفسه مبديا اعتذاره عن قبول العمل.. وقدم في تلك الجلسة 71 اعتذارا وهو يتحدث.. وبعد أن انتهي من كلامه قلت: العضو يقول إن تكليفه بالعمل في مديرية التحرير كان يوم 02 أغسطس وقبل إحالة الموضوع إلي لجنة تقصي الحقائق.. وأنا أرسلت للتأكد من موعد إحالة الموضوع فتبين أنه كان يوم 21 أغسطس. وحدث هرج وتعالت أصوات تقول: دي رشوة.. لازم يفصل.. فأعدت النظام للجلسة وأعطيت الكلمة للعضو الثاني وهو أحمد شفيق أبوعوف.. وتحدث أبوعوف علي أساس أن علاقته بمديرية التحرير نشأت من قبل عضويته في مجلس الأمة بسنوات بحكم أنه كان ضابطا بالقوات المسلحة ومجدي حسنين زميلا له.. وأنه كان يعد لها الألحان والأناشيد بدون أي مقابل ثم عين مستشارا موسيقيا لها بمكافأة شهرية 52 جنيها وهو مبلغ ضئيل لايوازي مايقدمه من ألحان، حيث إنه يتقاضي من الإذاعة أكثر من ذلك بكثير.. وأضاف أنه لم يكن يعرف أن قبوله ذلك فيه مساس بكرامة المجلس ولم يخطر علي باله هذا الخاطر. وعقب ذلك تحدث العضو الثالث إسماعيل نجم مدافعا عن نفسه، نفي علمه نهائيا أنه عين مستشارا قانونيا لمديرية التحرير.. وقرر أنه حدث إشكال بين فرع المديرية في الاسكندرية وبعض الأفراد وأنه تدخل بصفته عضوا في مجلس الأمة عن الدائرة التي يقع فيها مقر فرع المديرية محل الإشكال وفوجئ بإرسال المديرية له مكافأة عن عمله.. وأكد أنه لاعلم له بصدور قرار تعيينه في المديرية. مناقشات عنيفة ودارت مناقشات عنيفة.. بعض الأعضاء كان يري أن يصدر المجلس قرارا بفصل الأعضاء الثلاثة علي أساس أنهم مرتشون، وفصل مجدي حسنين علي أساس أنه الراشي، والبعض طالب أن يحال الموضوع إلي لجنة الشئون الدستورية وكان يرأسها محمد محمود جلال للتحقيق وتقديم تقريرا إلي المجلس خلال 84 ساعة.. وفاز الرأي الثاني بالأغلبية وأحيل الموضوع إلي اللجنة للتحقيق.. ويضيف البغدادي: كنت أريد أن أرسي قواعد دستورية في البلد وأن المنحرف مهما كان مركزه يجب أن يلقي جزاء انحرافه.. ولكن ليس كل مايتمناه المرء يدركه. لقد بدأت اللجنة عملها في نفس الليلة واستمعت إلي أقوال الأعضاء الثلاثة.. وعكفت في اليوم الثاني علي كتابة تقريرها.. وفي ذلك اليوم اتصل بي زكريا محي الدين تليفونيا وقال لي: الريس بيقولك بلاش المجلس يفصل مجدي كفاية يفصل الأعضاء الثلاثة.. فرددت عليه: أنا يازكريا لا أتدخل في أعمال المجلس. فقال لي: طيب اتصل بالريس في القناطر وبلغه ذلك فاتصلت بجمال عبدالناصر في استراحة القناطر وعندما سمع صوتي قال لي: يابغدادي أنا شايف بلاش حكاية فصل مجدي حسنين لأنه منهار جدا وكلمني وهو منها تماما. فرددت عليه: إن بقاء مجدي وفصل الأعضاء الأخرين سيفسر علي أنك تسانده وتؤيد الانحرافات.. وأنا شايف أننا نترك المسألة لتقدير اللجنة.. فقال بسرعة: طيب.. لك حق. وفي نشرة الأخبار بالإذاعة في الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر نفس اليوم أذيع نبأ عزل مجدي حسنين من إدارة مديرية التحرير. وفي اليوم التالي.. الأربعاء 6 نوفمبر المحدد لسماع تقرير لجنة الشئون الدستورية المتضمن نتيجة تحقيقها.. وقبل موعد الجلسة ذهبت إلي جمال عبدالناصر في منزله بمنشية البكري وكان زكريا محي الدين موجودا.. وقلت له: أنا سمعت من بعض أعضاء المجلس أن اللجنة وجدت أن الأعضاء قد أخطأوا وبذلك فإنها ستري فصلهم. فرد علي قائلا: بلاش حكاية الفصل دي.. كفاية إنهم يعتذرون ويقدم لهم اللوم.. وهو نفس الرأي الذي سبق أن أبداه.