جمال عبدالناصر .. يتحدث فى مجلس الأمة كان من بين أهداف الثورة: (إقامة حياة ديمقراطية سليمة) .. لكن ناصر حولها إلي ديمقراطية مزيفة مايزال تاريخ مصر مليئا بالمجهول.. هناك علامات استفهام كثيرة لأحداث مرت بها بلادنا ولم تكشف الحقائق عنها.. ومازال البعض وهم قلة ولله الحمد يحاولون أن يزيفوا التاريخ وشخصياته التي عاشت بيننا عدة سنوات.. فيصورون شخصا بأنه القائد الملهم.. ويصورون غيره بأنه عميل ويلصقون به أحط الصفات. والفرق بين القائد الملهم والآخرين.. أن القائد الملهم وجد من يكتب عنه الأكاذيب ويبرر حتي الجرائم التي كان يرتكبها.. بينما الآخرون لم يجدوا من يكتب عنهم بصدق.. أو أنهم لم يمنحوا الفرصة ليقولوا كل شيء وينشروه ليعلمه الناس. وهذا الجهد محاولة متواضعة لإزاحة الستار والغموض عن بعض الأحداث التي عاشتها مصر في تاريخها الحديث والقديم.. محاولة لإعطاء كل شخص قدره الحقيقي وإبراز ملامح صورته الحقيقية.. ليس فيه تجن علي أحد.. إنما هو سرد واف للأحداث كما رواها أبطالها الذين صنعوها أو شاركوا فيها، هنا وهناك، أحداث عشناها ومرت بنا وتركت لنا كثيرا من التساؤلات. لعل قضية الديمقراطية هي واحدة من أخطر قضايا الشعوب.. فالأمم التي أخذت بالديمقراطية نهضت وعاشت حياة سليمة خالية من الأمراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. والأمم التي حرمت من الديمقراطية ولم تذق حلاوتها ظلت في الدرك الأسفل.. لاهي نهضت، ولا صعدت.. وإنما ظلت تتخبط وتتراجع ولم تقم لها قائمة. ولقد كان مأمولا أن تشهد مصر بعد ثورة 2591 حياة ديمقراطية سليمة تدفع بنظامها السياسي إلي الأمام وتحررها من أغلال الاستبداد والديكتاتورية، خاصة أن ذلك كان ضمن الأهداف الستة المعلنة للحركة صبيحة يوم 32 يوليو. لكن ذلك.. لم يحدث .. بكل أسف! لقد تحول حلم الديمقراطية المنشود، إلي ساحة للديكتاتورية وحكم الفرد.. وراح ضحية ذلك أمل النهوض والصعود وانتهي الأمر بهزيمة عسكرية مخزية.. وتعالوا نتابع الأحداث. الديمقراطية المزيفة صدر الدستور المؤقت عام 6591.. سيعود الحكم إلي الشعب.. ستنتخب طوائف الشعب ممثليها في أول مجلس للأمة بعد قيام الثورة يكون مسئولا عن حماية الشعب. ستجري انتخابات حرة مائة في المائة.. سيستطيع كل مواطن أن يدلي بصوته دون خوف أو إرهاب.. الثورة حررت الفلاح من الإقطاع.. أصبح صوته حرا يعطيه لمن يشاء.. الثورة رفعت من مستوي معيشة الفرد.. أصبح في استطاعته ألا يبيع صوته لمرشح مقابل مايدفعه من ثمن. إنها أول مرة تجري فيها انتخابات ستعبر تعبيرا صادقا عن إرادة الشعب في اختيار ممثليه. هكذا عاش الناس الآمال العريضة. وفوجئت مصر بالعدوان الثلاثي بعد شهور من صدور الدستور المؤقت.. وتأجلت الانتخابات لحين طرد العدو من مدن القناة بعد أن احتلها.. واحتفلت مصر بالنصر يوم 32 ديسمبر سنة 6591 بخروج قوات الاحتلال.. وبدأ الاستعداد للحياة الحرة الديمقراطية التي وعد بها عبدالناصر الشعب المصري بعد أن حل مجلس الثورة في يونيو 6591. ولكن الفرحة لم تكتمل.. طارت وتبخرت في الهواء.. فقد بدأ أول اعتداء علي الحريات مع بدء المعركة الانتخابية.. كان قد تقدم للترشيح في الدوائر الانتخابية أعضاء مجلس الثورة ووزراء وضباط قيل إنهم من الضباط الأحرار.. وتقدم للترشيح في نفس الدوائر مواطنون عاديون من أبناء هذه الدوائر.. مواطنون صدقوا أن من حقهم تمثيل أبناء دوائرهم التي عاشوا فيها سنوات عمرهم.. مواطنون أحسوا أنهم سيخدمون الدوائر، أحسن من غيرهم من المرشحين من رجال الحكم. قرار بإغلاق الدوائر! وفجأة أصدر عبد الناصر بصفته رئيسا للاتحاد القومي قرارا بغلق بعض الدوائر علي مرشح واحد.. هو من رجال السلطة.. وإعادة التأمين لغيره من المرشحين.. وأصبح عدد من أعضاء مجلس الأمة بذلك القرار معينين أعضاء في المجلس.. ومن هؤلاء مجدي حسنين وكان قد رشح نفسه في دائرة قصر النيل.. ورشح الصحفي موسي صبري نفسه عن نفس الدائرة.. ودارت بين الاثنين معركة حامية أكد الخبراء وتقارير استطلاع الرأي العام أن الفوز فيها محقق لموسي صبري. دخل مجدي حسنين المعركة الانتخابية ورصيده في الدعاية أنه مؤسس مديرية التحرير.. وأقام اللافتات مكتوبا عليها (انتخبوا مجدي حسنين الذي أنشأ مديرية التحرير). وكانت الشائعات بدأت تلاحق مديرية التحرير والحديث عن المبالغ الطائلة التي قيل إنها تنفق عليها وأغلبها يدخل بعض الجيوب الخاصة.. واستغل موسي صبري ذلك فأقام اللافتات مكتوبا عليها (انتخبوا موسي صبري الذي لم ينشيء مديرية التحرير).. وأثارت لافتاته ثورة عبدالناصر وكراهيته لأنه تجرأ وهاجم واحدا كان يعتبره عبدالناصر من أخلص المخلصين له.. وكان أن أصدر قراره بإغلاق بعض الدوائر علي مرشح واحد.. وطبعا كان مجدي حسنين هو المرشح الوحيد الذي بقي في الدائرة. البغدادي رئيسا للمجلس وهكذا كانت بداية الديمقراطية المزيفة.. وتم انتخاب أول مجلس للأمة.. وكان هناك اتفاق مسبق أن يتولي عبداللطيف البغدادي رئاسة المجلس. يقول حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الثورة: ( إنه بعد حل مجلس الثورة في يونيو سنة 6591قررنا أنا وجمال سالم والبغدادي وكمال الدين حسين الابتعاد نهائيا عن الحياة السياسية.. إلا أن البغدادي وكمال حسين رأيا أن يبقيا اعتقادا منهما أن بإمكانهما مقاومة الفردية في الحكم التي بدأت ملامحها تظهر وصورتها تتضح بعد أزمة مارس 4591 وإقالة محمد نجيب بعد ذلك وانفراد عبد الناصر برئاسة الجمهورية والوزارة ومجلس قيادة الثورة.. بينما آثرت أنا وجمال سالم الابتعاد نهائيا.. إلا أن عبدالناصر بعد ذلك رأي أن أتولي رئاسة المؤسسة الاقتصادية.. فقبلت علي أساس أن عملي فيها يهدف إلي رفاهية البلد وبعيدا عن السياسة. وبدأ مجلس الأمة أولي جلساته.. وقال عبد اللطيف البغدادي: إنني كنت قد عاهدت نفسي أن أجعل من هذا المجلس مجلسا حقيقيا في مراقبة السلطة التنفيذية وإصلاح مابدأ يظهر من فساد في بعض النواحي.. قررت أن أساعد علي إعطاء الحرية لكل عضو يقول ما يشاء مادام فيه مصلحة الوطن أولا وأخيرا. وبدأت أولي الأزمات.. الاصطدام بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية علي شكل سؤال وجهه العضو عبدالمجيد عامر عن استصلاح الأراضي وتناولت مناقشة السؤال مديرية التحرير والتصرفات المالية المشبوهة التي تتم فيها والاعتمادات الكبيرة التي تنفق ولا تؤدي إلي ثمار. وانتهت مناقشة السؤال إلي اتخاذ قرار بتشكيل لجنة تحقيق تنتقل إلي مديرية التحرير وتقدم تقريرها بعد عودة المجلس من إجازته في نوفمبر 7591. شراء أعضاء المجلس! وفي خلال الإجازة نشر في الصحف خبر صغير يتضمن أنه تم تعيين ثلاثة من أعضاء مجلس الأمة كمستشارين في مديرية التحرير.. ولم يذكر في الخبر أسماء الأعضاء الثلاثة. وفي نفس اليوم جاء إلي مكتبي بمجلس الأمة سيد جلال عضو المجلس عن دائرة باب الشعرية وقال لي: - مجدي حسنين بدأ يشتري أعضاء المجلس.. تعيينه أعضاء المجلس في مديرية التحرير ماهو إلا رشوة لشراء صمت المجلس وأنا سأقدم سؤالا في أول جلسة بعد عودة المجلس من إجازته. ورددت عليه: - إن هذا من حقك.. فأنت تمثل الشعب.. ومادمت تري أي انحراف فواجبك أن تقاومه وتكشفه. وخرج سيد جلال من مكتبي وأحسست ببوادر أول أزمة.. فأنا أعلم أن عبدالناصر يحمي مجدي حسنين.. والهجوم علي مجدي وكشف ما تردد من تلاعب في أموال مديرية التحرير سيؤدي إلي أزمة مع عبدالناصر.. ولكنني كنت عند عهدي الذي اتخذته بيني وبين الله ألا أحجر علي كلمة تقال في سبيل الوطن. واقترب موعد افتتاح الدورة البرلمانية.. يوم 4 نوفمبر سنة 1957.. وقبل الافتتاح مباشرة تلقيت طلبا موقعا عليه من عشرة من الأعضاء لإسقاط العضوية فورا عن أربعة أعضاء هم: مجدي حسنين بصفته المسئول الأول عن المساس بكرامة أعضاء المجلس ومحاولته التأثير عليهم بتعيينه ثلاثة من أعضاء المجلس هم: محمود القاضي وأحمد شفيق أبو عوف وإسماعيل نجم مستشارين في مديرية التحرير بأجر.. وقبل الجلسة أيضا تلقيت خطابا من رئيس لجنة الصناعة تضمن أن مانشرته الصحف من تلميح عما وراء تعيين أعضاء بالمجلس في مديرية التحرير بعد إحالة موضوعها إلي لجنة تقصي الحقائق فيه مساس بكرامة أعضاء الجلسة.